عوده: أملنا أن يعي الجميع دقّة الوضع وأن يبذلوا كافّة الجهود من أجل انتخاب رئيس
"أحبّائي، نرى في الرّجل الّذي تسكنه الشّياطين من زمان طويل، وفي أهل كورة الجرجسيّين، أسلوبين مختلفين لمواجهة شخص المسيح. الأوّل، بعد حصوله على الشّفاء جلس لابسًا، عاقلًا، قرب الرّبّ، راغبًا في اتّباعه، أمّا الآخرون فحالما رأوا الّذي شفي، وعلموا كلّ ما حدث، خافوا وطلبوا من المسيح الابتعاد عن ديارهم. هذا الحدث العجيب يدلّ على قوّة المسيح ومحبّته لجبلته البائسة، وما أحدث من ردود مختلفة.
الإختلاف في ردّات الفعل يوضح لنا بعض الحقائق الأساسيّة: فهو يظهر لنا كيف أمسى الإنسان، في سقوطه، أكثر خلائق الله عجبًا وتناقضًا، كما يبيّن أنّ كلّ إنسان فريد من نوعه، لا مثيل له، وحرّ في اختياراته.
إنّ الالتصاق بالمسيح أو إنكاره خياران مطروحان إزاءنا بفضل الحرّيّة الممنوحة لنا. لو شئنا أن نكون أكثر دقّةً، لقلنا إنّ حرّيّتنا تكمن في هذين الخيارين. المسيح يشمل الخليقة كلّها، لذلك ترتبط اختياراتنا الحاسمة المصيريّة بشخصه. رفض المسيح، بغضّ النّظر عن أسبابه، هو من الوجوه السّلبيّة لحرّيّتنا. الّذين يختارون هذا الموقف هم الباردون الّذين يقيمون خارج جسده، أيّ الكنيسة، بسبب جحودهم. هؤلاء تؤول مسيرتهم إلى كارثة، لكنّ المسيح لا يريد أن يغيّر، بسلطته، اختيارهم، لأنّه يحترم حرّيّتهم ولا يغصبها، كما نحن لا نستطيع أن نغصب حرّيّته.
حرّيّة الخيار ليست علامة الكمال، بل دليل على عدم الكمال. وفقًا لآبائنا القدّيسين، الإنسان الحرّ هو الّذي وحّد مشيئته بمشيئة الله. هذا صار مسكنًا لله، ثمّ، بفضل حياة النّعمة، تجاوز حدود الولادة والموت، اللّذين يعيقان حرّيّة الإنسان. أمّا التّردّد قبل الاختيار فيدلّ على أنّنا لم نكتسب بعد معرفةً واضحةً للخير. طبعًا، في غياب حرّيّة الاختيار لا نصل إلى كمال الحرّيّة. بالحرّيّة الّتي تتّخذ المحبّة محرّكًا ومقياسًا نختار مشيئة الله ونتّحد به. الحرّيّة من دون محبّة هي كارثة. نحن نحبّ المسيح ونسمع كلمته، وإذا لم نحبّه حقيقةً لا نقدر أن نتبعه. إذا فهمنا وصاياه كمجرّد تهديد لراحتنا الجسديّة، ولم نر فيها موهبة النّعمة والتّحرّر من سلطة الخطيئة، نبتعد عن شخصه وعن كلمته. نطلب، مثل أهل كورة الجرجسيّين، أن ينصرف عنّا لأنّ خوفًا عظيمًا اعترانا إزاء كلمته الّتي هي أمضى من سيف ذي حدّين.
تكمن دينونة العالم في خياراته. نحن نختار مصيرنا في الحياة الأبديّة، أيّ الاشتراك في النّور أو رفضه، من خلال طريقة حياتنا وقناعاتنا الفكريّة. يقول الرّبّ في إنجيل يوحنّا إنّ سبب إدانة الجاحدين هو أنّ النّور، أيّ المسيح، جاء إلى العالم لكنّ النّاس أحبّوا الظّلمة أكثر منه لأنّ أعمالهم كانت شرّيرة (3: 19).
هذا الجحود نراه في اختيار أهل كورة الجرجسيّين. ما من سبب آخر لهذا الخيار سوى أنّ أعمالهم كانت شرّيرة. كانوا يرعون الخنازير، وبهذا تعدّوا النّاموس الّذي منع تناول لحم الخنازير. الرّعاة، قادة العصيان، أخبروا سكّان المنطقة بالعجيبة. أضحى الرّجل المخيف، الذي كان مسكونًا بالشّياطين، كحمل بريء، أمّا زمرة الشّياطين فدخلت في قطيع الخنازير واختنقت في المياه. لم يفرح السّكّان بشفاء إبن بلدهم، بل اعتراهم خوف عظيم ناتج عن تعدّيهم للنّاموس. لم يترك هذا الرّعب مكانًا للفرح بالانعتاق من الخوف، لأنّ المعصية خلخلت مقاييس نفوسهم، وخافوا سلام المسيح أكثر ممّا كانوا يخافون المجنون. أتى سلام الرّبّ إلى كورتهم، مزيلًا عوارض الخوف وأسبابه، لكنّهم أحبّوا علّة الشّرّ كثيرًا، فلم يحتملوا توبيخه.
الإيمان هبة من الله، لكنّه أيضًا فضيلة يزرعها الله فينا، ولكي يثمر يتطلّب استجابة حرّيّتنا. الإيمان لا يفرض، وهو يحرّر ويشفي، ويعتق من أسر الشّيطان والمادّة. لقد زرع الله الإيمان في الممسوس لكي يعتقه من سلطة الشّياطين. كان شفاؤه دعوةً من الله وجدت تجاوبًا في استعداده التّامّ. جلس عند قدميّ الرّبّ وطلب إليه أن يتبعه. كان مربوطًا بسلاسل الشّيطان، أمّا الآن فهو مربوط بمحبّة من شفاه، المسيح الّذي خلّصه لكنّه لم يستعبده، بل طلب منه أن يرجع إلى بيته. لم يستغلّ عرفانه بالجميل ولا حماسته ليضيف تلميذًا آخر إلى أتباعه، كما يفعل الزّعماء الأرضيّون. أرسله إلى بيته لأنّ في ذلك خلاصًا لنفسه ولأقاربه وأهل كورته. أوصاه بأن يحدّث بما فعله الله به، جعله رسولًا مبشّرًا بمحبّته. هذه الوصيّة يطيعها قدّيسو الكنيسة عندما يتكلّمون إلى النّاس. لا يتحدّثون عن مفاهيمهم وفلسفاتهم الخاصّة، بل يخبرون كيف يشفي الله الإنسان ويعتقه من سلطة الخطيئة، وكيف يجعله قادرًا على الاتّحاد به، لعلّه يصبح أخًا للمسيح ووارثًا له، أيّ حرًّا بالحقيقة.
يا أحبّة، كما يثور الإنسان على الخطيئة ومسبّبها، فيتحرّر، هكذا ثار اللّبنانيّون كي يتحرّر بلدهم، بثورة شعبه، ممّن يستعبد المواطن ويكبّله بسلاسل الأزمات والذّلّ والظّلم والتّبعيّة. مرّت السّنوات على ثورة صارت ذكرى، لأنّ المواطن شغل بأمنه الصّحّيّ والغذائيّ والاقتصاديّ، فنسي المطالبة بالحرّيّة، والثّورة على المستعبدين.
الصّراع السّياسيّ، والتّنافس على اغتنام الفرص من أجل تحقيق المصالح، والسّجالات العقيمة، كلّها أوصلتنا إلى هذا الاهتراء في المؤسّسات وفي الأخلاق. ويعود الحديث عن إمكانيّة الوصول إلى الشّغور في سدّة الرّئاسة وكأنّه أمر مقبول. هذا الوضع، إن دلّ على شيء فعلى تقصير المجلس النّيابيّ، وعلى جفاف الممارسة السّياسيّة وتراجعها، ومحو صورة لبنان الدّيمقراطيّ المشرقة الّتي كان عليها في غابر الأيّام. ماذا يمنع انتظام الحياة الدّيمقراطيّة، وسيادة الدّستور على الحياة السّياسيّة، وتداول السّلطة في الأوقات المحدّدة، دون خضّات أو تأخير أو تعطيل؟ وكيف يوضع حدّ لقصر نظر الطّبقة السّياسيّة والتفاتها إلى مصالحها ومستقبلها السّياسيّ، عوض التّفكير بمستقبل البلد وأبنائه؟ هل يدركون أنّ الأشهر أو السّنين الّتي ضاعت وتضيع قبل انتخاب رئيس أو تشكيل حكومة هي دهور تشدّ هذا البلد، الّذي كان ديمقراطيًّا وراقيًا ومتطوّرًا، إلى الوراء؟
مؤسف التّسليم بالفراغ والتّهديد بما هو أبعد من الفوضى الدّستوريّة والاجتماعيّة، وكأنّ هذه الفوضى ستطال فئةً دون أخرى، أو ستؤذي مصالح فئة دون أخرى. أليست الفوضى كارثةً على كلّ البلاد وكلّ المواطنين؟ وماذا نجني من الفوضى سوى المزيد من الفقر والجوع والبؤس واليأس والخراب؟ لذلك تقع على النّوّاب مسؤوليّة كبيرة، إن أحجموا عن القيام بها يكونون كمن ينحر وطنه، وإن كانوا واعين خطورة الوضع، فليغلقوا على أنفسهم في قاعة المجلس ولا يخرجوا منها قبل انتخاب رئيس.
أملنا أن يعي الجميع دقّة الوضع، وأن يبذلوا كافّة الجهود من أجل انتخاب رئيس دون مماطلة أو تعطيل.
دعوتنا اليوم هي إلى التّحرّر من جميع أنواع الشّياطين الّتي قد تجتهد في استعبادنا، وأن نبادر إلى الجلوس عند قدميّ الرّبّ، نسمع كلامه، وأن نسرع إلى التّبشير بما فعله لنا من العظائم، آمين."