لبنان
13 كانون الثاني 2025, 06:55

عوده: أملنا أن يكون الرّئيس الجديد رئيسًا استثنائيًا في هذه الظّروف الاستثنائيّة

تيلي لوميار/ نورسات
هنّأ متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده اللّبنانيّين بانتخاب رئيس جديد بعد فراغ عقيم، آملًا "أن يتاح له تطبيق كلّ ما تعهّد به في خطابه وأن يبني، مع حكومته، دولةً عصريّةً، عادلةً، قويّةً"، وأن يحافظ على تواضعه وقيمه وشجاعته وعلى وصيّة الرّبّ: "إن أراد أحد أن يكون الأوّل فليكن آخر الكلّ وخادمًا للكلّ" (مر 9: 34).

كلام عوده جاء خلال عظة قدّاس الأحد الّذي ترأّسه في كاتدرائيّة مار جاورجيوس- وسط بيروت، وقال فيها: "أحبّائي، إنّ الإنسان كائن اجتماعيّ يسعى في علاقاته الاجتماعيّة لأن يشكّل وحدةً مع من يعيش معهم، بناءً على معتقد مشترك أو أفكار مشتركة. إلّا أنّ ذلك يصطدم غالبًا بأنانيّته من جهة، وبالتّنوّع من جهة أخرى. الأنانيّة تفرض وحدةً على قياسها، أمّا التّنوّع فيصعّب عمليّة الوحدة لما يفرضه من انسجام بين مكوّنات المجتمع المتنوّعة. يحصل هذا الأمر أيضًا في الكنيسة الّتي هي مجتمع من نوع خاصّ. في رسالة الرّسول بولس إلى أهل أفسس، الّتي سمعنا اليوم مقطعًا منها (4: 7-13)، يطرح الرّسول هذا الموضوع من منظار وحدانيّة الإيمان. نسمع الرّسول يقول قبل مقطع اليوم: "مجتهدين أن تحفظوا وحدانيّة الرّوح برباط السّلام. جسد واحد، وروح واحد، كما دعيتم أيضًا في رجاء دعوتكم الواحد. ربّ واحد، إيمان واحد، معموديّة واحدة، إله وآب واحد للكلّ، الّذي على الكلّ وبالكلّ وفي كلّكم" (4: 3-6)، ثمّ يختم بقوله: "إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانيّة الإيمان ومعرفة ابن الله. إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح" (4: 13).  

إذا كان الهدف من الوحدة المجتمعيّة أن يعيش النّاس بانسجام وتناغم، فإنّ الهدف من وحدة الإيمان أن يصل الإنسان إلى قامة ملء المسيح. وبما أنّ كلّ مؤمن عضو في جسد المسيح- الكنيسة، فإنّ كماله يؤدّي إلى بنيان هذا الجسد. لذلك، يتعاضد أعضاء الجسد الواحد للوصول إلى الهدف، كلّ من موقعه، بناءً على ما يعطيه الله هبةً لكلّ من أعضاء هذا الجسد، كما سمعنا اليوم أنّه "أعطى البعض أن يكونوا رسلًا، والبعض أنبياء، والبعض مبشّرين، والبعض رعاةً ومعلّمين، لأجل تكميل القدّيسين لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح" (4: 11-12).  

لا تتحقّق الوحدة بوحدة الأفكار والمواقف فقط، بل تستلزم سلوكًا يتوافق مع الأفكار. فمن يقبل الله عليه أن يسلك بحسب وصاياه، لهذا يدعو الرّسول سامعيه لأن يكون سلوكهم قائمًا على المحبّة قائلًا: "محتملين بعضكم بعضًا في المحبّة" (4: 1-2).  

إختلاف البشر لا يشكّل عائقًا عمليًّا أمام تحقيق الوحدة. يشرح الرّسول بولس ذلك من خلال المقارنة مع الجسد البشريّ، إذ يطلق على الكنيسة تسمية "جسد المسيح" (4: 12). فإنّ ما يوحّد الجسد رغم تعدّد الأعضاء هو الرّأس الّذي يعطي الأوامر لتشغيل الأعضاء. فلكي يكون الجسد كاملًا، على كلّ عضو القيام بوظيفته على أكمل وجه. الحال مماثلة في الكنيسة، حيث يمنح الله كلّ عضو موهبةً عليه تفعيلها لتحقيق كمال الجسد.  

تنوّع المواهب يعطي انطباعًا عند المؤمنين بأنّ هناك تمييزًا بينهم، لأنّ هبات تظهر كأنّها أهمّ من غيرها. هذا طبيعيّ لأنّ النّاس لم يخلقوا متشابهين. غير أنّ هذا التّميّز له هدف في تدبير الله، لأنّه يفرض على من عندهم هبات أهمّ، أن يهتمّوا بمن لهم هبات أقلّ أهمّيّة. يشير الرّسول بولس إلى هذا الأمر في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، خلال حديثه عن علاقة أعضاء الجسد ببعضها قائلًا: "إنّ الجسد ليس عضوًا واحدًا بل أعضاء كثيرة. فإن قالت الرّجل: لأنّي لست يدًا، لست من الجسد. أفلذلك ليست من الجسد؟ وإن قالت الأذن: لأنّي لست عينًا لست من الجسد. أفلذلك ليست من الجسد؟ لو كان الجسد كلّه عينًا، أين كان السّمع؟ ولو كان كلّه سمعًا أين كان الشّمّ؟ والحال أنّ الله قد وضع الأعضاء كلًّا منها في الجسد كما أراد. ولو كانت كلّها عضوًا واحدًا أين كان الجسد؟ والحال أنّ الأعضاء كثيرة والجسد واحد... لكنّ الله مزج الجسد حتّى يخصّ العضو النّاقص بكرامة أعظم لئلّا يكون في الجسد شقاق، بل يكون للأعضاء اهتمام واحد بعضها ببعض. فإذا تألّم عضو تألّم معه سائر الأعضاء، وإذا أكرم عضو فرح معه سائر الأعضاء" (12: 14-26).  

دعوتنا اليوم أن نعرف أهمّيّتنا في جسد الكنيسة كما في نسيج الوطن، إذ ليس أحد بلا أهمّيّة، كما يجب ألّا يكون أحد مهمّشًا أو مستصغرًا، لأنّ للصّغير دوره ومواهبه تمامًا كالكبير. لذا، علينا أن نعي قيمتنا الّتي منحنا إيّاها المسيح وأكّد عليها بتجسّده وموته وقيامته من أجلنا.  

يا أحبّة، أعضاء وطننا كلّها مرّت بتجارب وآلام وشدائد، وقد تعب اللّبنانيّون ممّا عانوه خلال السّنين الماضية، لكنّه بات الآن للبنان رئيس بعد فراغ عقيم دام لأكثر من سنتين، وتسلّل الأمل إلى نفوس اللّبنانيّين الّذين يعلّقون الآمال على الرّئيس الجديد الآتي من مؤسّسة تنشئ رجالها على حبّ الوطن والتّضحية من أجله بلا حساب. فهنيئًا للّبنانيّين برئيسهم الجديد الّذي نسأل الله أن يوفّقه في مهمّته الجديدة، ويرافقه في كلّ عمل صالح يقوم به من أجل خير لبنان وبنيه.  

أملنا أن يكون رئيسًا استثنائيًّا في هذه الظّروف الاستثنائيّة، وأن يرسي نهجًا جديدًا في الحكم يقوم على النّزاهة، والشّفافيّة، والمحاسبة واعتماد الكفاءة، وإبعاد لبنان عن سياسات المحاور، واحترام القوانين وتطبيقها على الجميع. أملنا أن يتاح له تطبيق كلّ ما تعهّد به في خطابه وأن يبني، مع حكومته، دولةً عصريّةً، عادلةً، قويّةً، تقتلع الفساد من نفوس الفاسدين، والشّرّ من قلوب الحاقدين، تفرض نفوذها على الجميع، وتعيد للقضاء هيبته وللعدالة مكانتها وللدّستور حرمته، فلا يعود مجال لبعض مدّعي السّيادة والحرص على الدّستور أن ينصّبوا أنفسهم حماةً للدّستور بعد أن تجاهلوه وتجاوزوه وشوّهوه واقترفوا بحقّه المحرّمات. أملنا ألّا ينسى وصيّة الرّبّ القائل: "إن أراد أحد أن يكون الأوّل فليكن آخر الكلّ وخادمًا للكلّ" (مر 9: 34) وأن يحافظ على تواضعه وعلى القيم الّتي نشأ عليها، وعلى الشّجاعة الّتي عرفناها فيه، فيحكم بالعدل ويلتفت إلى قضايا النّاس ويسمع أنينهم ولا يتغاضى عن آلامهم.  

فلنرفع الصّلاة معًا من أجل أن يحفظ الرّبّ الإله لبنان ورئيسه وشعبه، وأن يلهم الرّئيس ومعاونيه لكي يبدأوا مسيرة الإصلاح بثبات ويعيدوا لبنان درّة هذا الشّرق وفخره، آمين."