لبنان
01 آذار 2021, 08:15

عوده: ألا يقضّ مضاجعكم أنين اللّبنانيّين؟

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده قدّاس الأحد، ألقى خلاله عظة قال فيها:

"أحبّائي، بعدما سمعنا الأحد الماضي مثل الفرّيسيّ والعشّار، وتعلّمنا أهمّيّة التّواضع وعاينّا بشاعة الكبرياء، نسمع اليوم مثل الإبن الشّاطر، أو الإبن الضّالّ، الّذي طالب أباه بحصّته من الميراث، وذهب ليستمتع بملذّات الحياة، فجاع بسبب ابتعاده عن البيت الأبويّ، ولحاقه بالمادّيّات والوقتيّات الزّائلة.

مع بداية فترة التّهيئة للصّوم الأربعينيّ المقدّس، ترنّم كنيستنا المقدّسة ترتيلة: "إفتح لي أبواب التّوبة يا واهب الحياة، لأنّ روحي تبتكر إلى هيكل قدسك، آتيًا بهيكل جسديّ، مدنّسًا بجملته، لكن بما أنّك متعطّف نقّني بتحنّن مراحمك"، تتبعها ترتيلة: "سهّلي لي مناهج الخلاص، يا والدة الإله، لأنّي قد دنّست نفسي بخطايا سمجة، وأفنيت عمري كلّه بالتّواني، لكن بشفاعاتك نقّيني من كلّ رجاسة". تحمل هاتان التّرنيمتان المعنى الأعمق للصّوم، والّذي تهيّئنا له هذه الآحاد الأربعة. التّواضع لا يكتمل إلّا بوجهه العمليّ، أيّ بالتّوبة والشّعور بأنّنا قد عصينا الله ووصاياه، والعودة إليه بثقة تامّة برحمته العظمى. هذا ما فعله الإبن الضّالّ بعدما أفنى عمره بأدناس الجسد، ثمّ استفاق من سبات الخطيئة لا بل موتها، بعدما فقد كلّ شيء، وقرّر العودة إلى والده، لا كإبن بل كعبد. ظنّ أنّ أباه سيتعامل معه مثلما تعاملت معه الخطيئة الّتي استعبدته، حين ظنّ أنّه أصبح سيّدًا بامتلاكه الأموال، لكنّه سرعان ما تحوّل إلى عبد للذّاته الّتي أنفق أمواله عليها. رحمة الأب حرّرت الإبن من نير عبوديّة الخطيئة، فعاد، بواسطة التّوبة، إبنًا يتمتّع بكامل صفات البنوّة، وكان ميتًا فعاش.

يقول الآباء القدّيسون إنّنا، لو فقدنا الكتاب المقدّس بأكمله، ولم يبق لدينا سوى مثل الإبن الشّاطر، لكان ذلك كافيًا لندرك مدى محبّة الله للبشر. يظهر لنا هذا المثل كيف يتصرّف البشر تجاه الرّبّ، مطالبين إيّاه دومًا بما يغتنون به، وعندما يحصلون على مرادهم ينسون الرّبّ. مع هذا، تبقى محبّة الله غير متبدّلة تجاه خليقته، مهما فعلوا، فيقبلهم مجدّدًا عندما يعودون إليه، مهما كان سبب عودتهم ومهما كانت خطيئتهم. إنّ عطف الله واستقامته وصلاحه وطول أناته لها غرض واحد هو قيادتنا إلى التّوبّة. يقول الرّسول بولس: "أم تستهين بغنى لطفه، وإمهاله، وطول أناته، غير عالم أنّ لطف الله إنّما يقتادك إلى التّوبة" (رو 2: 4). الله يحتملنا رغم أنّنا نحيا في التّهاون ولا نحسب لوجوده أيّ حساب، ويطيل أنّاته علينا، لكي يأتي بنا إلى التّوبة، كونه يريد خلاصنا. الله لا يريد أن يهلكنا كما يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ "لأنّه لو شاء ذلك لما كان أخبرنا عن طريق الخلاص، ولكان تركنا نعيش كما يحلو لنا، فنذهب أخيرًا إلى الهلاك".

لقد أسّس الرّبّ سرّ التّوبة والاعتراف، وسلّمه لتلاميذه، وقد وصل إلينا عبرهم. أسّس الرّبّ هذا السّرّ قبل أن يفتدينا بدمه على الصّليب، لأنّه يعرف أنّ الإنسان يجنح نحو الخطيئة، لذا أمّن لنا طريقًا للعودة، لكنّنا نتناسى وجوده أيضًا. التّوبة هي ركيزة الوصايا وجوهرها. صحيح أنّ هناك عدّة وصايا، إلّا أنّ جميعها موجود في التّوبة. يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس: "يوصينا الله بالتّوبة. فكما أنّ الله، عندما خلق الجبلة الأولى ووضعها في الفردوس، لم يعطها عدّة وصايا، إنّما وصيّةً واحدةً فقط، وقد عصت هذه الجبلة الوصيّة، هكذا بعد السّقوط يعطي الله البشر وصيّةً واحدةً هي التّوبة". يستحيل أن يبغض الإنسان أو يتكبّر أو يحقد وهو في حالة التّوبة، كما يستحيل ألّا يكون مسالمًا وألّا يساعد الآخرين. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: "إعترف واذرف الدّموع وتب وما تبقّى أهبك إيّاه أنا من خيراتي". يتّفق الكتاب المقدّس والآباء جميعًا على أنّ الإنسان لن يعاقب ولن يهلك لأنّه خاطئ، فالله يعلم ذلك وقد أتى ليخلّصنا. سيعاقب الإنسان لأنّه لم يتب في الوقت الّذي يمنحه الله فيه الغفران والخلاص.

يا أحبّة، مؤسف ومحزن أن يتعامى إنسان عن واجبه وعن مشيئة الله. أقول هذا فيما يعاني وطننا أزمةً لم يعرف مثيلاً لها في تاريخه، لكنّ المسؤولين فيه يتجاهلون الواقع المرير، ويعتمدون تدميرًا ممنهجًا لمفهوم الدّولة، بتقويض ثقافة الدّيمقراطيّة فيها، وعدم احترام الدّستور، وابتكار أسس جديدة تتماشى مع مصالحهم وتلبّي طموحاتهم. الشّعب يعاني من الوباء المتفشّي، ومن البطالة والجوع والعوز وهم يتنافسون على الهيمنة وتحصيل المكاسب وتقاسم منافع السّلطة. ويطالعوننا بشعارات ومحاضرات عن مكافحة الفساد واستعادة الحقوق وتحقيق العدالة. ألم يسمعوا أنّ المواطنين يريدون استرجاع حقوقهم منهم، واسترجاع السّلطة منهم، لأنّ اللّبنانيّين شبعوا شعارات ووعودًا، ويدركون أنّ الفساد لا يحارب بالشّعارات والخطابات إنّما بالأفعال، وأنّ حقوق المسلمين وحقوق المسيحيّين تكون بإعطاء اللّبنانيّين حقوقهم، وإعادة أموالهم دون تمييز بينهم، وببناء دولة قويّة عادلة لا تميّز بين مواطن وآخر بغضّ النّظر عن دينه وطائفته وانتمائه. حقوق اللّبنانيّين، مسيحيّين ومسلمين، تكون في بناء اقتصاد متين، وتطبيق الإصلاحات الضّروريّة من أجل إنقاذ الدّولة، وتحديث إدارتها، وتطهيرها من كلّ مستغلّ وفاسد، وفي تحصين القضاء، وإبعاد سلطة السّياسيّين عنه. لقد طالبنا منذ أسبوعين بانتفاضة القضاء على السّياسة، فإذا بالسّياسيّين ينقلبون على القضاء ويمعنون في غيّهم.

الكارثة الّتي حلّت بالعاصمة كانت كبيرةً جدًّا، وخلّفت مئات الضّحايا والجرحى وآلاف البيوت المنكوبة. ألا يحقّ للمواطن أن يطلب تفسيرًا؟ ألا يحقّ لذوي الضّحايا أن يطالبوا بالحقيقة؟ وأن يتوخّوا تحقيقًا شاملاً واضحًا لا يميّز بين المذنبين ولا يتستّر على أحد؟ ألا يحقّ لهم أن ينادوا أنّ لا كبير أمام القانون، وأنّ موقع أيّ مسؤول ليس أغلى من دم أبنائهم؟

يا أحبّة، من حقّ المفجوعين بفلذات أكبادهم أن يعرفوا الحقيقة. من حقّهم ومن حقّ أهل بيروت المقهورين أن يعرفوا من كان سبب الفاجعة الّتي ألمّت بهم. من حقّهم أن يعرفوا من استقدم المواد الّتي فجّرت بيوتهم وأبناءهم، ومن وافق على تخزينها في المرفأ سبع سنوات دون أن يؤنّبه ضميره، أو من تغاضى عن تخزينها، ومن قصّر في اتّخاذ الإجراءات أو تحمّل المسؤوليّة. لقد استبشروا خيرًا عندما عيّن محقق عدليّ استشفّوا من سلوكه عناد في العمل من أجل كشف الحقيقة، لكنّ خيبة الأمل لم تتأخّر إذ أبى من استدعوا من السّياسيّين إلى المثول أمامه الاستجابة لطلبه مستظلّين حصانتهم، وكأنّ الحصانة درع لحماية المذنب، أو كأنّ المركز، مهما علا، حصن له. ألا يخجل السّياسيّون من الاختباء وراء حصاناتهم؟ وأين حصانة المواطن المجروح أو المنكوب؟ أمّا البريء فلا يهاب شيئًا.

ولكي يعاقب السّياسيّون القاضي الّذي تطاول على حصاناتهم أقصوه، وكأنّ الحقيقة تقف عند خطوط حمراء لا يجوز تجاوزها. إن غابت العدالة في بلد انهار، لأنّ غياب القضاء العادل المستقلّ، يعني غياب المحاسبة. عندها تغيب الحقيقة والإصلاح ومكافحة الفساد، وتسود الفوضى، وتعمّ شريعة الغاب. هل يعاقب قاض قام بواجبه؟ هل يعقل السّكوت عن بركان على كتف العاصمة، فجّرها وفجّر أهلها؟ بعدما ضاع كلّ الوطن هل تريدون تضييع الحقيقة؟ أملنا أن لا يخشى المحقّق الجديد إلّا ربّه، وأن لا يجعل الصّغار فديةً عن الكبار. وطوبى للقاضي العادل الّذي يحكم بالحقّ ولا يسخّر ضميره مقابل مركز أو رشوة. أمّا إذا لم يتمكّن القضاء اللّبنانيّ من الوصول إلى الحقيقة، فلا نلومنّ اللّبنانيّين إذا تطلّعوا إلى الخارج.

إنّ السّياسة ليست طريقًا إلى الشّهرة أو الثّروة أو التّحكّم برقاب الشّعب وجني المكاسب، بل هي عمل شاقّ ومتعب، لأنّه يستنفد طاقات العقل والجسد من أجل الخدمة والخير العامّ. إنّ من اختار العمل في الوزارة أو النّيابة أو في أيّة وظيفة عامّة هو موظّف عند الشّعب، واجبه خدمة الشّعب لا استغلاله. لكنّ العمل في الحقل العامّ عندنا هو باب للاسترزاق واستغلال النّفوذ والتّحايل على الدّستور وعلى القوانين، وإلّا كيف دخلت المواد المتفجّرة إلى المرفأ، ولماذا تمييع التّحقيق؟ ولماذا يتمّ تعطيل المؤسّسات؟ ولم لم تشكّل حكومة وعدنا بها منذ أشهر وما زالت في غياهب المجهول؟

في العالم الرّاقي يستقيل المسؤول بعد فاجعة بحجم انفجار المرفأ، أو بعد خطأ أو تقصير أو فضيحة، أو عند عجزه عن القيام بواجباته الوطنيّة. ألا يحرقكم دم الطّفلة ألكسندرا، والشّاب الياس، ودماء رجال الإطفاء، ودماء الممرّضات وكلّ ضحايا الانفجار المجنون؟ ألا يخجلكم منظر أحياء بيروت المدمّرة؟ ألا يقضّ مضاجعكم أنين اللّبنانيّين؟ تتلهّون منذ شهور بجدالاتكم العقيمة، ومطالبكم وشروطكم، والبلد ينهار. هل فقدتم إنسانيّتكم؟ أليس في صدوركم قلوب تخفق وتتألّم وتدمى؟ عودوا إلى ضمائركم إن كان هناك من ضمير. عودوا عن أخطائكم.  توبوا إلى ربّكم.

الإنسان، حين يتوب حقًّا، يشعر بالسّعادة الّتي أحسّ بها الإبن الضّالّ عندما استقبله والده بفرح عظيم وذبح له العجل المسمّن. هل يرفض أحد سعادةً كهذه ويعود إلى ذلّ استعباد الخطايا؟ طبعًا، تكمن الصّعوبة في الخطوة الأولى الّتي على الإنسان القيام بها نحو الاعتراف بخطيئته، تمامًا مثلما حدث مع الإبن الأصغر في مثل اليوم، إلّا أنّه لمّا تجرّأ على العودة عاد سيّدًا.

يا أحبّة، سبب عذاب الإنسان ومأساته استعماله حرّيّته بشكل خاطئ، مريدًا أن يؤلّه ذاته ويتمرّد، ويأخذ ما يستطيع من الله مستعملاً إيّاه حسب رغبته ومشيئته، وفي النّهاية يصيبه الذّبول. الله ينتظر بشوق ومحبّة، لأنّه يحبّ خليقته ويريد خلاصها، لكنّه يحترم حرّيّة الإنسان ويتركه يتحرّك بحرّيّة تامّة، وبعد أن يمرّ الإنسان بصعوبات كثيرة، قد يعود إلى ذاته كما فعل الإبن الشّاطر، إلّا أنّ هذا لا يحدث دائمًا.

كلّ منّا هو شاطر أو ضالّ إلى حين مجيء السّاعة الّتي يرجع فيها إلى ذاته متذكّرًا نوعيّة الحياة بجانب الآب وبعيدًا عنه. عدّة أمور كانت لتعيق الإبن الشّاطر عن العودة، أوّلها الخجل. فقد رحل بوقاحة بعد أن طالب بحصّته من الميراث ولم يقم اعتبارًا لأبيه، فكيف يعود؟ عندما يرجع الإنسان إلى ذاته يتذكّر أنّ الله رحوم وعطوف وصالح وغفور يقبل الخطأة عندما يتوبون ويرجعون. لكنّ العودة يجب أن تكون بلا كبرياء أو تذمّر أو تبرير للذّات، بل بتواضع وإيمان.

الإبن الأكبر لم يرحل مثل أخيه، لكنّه لم يكن قرب أبيه حبًّا به، كما لم يشعر بمحبّته وحنانه. محزن أن تكون ملاصقًا لنبع المحبّة دون أن تشعر به. الإبن الأكبر لم يغادر، وفي الوقت عينه لم يرغب في عودة أخيه وتذمّر من معاملة الأب له. الأب لم يغضب من الولدين، بل قبل الصّغير، وشرح للكبير، كلّ ذلك تمّ مع احترام حرّيّة كلّ منهما، فدخل الضّالّ إلى الفرح، أمّا الّذي كان أصلاً يتمتّع بالفرح فأخرج نفسه خارجًا بسبب عدم محبّته لأخيه.

دعوتنا اليوم أن نثق بمحبّة الله الواسعة، وبرأفته العظيمة. علينا ألّا نخجل إذا سقطنا، بل علينا الإسراع في العودة بتوبة حقيقيّة وتواضع، والله سيكون منتظرًا إيّانا بشوق. علينا ألّا ندع اليأس يحبسنا خارج فرح البيت الأبويّ. إنّ أبواب الفردوس مفتوحة دائمًا أمام الجميع، وكلّ منّا حرّ في العودة والدّخول، أو في الخروج. لنتذكّر دومًا قول الآباء أنّ القدّيسين هم الخطأة التّائبون، ولنسع إلى القداسة سائرين في طريق التّوبة، آمين."