عودة في بشارة مريم: نصلّي من أجل أن يسمع لبنان بشارة انتهاء انتشار الوباء
"نصلّي اليوم من أجل أن يسمع لبنان واللّبنانيّون بشارة انتهاء انتشار الوباء، فتعود الحياة أفضل ممّا كانت عليه، إذ قد تعلّمنا جميعًا أهمّيّة أن تكون لدينا بيئة آمنة ونظيفة، كما تعلّمنا أن نبقى في حالة توبة دائمة لأنّ الإنسان لا يعرف متى وكيف يغادر هذه الأرض، وقد وعينا أنّ السّبب قد يكون شيئًا غير منظور ولا محسوب حسابه. هذه التّوبة، الّتي نصلّي أن تكون، وتبقى، حقيقيّة، لا بدّ من أن تودي بنا إلى المحبّة الحقيقيّة الّتي نظهرها تجاه أخينا الإنسان، كلّ إنسان، كما إلى كلّ ما هو حولنا من كائنات خلقها الله من أجل أن نستفيد منها.
إنّ الفيروس الّذي تعاني منه البشريّة الآن، جعل الأرض كلّها في سكون، في صمت بالغ، ولعلّه في نظرنا يخدم البشر في تنبيههم إلى أنّهم غرقوا في الضّجيج العالميّ، ولم يبق لديهم الوقت لسماع صوت الرّبّ وكلمته. من هنا، يا أحبّة، يأتي عيد بشارة سيّدتنا والدة الإله، هذا العام، خلال فترة صمت عالميّ، علّنا نسمع الحوار الّذي دار بين رئيس الملائكة جبرائيل وبين سيّدتنا العذراء مريم، ونتعلّم كيف يكون المسيحيّ الحقّ.
لقد تجسّد ابن الله الوحيد، وصلب ومات وقام، من أجل خلاصنا. كلّ هذا ننساه بسبب اهتماماتنا الكثيرة الدّنيويّة. هذه المسيرة الخلاصيّة يشكّل عيد البشارة انطلاقها. نحن نرتّل اليوم: "اليوم رأس خلاصنا، وظهور السّرّ الّذي منذ الدّهور، لأنّ ابن الله يصير ابن البتول، وجبرائيل بالنّعمة يبشّر. لذلك، ونحن معه، فلنهتف نحو والدة الإله: إفرحي أيّتها الممتلئة نعمة الرّبّ معك". ليست مصادفة، أن يحظى العالم أجمع بفرصة للهدوء والصّمت، قبل انطلاق مشروع الله الخلاصيّ. ربّما علينا أن نسمع دويّ هذا الصّمت القائل: "لقد عادت الأرض وامتلأت من الخطايا. لن أرسل طوفانًا آخر لأنّي وعدت بذلك. لكنّي اليوم أذكّركم بأنّ خلاصكم هو في المسيح يسوع الّذي تنازل من مجده ليصير بشرًا ويخلّص الجميع". يقول الرّسول بولس: "الآن، في المسيح يسوع، أنتم الّذين كنتم قبلاً بعيدين، صرتم قريبين بدم المسيح" (أف 2: 13).
يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس أحد آباء الكنيسة في القرن الرّابع عشر، الّذي كان رئيس أساقفة تسالونيكي، في عظته عن عيد البشارة: "كم هو عجيب وإلهيّ ومستحقّ التّمجيد، أن نرى الله نفسه، مقترنًا بطبيعتنا الّتي لم تستطع قبلاً، أو لم ترد، أن تحفظ طبعها الأوّل، لذلك ذهبت بعدل إلى أسافل الأرض. إنّ هذا السّرّ لا يدرك، وهو خفيّ منذ الدّهور. لقد كان خفيًّا قبل التّجسّد، وبعده، وسيبقى خفيًّا من ناحية كيفيّة صيرورته. ما يؤكّد أنّ سرّ التجسّد يبقى غير مدرك عند البشر، وحتّى الملائكة ورؤساء الملائكة، هو الحدث الّذي نعيد له اليوم. لقد بشّر رئيس الملائكة العذراء بالحبل، وعندما سألت عن الطّريقة لم يجد أيّة طريقة ممكنة لتفسير الطّريقة، فالتجأ إلى الله قائلاً: "الرّوح القدس يحلّ عليك وقوّة العليّ تظلّلك".
يا أحبّة، مرارًا كثيرة تظهر أمامنا الأمور عسرة الفهم، عندئذ يكون علينا تفعيل إيماننا وأن نجيب مثل العذراء مريم: "ليكن لي بحسب قولك"، أيّ مثلما علّمنا ربنا يسوع فيما بعد: "لتكن مشيئتك". يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس: "الله، الّذي جبلنا برأفته، تطلّع إلينا بمحبّته للبشر، وبعد أن أحنى السّماوات، نزل وأخذ طبيعتنا من العذراء القدّيسة، وأعادها، أو بالحريّ أصعدها إلى العلوّ الإلهيّ والسّماويّ. ذلك أنّه يريد أن يتمّم مشيئته الّتي كانت قبل الدّهور".
يتساءل البعض عن أهمّيّة العذراء مريم، في هذا السّياق يجيب القدّيس غريغوريوس قائلاً: "الإسم مريم، الّذي تفسيره "السّيّدة" أو "الأميرة"، فيه إشارة إلى صفة أساسيّة للعذراء. أما الصّفة "العذراء" ففيها تأكيد على العذريّة، وعلى طهارة عيشها الكاملة. لقد كانت عذراء نفسًا وجسدًا، حاوية القوى النّفسيّة، مع حواس الجسد كلّها، منزّهة عن كلّ دنس. كل ذلك باستمرار ونباهة... من جهة ثانية، العذراء سيّدة لأنّها صارت نبعًا وأصلاً لحرّيّة الجنس البشريّ كلّه، بعد ولادتها العجيبة المفرحة.
أمّا عن المولود فيقول القدّيس غريغوريوس بالاماس: "يسوع معناه "المخلّص"، وقد قال عنه إشعيا: "مشيرًا عجيبًا، إلهًا قويًّا، مسلّطًا، رئيس السّلام، آب الدّهر الآتي" (إش 9: 6). والآن يقول رئيس الملائكة: "سيكون عظيمًا وابن العليّ يدعى". هو سيجلس على عرش داود وسيملك على بيت يعقوب، لأنّ يعقوب هو أبو المؤمنين كلّهم، وداود هو أوّل من ملك بطريقة تسرّ الله، فالمسيح جمع في شخصه الأبوّة والملك.
نحن كثيرًا ما نشكّ بكلام الرّبّ، إلّا أنّ العذراء، كما يقول القدّيس غريغوريوس لم تسأل "كيف؟" من باب عدم الإيمان بل من باب الاستيضاح. هنا، كأنّنا برئيس الملائكة يقول، حسب القدّيس غريغوريوس: "أنت قدّيسة وممتلئة نعمة، وسيأتيك الرّوح القدس ليهيّء وينجز العمل الإلهيّ فيك بقداسة علويّة إضافية. وستظلّلك قدرة العليّ الّتي ستقوّيك، وبفضل ظلّها وقوّتها يتكوّن في بطنك من هو، بطبيعته الإنسانيّة، قدّوس، ابن الله، قدرة العليّ. لا تستغربي، فلا شيء غير مستطاع عند الله". هل نحن نثق بهذا الكلام؟ أم إنّنا نسائل قدرة الله وحكمته عند مواجهتنا لأيّ مشكلة؟ هل نقول، كما قالت والدة الإله: "ها أنا أمة للرّبّ، فليكن لي حسب قولك"؟ أم نسأله مشكّكين: "لم تفعل هذا؟ وكيف؟ وهل تستطيع ذلك؟
اليوم، نحن أمام درس في الإيمان الحقيقيّ، حيث تعلّمنا العذراء مريم كيف يجب على المسيحيّ الحقّ أن يؤمن بالله، ويثق به، وبهذا يصبح حاملاً المسيح في داخله.
ألا بارك الرّبّ حياتكم، بشفاعات والدة الإله، ورئيس الملائكة جبرائيل، وسائر القدّيسين الّذين حملوا المسيح في داخلهم، فأصبحوا منارات تضيء المسكونة، آمين".