عوده: أملنا أن يكون العام القادم عام ولادة جديدة للبنان جديد
بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عوده العظة التّالية:
"أحبّائي، فيما يحتفل العالم ببداية عام ميلاديّ جديد، تحتفل كنيستنا المقدّسة بذكرى ختانة السّيّد، وعيد القدّيس باسيليوس الكبير رئيس أساقفة قيصريّة كبّادوكيا.
بميلاده، ارتضى المسيح أن يتّخذ ما للبشر بتمامه، ما عدا الخطيئة، لكي يخلّص الإنسان بتمام بشريّته. لذا تنازل وخضع لنواميس البشر، ومنها الختان. وبإتمامه هذا النّاموس كان المسيح يطيع الشّريعة الّتي أعطاها الله الآب للآباء الأقدمين، خصوصًا لإبراهيم عندما قال له: "يختن منكم كلّ ذكر... فيكون علامة عهد بيني وبينكم. إبن ثمانية أيّام يختن منكم كلّ ذكر في أجيالكم: وليد البيت، والمبتاع بفضّة من كلّ ابن غريب ليس من نسلك. يختن ختانًا وليد بيتك، والمبتاع بفضّتك، فيكون عهدي في لحمكم عهدًا أبديًّا. أمّا الذّكر الّذي لا يختن، فتقطع تلك النّفس من شعبها. إنّه قد نكث عهدي" (تك 17: 10-14).
باقتباله الختان، ساوى المسيح نفسه مع جميع فئات الشّعب، مع ابن البيت، ومع العبد المبتاع بالمال، لكي يعلّمنا أن نتعامل مع الجميع بالمحبّة ذاتها، من دون تفرقة. كما علّمنا بفعل الختان أن نطيع الله الآب، ولا ننكث عهده، لأنّنا بأمانتنا للعهد معه نحفظ أنفسنا بين يديه، وتحت ظلّ جناحيه، ونكون بكلّيّتنا له وحده. هل يهتمّ الرّبّ لقطعة لحم بشريّ لا نفع لها إن قطعت أو بقيت؟ طبعًا لا. الأهمّ لدى الرّبّ أن تكون قلوب البشر لحميّةً، لا حجريّةً، لذلك يقول في سفر تثنية الاشتراع: "فاختنوا غرلة قلوبكم، ولا تصلّبوا رقابكم بعد" (10: 16). لكنّنا نعاين يوميًّا كم يستطيع الإنسان أن يكون قاسيًا، متحجّر القلب تجاه أخيه الإنسان، وأن يتعامل معه بعدم رحمة أو قلّة محبّة.
القدّيس باسيليوس الكبير كان مثالًا في المحبّة والتّواضع والخدمة، حتّى إنّه رقد في سنّ مبكرة بسبب تعب جسده النّاتج عن خدمة الآخر وتأمين الأفضل له. لم يعرف القدّيس باسيليوس الرّاحة لأنّه شاء إراحة المرضى والمتعبين والجياع والعراة والمسافرين. لم يهتمّ بنفسه اهتمامه بكلّ آخر، حتّى إنّه عندما اضطهد قال للإمبراطور مودستوس: "لا يمكنك أن تصادر مقتنياتي لأنّي لا أملك شيئًا، إلّا إذا كنت تريد ثوبي العتيق هذا، أو الكتب القليلة الّتي في مكتبتي. والنّفي بم يضيرني؟ حيثما حللت فالأرض لله. والتّعذيب لا ينال منّي لأنّ ليس لي بعد جسد يحتمل التّعذيب. ضربة واحدة ويأتيني الموت. أمّا الموت فمرحبًا به لأنّه يأتي بي سريعًا إلى حضرة الله المباركة. وإنّني لأحسب نفسي ميتًا وأتعجّل الوصول إلى القبر". لقد أفنى القدّيس باسيليوس جسده من أجل خلاص أخيه الإنسان، تمامًا كما فعل معلّمه المسيح الّذي لم يأنف من ختانة جسده، ولا من بذل دمه على الصّليب في سبيل إيصال الجميع إلى الأحضان الأبويّة.
لقد حدث الختان في اليوم الثّامن بعد ميلاد المسيح، وما اليوم الثّامن في لاهوتنا سوى إشارة إلى البداية الجديدة، والقيامة، والحياة الأبديّة. من هنا ارتباط هذا العيد مع بداية السّنة الزّمنيّة، إذ علينا أن نحافظ على العهد مع الرّبّ، ونختن قلوبنا، ونقوم من موت خطايانا، حتّى نكون أبناء الحياة الأبديّة، أبناء القيامة الّتي أرسى المسيح أسسها مذ تصوّر في أحشاء والدته العذراء الكلّيّة القداسة.
يا أحبّة، نحن على أعتاب سنة جديدة سوف نصلّي بعد قليل لكي تكون "سنة خير ورفاه ... وأن يوطّد الله روح السّلام في العالم أجمع ... ويحفظ هذه المدينة وسائر المدن والقرى من الجوع والوباء والزّلازل... ومن غارات القبائل الغريبة والحروب الأهليّة والميتات الفجائيّة...". نحن نستقبل السّنة الجديدة براحة مصحوبة بالقلق، راحة من أثقال العام الماضي ومآسيه، وقلق على المستقبل الّذي نرجو أن يكون، بمشيئة الله، مشرقًا.
لقد أعطيت لنا فرص كثيرة، في هذا البلد، لانطلاقة جديدة وحياة أفضل، لكنّ قادة هذا البلد رفضوا اغتنامها، فوصلت بنا الحال إلى الأسوأ. بعد أيّام، تأتي فرصة أخرى طال انتظارها: اجتماع نوّاب الأمّة لانتخاب رئيس نأمل أن ينتخب بإرادة لبنانيّة، وقناعة لبنانيّة بشخصه وكفاءته، وأن يكون مترئّسًا بحسب قلب الله، وأن يكون قلبه على لبنان، لا مصالح شخصيّةً ضيّقةً له، ولا ارتباطات تعيق أمانته لبلده، فينقل هذا البلد الجريح إلى برّ الأمان، عبر إرساء مبدأ العدالة، وخضوع الجميع للقانون، ومحاسبة كلّ مقصّر، كائنًا من كان، وإعادة الهيبة للدّولة، وترميم قنوات التّواصل مع الدّاخل والخارج، مرمّمًا الصّورة المشوّهة الّتي رسمها المسيئون إلى وطننا الحبيب. نأمل أن يكون الرّئيس الجديد غربالًا لا يمرّ عبره أيّ سوء أو فساد، إنسانًا يقف الوقفة الشّجاعة في وجه كلّ مخطئ، على مثال القدّيس باسيليوس، خادمًا للشّعب لا متسيّدًا عليه، عاملاً بما يمليه عليه ضميره، ومؤمنًا أنّ الله الّذي يرى في الخفاء يجازي علانيّةً (متّى 6: 4).
ولكي يسير البلد نحو النّور، لا يكفي أن يكون هناك رئيس ومجلس وزراء وبرلمان، بل الدّور الأهمّ هو للشّعب الّذي يعوّل على وعيه ومحبّته لأرضه، وهذا يبدأ من عدم رمي القاذورات في الشّوارع، مرورًا بمحبّة البيئة والطّبيعة، وصولًا إلى احترام القوانين، ومحاسبة المسؤولين، ومحبّة كلّ مواطن لأخيه المواطن من دون تفرقة على أساس الدّين والمذهب والانتماء. لقد خلقنا الله على صورته ومثاله، وما يميّز لبنانيًّا عن الآخر هو حسّه الوطنيّ الصّادق، وإيمانه ببلده، وإخلاصه له. متى وصلنا إلى هذه المرحلة، يمكننا أن نطمئنّ على مستقبل لبناننا الحبيب.
لقد كان العام المنصرم حافلاً بالمتغيّرات والأحداث والحروب والاغتيالات، وكان لبنان ساحةً لتصفية الحسابات وإشهار المواقف. أملنا أن يكون العام القادم عام ولادة جديدة للبنان جديد، بعد إجراء قراءة متأنّية لما حصل في العام الماضي، واتّخاذ العبر. وأوّل خطوة تكون بالانتقال من لبنان السّاحة إلى لبنان الدّولة الّتي يحكمها الدّستور والقانون، واقتناع الجميع أنّ لا ملجأ لهم إلّا الدّولة، وأنّ الانتماء إلى الطّائفة يأتي بعد الانتماء للوطن. على اللّبنانيّ أن يفتخر بانتمائه إلى لبنان، وأن يعي مسؤوليّته تجاه وطنه. وعلى الدّولة أن تعي واجباتها تجاه مواطنيها، وأن تؤمّن لهم الاستقرار والأمان، وتعمل على تحفيز الإنتاج وتشجيع المبادرات، والاعتماد على سواعد اللّبنانيّين وأدمغتهم عوض استجداء المساعدات. اللّبنانيّ إنسان مبدع وخلّاق، وهو قادر على النّهوض ببلده وإنعاش اقتصاده وإنماء مناطقه متى تأمّنت الأجواء المريحة له. ما على الدّولة إلّا أن تستعيد هيبتها وتسترجع ثقة الدّاخل والخارج بها، وتترك أبناءها للعمل والإبداع.
في هذا اليوم المبارك، لنجدّد العهد مع الرّبّ، خاتنين قلوبنا، واضعين إيّاها بين يديه، علّنا نصل إلى القداسة الّتي نشتهيها، آمين".
وفي نهاية القداس، صيّر المتروبوليت عوده الأب سلوان عبيد أبًا روحيًّا.