لبنان
23 كانون الثاني 2023, 06:55

عوده: ألا يخجل من يدّعون أنّهم مسؤولون ممّا أوصلوا البلد وشعبه إليه؟

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة جاء فيها:

"أحبّائي، يحدّثنا المقطع الإنجيليّ الّذي تلي على مسامعنا اليوم عن إنسان مرذول من أبناء شعبه اليهوديّ، ويعتبر خائنًا بسبب عمله لصالح الدّولة الرّومانيّة. هذا الإنسان اسمه زكّا، ومعنى اسمه "الصّالح"، على عكس ما كان يراه أبناء جنسه.

كان زكّا رئيسًا للعشّارين، الّذين كانوا يجمعون الأموال بروح من الجشع وعدم الرّحمة على أبناء شعبهم اليهوديّ. لهذا، أصبح كلّ عشّار، أو جابي ضرائب، يمثّل الدّنس بعينه، والابتعاد عن كلّ ما هو إلهيّ، إذ ترك "شعب الله المختار"، والتحق بأمّة وثنيّة "رجسة" طمعًا بالرّبح المادّيّ. إلّا أنّ زكّا كان مثالًا عمّا يقوله لنا الرّسول بولس: "حيث كثرت الخطيئة ازدادت النّعمة جدًّا" (رو 5: 20). "كان زكّا يلتمس أن يرى يسوع من هو"، فيما كان مارًّا، وكان قد سمع عنه كثيرًا، فصعد على شجرة الجمّيز بسبب قصر قامته. كأنّ قصر القامة هنا يمثّل النّقص الّذي تسبّبه الخطيئة للنّفس البشريّة، نتيجةً للابتعاد عن الرّبّ. يقول النّبيّ داود: "يا ربّ من ينزل في مسكنك؟ من يسكن في جبل قدسك؟ السّالك بالكمال والعامل الحقّ، والمتكلّم بالصّدق في قلبه. الّذي لا يشي بلسانه، ولا يصنع شرًّا بصاحبه، ولا يحمل تعييرًا على قريبه. والرّذيل محتقر في عينيه، ويكرّم خائفي الرّبّ. فضّته لا يعطيها بالرّبا، ولا يأخذ الرّشوة على البريء. الّذي يصنع هذا لا يتزعزع إلى الدّهر" (مز 15: 1-5). بحسب هذا المزمور، لم يكن زكّا في نظر النّاموس ممّن ينزلون في مسكن الرّبّ، وممّن يرثون الملكوت. إلّا أنّ الرّبّ يسوع، الجزيل الرّحمة، الّذي جاء ليكمّل النّاموس بوصيّة المحبّة، حالما رأى زكّا على الجمّيزة مدفوعًا بعطش إلى معرفة شخص يسوع، للحال حقّق له رغبته، وروّى ظمأ نفسه، وبدلًا من أن "ينزل" زكّا في "مسكن الرّبّ"، كما جاء في المزمور، انعكست الآية وطلب الرّبّ يسوع أن ينزل ضيفًا في منزل زكّا. هنا صعق قلب زكّا بشعلة المحبّة، فأصبح "كامل القامة" روحيًّا. عمل بسيط قام به زكّا، بصعوده الجمّيزة، ترجم شوقًا لرؤية من يحنّ إليه، ففتح أبواب الرّجاء أمام كلّ نفس بشريّة تحاول الخطيئة أن تزرع فيها بذور اليأس، لتلتقي بمخلّص الخطأة. يقول القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلان: "قدّم لنا هنا رئيس العشّارين، فمن منّا ييأس بعد من نفسه وقد نال نعمةً، بعد حياة غاشّة؟". لا ننسى أيضًا قول الرّبّ يسوع: "من أيّام يوحنّا المعمدان إلى الآن ملكوت الله يغصب، والغاصبون يختطفونه" (مت 11: 12). زكّا مثال حيّ استطاع أن يختطف الملكوت، رغم العوائق الّتي كانت أمامه من خطايا وناموس وقصر قامة وشعب يكره العشّارين. لقد نسي الشّعب ما قاله الرّبّ يسوع: "إنّ العشّارين والزّواني يسبقونكم إلى ملكوت الله" (مت 21: 31)، فوقعوا في خطيئة الدّينونة، بينما راح زكّا يبحث عن المسيح، فوجده المسيح أوّلًا إذ نسمع في إنجيل اليوم: "فلمّا انتهى يسوع إلى الموضع، رفع طرفه فرآه".  

ينتظر الرّبّ من كلّ واحد منّا أن يبادر أوّلًا في البحث عنه بالحرّيّة الممنوحة لنا، ومتى قمنا بهذه الخطوة الأولى، حينئذ يلمس قلبنا، ويمسك بدفّة سفينة حياتنا ليقودها إلى الميناء الهادئ، إلى الملكوت.

يرى القدّيس إيرونيموس أنّ شجرة الجمّيز تشير إلى أعمال التّوبة الصّالحة، حيث يدوس الخاطئ التّائب كلّ أعماله الخاطئة، ومن خلالها ينظر إلى الرّبّ كما من برج الفضيلة. يرى آباء قدّيسون آخرون أنّ الجمّيزة هي رمز للصّليب الّذي يلتقي المؤمن من خلاله بالمخلّص، ويسمع صوته الحسن، فينفتح بيته الدّاخليّ ليستقبل المسيح متجلّيًا فيه. من جهة ثانية، الجمّيزة رمز للكنيسة الّتي تحمل الخطأة على منكبيها، كما حملت الشّجرة زكّا، وكما يحمل الرّاعي الصّالح خروفه الضّالّ، حتّى تقدّمهم لختنها كثمار صالحة، ثمار محبّة صادقة. فإنّ عمل الكنيسة الرّئيسيّ هو حمل العالم بأسره، حتّى ولو كان كرئيس العشّارين، وهي تحمله على منكبيها ليس لإدانته، مثلما فعل الشّعب اليهوديّ، ولا لتجرح نفسه، بل لتمنحه فرصة اللّقاء بمخلّصه.

نعاين في حادثة زكّا موقفين من حلول الرّبّ ضيفًا في منزل العشّار. فمقابل الفرح العظيم الّذي اعترى زكّا، نرى إدانة المتذمّرين لرئيس العشّارين ونعتهم له بالخاطئ. المتذمّرون كانوا من الشّعب المتجمهر حول الرّبّ يسوع، المفترض أنّهم يعرفونه جيّدًا ويدركون مواقفه، إلّا أنّهم أظهروا أنّهم لم يفهموا شيئًا ممّا قاله أو فعله أمامهم طيلة فترة حلوله بينهم، وإلّا لكانوا تذكّروا قوله: "لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب بل المرضى. لم آت لأدعو أبرارًا بل خطأةً إلى التّوبة" (مر 2: 17).  

عندما دخل الرّبّ يسوع بيت زكّا، أشرق عليه بنوره، فطرد ظلمة الخطايا دون أن يبكّته أو أن يقدّم له أيّة وصيّة. حضور المسيح نفسه كان قوّةً انتشلت زكّا من محبّة المال إلى محبّة الفقراء والشّوق لأن يردّ أضعافًا لمن ظلمهم، ولو كان الثّمن خسارة ما يملك.  

يا أحبّة، لقد أعاد زكّا جميع الأموال الّتي سلبها من الضّرائب، فيما نجد مسؤولينا يثقلون كاهل المواطن كلّ يوم بضرائب جديدة بغية سدّ عجز افتعلوه هم أنفسهم، ثمّ أغرقوا البلاد والبشر، عوض تحمّل المسؤوليّة والسّير بخطط إصلاحيّة تنقذ البلد وتحافظ على الشّعب. المعادلة في بلدنا هي: يفتقر الشّعب ليغتني المسؤولون. يموت الشّعب ليحيا المسؤولون. يدان الشّعب فديةً عن المسؤولين.

الوطن كلّه يصرخ متألّمًا، إذ قد أصاب حكّامه مرض الأنانيّة والكبرياء، وبرص خطيئة الجشع، وعمى المال والسّلطة. فإلى متى تصمّ الآذان عن آلام شعب ما عاد لديه أيّ شيء ليخسره؟

لقد شهدنا هذا الأسبوع حلقةً أخرى من مسلسل مسرحيّة انتخاب رئيس، والمحزن أنّ من لم يقوموا بواجبهم على أتمّ وجه يتذمّرون ويشعرون بالاشمئزاز من تكرار المهزلة. أليس أولى بهم أن يقدموا على ما يخرج المجلس من هذا الجمود القاتل؟ ألا يعلمون طريقة تكوين السّلطات في الأنظمة الدّيمقراطيّة، وكيفيّة إجراء الانتخابات؟ كيف يبرّر المعطّلون لناخبيهم تقصيرهم في أداء واجبهم الدّستوريّ والوطنيّ؟ كيف يبرّرون وضع مصالحهم قبل المصلحة العامّة، وتقديم حساباتهم الضّيّقة على كلّ حساب؟ كيف يستطيعون أن يضحكوا ويهزأوا وشعبهم يدمع ويبكي؟  متى يخرج هؤلاء من أوهامهم بأنّهم محور الكون وأنّ العالم لا يفكّر إلّا بهم؟ ما هذه المهزلة! قليل من التّواضع ومن الواقعيّة! ألا يخجل من يدّعون أنّهم مسؤولون ممّا أوصلوا البلد وشعبه إليه؟ ألا يخجلون من أنفسهم عندما يتحدّثون عن الكرامة وعن السّيادة وعن الحقوق؟ وكلّها ضاعت بسبب مواقفهم العبثيّة.

أملنا أن تصحو ضمائر من ضمائرهم نائمة، وأن ينضمّ عدد كبير من النّوّاب إلى رفاقهم المعتصمين داخل المجلس، مطالبين بعقد جلسة انتخابيّة لا تغلق إلّا بانتخاب رئيس. أوليس هذا واجب النّوّاب الأوّل؟ أمّا واجبهم الثّاني الرّقابيّ فعليهم وعيه جيّدًا للقيام بواجبهم الّذي يقتضيه فصل السّلطات، عوض الخلط بينها وتخطّي الدّستور.    

دعوتنا اليوم أن نلتمس لقاء المخلّص مهما عاكستنا الظّروف، وألّا نيأس لا من خطايانا، ولا من العوائق الّتي تصادفنا في طريق الخلاص، بل فليكن لسان حالنا ما قاله داود النّبيّ: "وجهك يا ربّ ألتمس. لا تحجب وجهك عنّي" (مز 27: 8-9)، آمين".