لبنان
26 تموز 2021, 06:30

عوده: ألا يدركون أنّ النّار الّتي ستأكل البلد ستحرقهم وسيكونون من ضحاياها؟

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عودة قدّاس الأحد، في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في بيروت.

وبعد الإنجيل المقدّس، قال عودة في عظته: "إنّ المجنونين، اللّذين صادفهما المسيح في كورة الجرجسيّين، خرجا من بين القبور وكانا شرسين جدًّا، عدائيّين وخطرين، حتّى إنّه لم يقدر أحد أن يمرّ من تلك الطّريق بسببهما. بدت على وجهيهما علامات عذاب الشّياطين، وقد سكنا القبور، الّتي هي رمز للموت. الشّيطان هو روح مميت، يعيقنا عن القيام بوصايا الله المحيية بحجج مختلفة، ويجذبنا إلى عمل الخطيئة المميت. حياة النّفس تكمن في الطّاعة لمشيئة الله. الطّاعة سرّ في حياة الكنيسة، سرّ لا يمكن أن يدركه، بسهولة، الإنسان المعاصر الّذي يفتخر بتنمية الفكر النّقديّ لديه. الطّاعة كناية عن انقياد نفسنا إلى حركتها الطّبيعيّة نحو الله، واسترجاع صحّتها. عندما لا نطيع مشيئة الله، نترك النّفس بلا شفاء، لأنّ الوصايا الإلهيّة تنمّي الفضائل الّتي تقودنا إلى الله، وعصيانها يسهّل عمل الأرواح الشّرّيرة. إذا، الخطيئة والأهواء، هي أبواب للشّياطين، لكي تستحوذ على الإنسان وتجعله شرسًا جدًّا. في هذه الحال، لا ينقذنا التّصنّع في التّصرّف، إذ لا يستطيع النّاس أن يقتربوا منّا. فحضورنا لا يريحهم، ولا يحرّرهم، بل يقيدهم وسط الاضطراب، والجوّ الخانق الّذي يخلقه تسلّط الأهواء على النّفس. إلّا أنّ بعض النّاس هم بركة من الله لأنّهم مهذّبون في القلب، يسكن الله قلوبهم الطّاهرة، وتنبع من كلّ كيانهم المحبّة الحقيقيّة والحرّيّة والرّاحة للّذين يقتربون منهم. إنّهم تمامًا بعكس الشّرسين جدًّا والمتصنّعين في تصرّفاتهم.

كثيرًا ما نسمع عن أناس يتعاملون مع الشّيطان، أو حتّى يعبدونه ويقربون له الذّبائح الحيوانيّة، أو حتّى البشريّة أحيانًا. وهناك أيضًا من يشجّع التّعامل مع الشّيطان من خلال الشّعوذة، أو تشجيع المتنبّئين الّذين يخرجون كلّ فترة بأخبار جديدة ويزرعون الرّعب في النّفوس بدل الطّمأنينة. حتّى عبادة الزّعماء هي نوع من الوثنيّة لأنّها قبول بالعبوديّة للمخلوق بدل الخالق.

إنّ انفصال الإنسان عن الله يتركه ضائعًا وسط أخطار كثيرة. يتأرجح في الفراغ، ويرغب في إيجاد سند يتّكئ عليه. يشغله المستقبل المجهول بشدّة، كما تشغله مشكلة المرض والألم والخوف من قوى الظّلام. في الوقت نفسه، في غياب الله، يشعر أنّ إرضاء أهوائه هو جمال الحياة الوحيد. فاللّذّة والمال، والقوّة والتّسلّط على الآخرين هي كلّها القوى المحرّكة لنشاطاته، بيد أنّ هذه الأمور كلّها ملوّثة بسمّ الرّيبة في اقتنائها وعبور فترة التّمتّع بها سريعًا. والشّيطان، كفكر معاد لله، يعد الإنسان باكتساب هذه المتع المخالفة للنّاموس، وبضمان استمرارها، وكم لدينا أمثلة في بلدنا، يسيرون بهدي الشّيطان، ظانّين أنّ التّمسّك بالمال والعروش والسّلطة دائم لهم فقط. من لم يتدرّب على النّظر إلى حياته من منظار جهاده الشّخصيّ وحرّيّته، تضلّله وعود الشّيطان بسهولة، لأنّه يحبّ الحلول السّريعة والمؤقّتة، على مثال كلّ الحلول الّتي شهدناها في هذا البلد.

إنجيل اليوم يظهر لنا جليًّا مدى جنون الشّيطان المدمّر، كما يدلّنا على ضعف الشّيطان أمام المسيح. فالشّيطان لا يحدّد مستقبل الإنسان، ولا يعرفه، حتّى إنّه لا يعرف مستقبله الشّخصيّ، لأنّه لو عرف أنّ الخنازير ستقفز في المياه وتموت، لما طلب الانتقال إليها. محبّة المسيح هي الّتي تحدّ من حرّيّة الشّياطين المدمّرة، وقد سمح لها الرّبّ بالدّخول في الخنازير ليدلّ على جنونها المدمّر. سمعنا في الإنجيل: "وإذا بقطيع الخنازير كلّه قد اندفع من على الجرف إلى البحر ومات في المياه". إنّ رعاية الخنازير كانت مخالفة للنّاموس، وقد حظرتها الشّريعة اليهوديّة، لكن الخنازير كانت بيئة تحبّها الشّياطين، إلّا أنّها احتاجت إلى إذن المسيح لتمكث فيها. إذا، ليس ممكنًا أن يجد الإنسان في الشّياطين أمانًا ولا ثباتًا، ولا شفاء أو معرفة المستقبل، لأنّها تضلّله بالتّخيّلات، تمامًا كما يفعل السّياسيّون في زمن الانتخابات الّتي باتت على الأبواب. يقطعون وعودًا واهية، ولو صدقوا في جزء بسيط منها لما آلت الأمور إلى ما وصلت إليه في هذه الأيّام. الشّياطين لا تشفي ولا تحلّ المشاكل، بل مشيئتها هي الدّمار، وعندما تعطي شيئًا، يكون هدفها إحداث أذيّة كبرى. لهذا، بعض الّذين يمنحون سلطة، ربّما تكون سلطتهم بابًا لخراب ضخم، لا لإصلاح عظيم. لذلك، على كلّ من يحصل على سلطة، من أيّ نوع، أن يسأل نفسه إن كانت من الله أو من الشّيطان.

مسيحيّون كثيرون يعيشون مسيحيّة يسيطر عليها حضور الشّياطين المرعب، ويبعدون خوف الله السّلاميّ من حياتهم، منجرّين وراء الخوف المقلق من الشّياطين. الحقيقة أنّهم يسقطون، بلا وعي، في الإيمان بمبدأين، على مثال هرطقة قديمة تدعى "المانويّة". يرون الشّيطان من جهة كإله، هو إله الشّرّ، والثّالوث القدّوس من جهة ثانية كإله الخير. إلّا أنّ الشّياطين مخلوقات ضعيفة وفاسدة، لا تقوى إطلاقًا على الّذين يعيشون وصايا الله ويلتصقون به. المجنونان، في إنجيل اليوم، إلتصقا بالعيش بين القبور، حيث الظّلام والرّائحة النّتنة، فيئسا وأصبحت نفساهما مسرحًا تلعب فيه الشّياطين كما تريد.

يقول الرّبّ يسوع: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثّقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (متّى 11: 28). هذا الكلام يعني أنّ الله حاضر في أوقات الألم والمصاعب والشّدائد، ينتظر منّا أن ندعوه ليحمل عنّا آلامنا، لا أن نحاسبه على وجودها، ونلقي أنفسنا في أحضان الشّياطين. من يفهم العذاب يدرك المعنى العميق للحرّيّة، حرّيّة أن يقبل حضور الله فيه، فيلقي عليه كلّ ألم وتعب ووجع، عوض أن يصارع وحيدًا ويستقرّ في القلق واليأس.

"ما لنا ولك يا يسوع ابن الله؟ أجئت إلى ههنا قبل الزّمان لتعذّبنا؟" هذا ما تفوّه به المجنونان، وهو لسان حال كلّ إنسان يشعر بالوحدة، وبأنّ عذابه يفوق عذابات أهل الأرض. قضيّة العذاب والألم قضيّة وجوديّة تطالنا في صميم حياتنا، وتشكّل للمؤمن نقطة تساؤل حول علاقته بالله، وموقف الله من عذابات المؤمن. لماذا يصمت الله في أوان الشّدّة؟ ولماذا يسمح بعذاب محبّيه؟

إنّ الله لا يغيب عن خليقته ولا يشاء سقوطها، بل "يريد أنّ جميع النّاس يخلصون وإلى معرفة الحقّ يقبلون" كما يقول بولس الرّسول في رسالته الأولى إلى تيموثاوس (2: 4). لكن الله يدعونا أن ننظر في أوان الشّدّة إليه لا إلى آلامنا وعذاباتنا. المسألة هي هل أنسلخ عن الله وأستقرّ في الشّدّة، أو أتّحدّ بالله من خلال قبولي الشّدّة، ورفعها قربانًا أمامه؟ إنّ الشّدّة والحزن والمصاعب هي مقتنياتنا في أرض الغربة الّتي هي حياتنا على الأرض. هي علامات فقرنا وضعفنا مهما كانت ثروتنا وقوتنا وسلطتنا بحسب مقاييس هذا العالم. هي جحيمنا مهما كنّا في الرّخاء. من يسرع إلى الله ليلقي عليه أحماله سيكتشف أنّ الله كان واقفًا عند باب قلبه يقرع منتظرًا أن يفتح له باب حياته، ليكلّلها من فيض بركاته.

غدًا تبدأ استشارات نيابيّة نأمل أن يسمّى على أثرها رئيس يكلّف تشكيل حكومة، بأسرع وقت، تتولّى وقف الموت الزّاحف إلى حياة اللّبنانيّين. لقد أدّى التّناحر السّياسيّ إلى خنق البلد ونحر المواطنين، وقد حان وقت العمل الجدّيّ لوقف الكارثة. إنّ التّعامي عن الحقيقة ودفن الرّأس في الرّمال جبن. من الضّروريّ جدًّا تشكيل حكومة بالسّرعة القصوى، لكي تبدأ بالإصلاحات الضّروريّة جدًّا، والّتي طال انتظارها، من أجل تحقيق بعض الاستقرار السّياسيّ والاقتصاديّ، ومن أجل إعطاء إشارة إيجابيّة إلى المجتمع الدّوليّ الّذي ينتظر بدوره هذه الإشارة ليساعدنا. إنّ دول العالم تستشعر الخطر المحدق بنا، إلّا أهل البيت الّذين يتلهون بخلافاتهم ومصالحهم، ضاربين عرض الحائط مصلحة البلد وأهله. منذ اندلاع الثّورة ثمّ مصادرتها والالتفاف على مطالبها، لم نشهد عملاً جادًّا أو نيّة صادقة من أجل كبح الانهيار. سنتان ضاعتا من عمر اللّبنانيّين وقبلها سنوات، والأوضاع تتراجع، والمشاكل الحياتيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة تتضاعف، وذوو السّلطة في عالم آخر، لا يبالون بآلام اللّبنانيّين وأنينهم، بل يمعنون في خنقهم وإذلالهم وإفقارهم وتجويعهم. رغم الأزمة لم نشهد تغييرًا في الرّؤية أو النّهج. البلد غارق في الظّلام والفقر والمرض ولا من يبالي. ألا يدركون أنّ النّار الّتي ستأكل البلد ستحرقهم وسيكونون من ضحاياها؟".

وفي الختام، دعا عوده إلى "عدم الانجرار وراء خدع الشّيطان، لأنّها كثيرة الأشكال والألوان، ودعوتنا أن نتبع المسيح ومحبّي المسيح الحقيقيّين، ونصرخ جميعًا، بقلب واحد: لتكن مشيئتك، كما في السّماء كذلك على الأرض، آمين".