لبنان
15 شباط 2021, 09:45

عودة: المطلوب منكم يا قضاة لبنان حمل سيف الحقّ، وتطبيق العدالة

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عودة، القدّاس الإلهيّ في مطرانيّة بيروت وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى عظة جاء فيها:

"تقرأ كنيستنا المقدّسة اليوم على مسامعنا النّصّ الإنجيليّ المتحدّث عن لقاء الرّبّ يسوع المسيح بالمرأة الكنعانيّة. لقد خرج الرّبّ من البلاد اليهوديّة، وتوجّه إلى نواحي صور وصيدا، أيّ إلى الأمم، إلى الوثنيّين. هناك، خرجت إمرأة تصرخ نحو الرّبّ يسوع قائلة: "إرحمني، يا ربّ، يا ابن داود". نادته كما كان ينبغي على اليهود مناداته، لكنّ شعبه أنكر أنّه الرّبّ، فيما المرأة الوثنيّة عرفته إلهًا ومخلّصًا. مجاورة صور وصيدا لليهوديّة جعلت المرأة تسمع عن المسيح من الشّريعة، فعرفته حالما رأته، على عكس شعبه. هذه المرأة، التي اعترفت بالمسيح كربّ وابن لداود، لم تحتج إلى الشّفاء، ولم تتوسّله من أجل نفسها، لكنّها التمست الشّفاء لابنتها التي كانت نموذجًا لكلّ الأمم التي مسّتها الأرواح النّجسة. لم يجب الرّبّ يسوع المرأة بكلمة، تجاهلها، ليس لأنّه عديم الرّحمة، بل لإضرام الرّغبة فيها إلى الخلاص، ولإبراز فضيلة التّواضع التي تتمتّع بها، وللإضاءة على عظم إيمانها.

دنا الرّسل إلى معلّمهم قائلين: إصرفها فإنّها تصيح في إثرنا. لقد تحرّك الرّسل شفقة وتوسّلوا من أجلها مستعطفين السّيّد حتّى يرحمها ويمنحها مرادها ويصرفها بسلام. إلّا أنّ الرّبّ أجاب تلاميذه قائلًا: لم أرسل إلّا إلى الخراف الضّالة من بيت إسرائيل. قال الرّبّ هذا الأمر حتّى يسكت اليهود فلا يتّهمونه في ما بعد بأنّه رغب في الذّهاب إلى الأمم الوثنيّة بدلًا منهم. يقول الإنجيليّ يوحنّا: إلى خاصّته جاء وخاصّته لم تقبله (1: 11)، لقد جاء المسيح إلى اليهود، وانتظر منهم ثمار الإيمان، لكنّهم رفضوه. أمّا الأمم، المتمثّلة بالمرأة الكنعانيّة وابنتها، فقد قبلته واعترفت به إلهًا ومخلّصًا. سرعت المرأة في مجيء خلاص الأمم، إذ ألحّت على الرّبّ ساجدة وقائلة: أغثني يا ربّ. أجابها الرّبّ: ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويلقى للكلاب. كان اليهود يعتبرون أنفسهم أبناء الله، ويدعون الأمم كلابًا، والأبناء اليهود كانوا يعيشون داخل أرضهم وبالقرب من هيكلهم، بينما الأمم كانوا في الشّتات، خارج البيت، أيّ خارج الأرض التي اعتبرها اليهود مقدّسة، فاعتبروا كالكلاب التي تبيت خارج البيت. الكلاب يأكلون بعد البنين، وهكذا كان الوثنيون ينتظرون دورهم في الخلاص. لذلك أجابت المرأة الرّبّ: "نعم، يا رب، فإنّ الكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أربابها". إعترفت المرأة بأوّليّة البنين في الخلاص، لكن يمكننا القول إنها عجّلت بفتح باب الخلاص للوثنيّين، طالبة بعض الفتات، أيّ بعضًا من الخلاص، معبّرة عن ذلك بإيمان عظيم وتواضع عميق وصادق. حاول المسيح إدانة قساوة اليهود تجاه الأمميّين، فاستعمل عباراتهم في حديثه ليريهم أنّ من أراد أن يخلص لا ييأس من القسوة بحقه، بل يتشبّث بالخلاص أكثر فأكثر. شاء الرّبّ أن يعلّم اليهود التّواضع عن طريق هذه المرأة. فاليهود متكبّرون، يقولون: "نحن نسل إبراهيم، لم نكن يومًا عبيدًا لأحد" (يو 8: 33)، كما يقولون: "نحن ولدنا لله" (يو 8: 41)، فيما لم تغضب المرأة من تشبيهها بالكلاب، ومن اعترافها بسيادة اليهود، إذا كان هذا سيأتيها بالخلاص. إلحاح المرأة يذكّرنا بما علّمنا إيّاه بولس الرّسول قائلًا: "صلّوا بلا انقطاع" (1تس 5: 17)، كما يذكّرنا بمثل الأرملة اللّجوج. البشر، متى أرادوا أمرًا ثابروا من أجل الحصول عليه والوصول إليه، فكيف إذا كان الله هو الهدف المنشود؟ ألا يستحق الرّبّ منّا المثابرة للحصول على خلاصه رغم كلّ الصّعوبات التي قد نمرّ بها؟

عندما عاين الرّبّ تواضع المرأة الوثنيّة وإلحاحها، قال لها: "يا امرأة، عظيم إيمانك، فليكن لك كما أردت"، فشفيت ابنتها من تلك السّاعة. الإيمان الحقيقيّ هو الثّقة بالله في كلّ الظّروف، والأمانة له، حتّى عندما تكون في اضطراب عظيم، أو حتّى عندما يبدو لك أنه لا يستجيب طلبك أو يهتم له. هذا هو امتحان إيمان كلّ منّا. ما تفوّه به الرّبّ تجاه المرأة أظهر إيمانها العظيم الذي حصلت بموجبه على شفاء ابنتها، أيّ على خلاص كلّ الأمم الوثنيّة. تظهر لنا هذه المعجزة أن قدرة الرّبّ يسوع على سحق الشّياطين عظيمة جدًّا، حتّى إنّه لم يكن مضطرًّا أن يكون موجودًا شخصيًّا لكي يحرّر منها الإنسان، مثلما حدث مع غلام قائد المئة الذي كان أيضًا وثنيًّا. أظهر المسيح بداية أنّه لا يريد منح المرأة أيّ شيء، لكنّه بعد امتحان إيمانها أغدق عليها بسيول نعمته.

يا أحبّة، لقد وضعت كنيستنا المقدّسة هذه الحادثة تمهيدًا للأسبوع المقبل الذي سنسمع فيه عن الفرّيسي والعشّار، عن الكبرياء القاتلة والتّواضع المنقذ. وبالحديث عن التّواضع والكبرياء، نأسف لوضعنا في هذا البلد الحبيب. هنا، نصب مسؤولونا أنفسهم أفهم من جميع مسؤولي العالم، فهلك البلد بسبب كبريائهم، بينما نعاين أشقّاءنا قد وصلوا إلى المريخ بخفر وعمل صامت ودؤوب، ونحن نهنّئهم على إنجازهم المضاف إلى إنجازات أخرى أهمها تحويل صحرائهم إلى واحة لقاء وتسامح وأخوّة. لبناننا كان في ما مضى واحة التّلاقي والحوار، أرض الحرّيّة والدّيموقراطيّة والإبداع. لقد فقد لبنان دوره الرّائد في التّعليم والاستشفاء والسّياحة والخدمات المصرفيّة وغيرها من الخدمات. كان مقصد طالبي العلم والمعرفة والحرّيّة. كان ملجأ المستنيرين والرّؤيويين والأحرار المقموعين في بلادهم، فإذا به يصبح قاهر الأحرار والمبدعين، يهجره أبناؤه يوميًّا، الكبار منهم قبل الشّباب، طلبًا للعيش الهانئ الكريم، حيث الأمان والاستقرار والمساواة والعدالة وراحة النّفس والاطمئنان إلى الغد والأبناء.
لبنان الرّيادة والتّميز والإبداع وأرض التّلاقي والحوار أصبح من الماضي. التّنافس البناء الذي عرفه لبنان في كلّ المجالات أصبح تنافسًا في المطالب والمكاسب والصّراعات وتصفية الحسابات، والشّعب مغلوب على أمره يناضل من أجل الاستمرار في العيش، وإذا سولت لأحدهم نفسه أن يتمرّد أو يعبّر عن رفضه أو غضبه يقمع أو يسجن أو يكتم صوته.
أين لبنان المفكّرين والرّياديّين والمبدعين والأدباء والشّعراء والفلاسفة والعلماء ورجال الفكر والقانون والاقتصاد وعمالقة السّياسة؟ في السّتينات كنا سباقين في مجال الفضاء والاقتصاد والعلم والفكر والتّعليم والصّحّة والفنّ وغيرها من المجالات. كنّا في طليعة الدّول العربيّة ومثالًا يحتذى. أين أصبحنا؟ رحم الله أولئك الكبار الذين حكموا لبنان، وبئس ما وصلنا إليه.

حكّامنا اليوم نصبوا أنفسهم حكماء الشّعب، لكنّهم جهلوا من فجر الوطن وقتل المواطنين. مسؤولونا ينادون بالحرّيّة والسّيادة، وهم لا يعرفون سوى كم الأفواه الحرّة المنادية بالسّيادة والحرّيّة والعدالة. إنّ الحياة الحقّة لا تأخذ معناها الحقيقيّ إلّا عندما تتخطى الأنانيّة والمصلحة في سعيها إلى خدمة القضايا العظمى، والعدالة إحداها. فإن سئم اللّبنانيّون من السّياسيّين وعدم نضجهم وإهمالهم وأنانيّتهم وتمسّكهم بمصالحهم فالتّعويل على عدل القضاء ونزاهة القضاة وشجاعتهم واستعدادهم للتّضحية من أجل الحقّ، لكي نصل إلى الدّولة العادلة حيث المساواة واحترام الحقوق والحرّيّات ومحاسبة كلّ مذنب ومعاقبته، فتتوقّف سلسلة التّعدّيات والاغتيالات وأعمال الظّلم والحقد والتّحقير.

إنّ العدالة فضيلة أخلاقيّة وواجب. إنّها إحدى القيم الإنسانيّة وهي ضروريّة للدّولة وأساس الحكم. بالعدل تحمى حقوق المواطن، وتسنّ الأحكام ويعاقب المذنب والمجرم. فإذا كان السّياسيّون لا يعون المخاطر المحدقة بلبنان أو يتجاهلون الوضع المزري هربًا من المسؤوليّة أو عجزًا أو جبنًا أو خوفًا، فالمطلوب انتفاضة القضاء على السّياسة وإبعادها عن التّدخل في الأحكام، والانصراف إلى دراسة الملفّات بحياديّة وموضوعيّة واستقامة، ومعاقبة كلّ من أساء إلى لبنان وأبنائه وكلّ من خالف القوانين ولم يطبّق الدّستور وكان سببًا في شلّ المؤسّسات وتعطيلها وتراجع الإدارة وتفشّي الفساد، وكلّ من ساهم عن قصد أو عن علم أو عن إهمال في تفجير العاصمة وقتل أبنائها وتهجيرهم وإفقار اللّبنانيّين وتجويعهم وكم أفواههم واغتيال مفكّريهم وسجن كل من تجرأ على الاعتراض.

العدالة والإنصاف أساس فعاليّة القوانين وصوابيّة الأحكام، وعيوننا جميعًا على الجسم القضائيّ الذي بات الحصن الأخير قبل الاضمحلال. فالمطلوب منكم يا قضاة لبنان حمل سيف الحقّ، وتطبيق العدالة، واعتماد المساواة بين الجميع، وإصدار الأحكام بلا تردد وبغض النّظر عن مرتبة المذنب أو جنسه أو دينه أو انتمائه. التّمييز بين المواطنين بغيض وقد يحرم صاحب الحقّ حقّه أو قد يغض الطّرف عن ذوي المراتب المذنبين، ما يؤدّي إلى خلق الفوضى وتفشي الفساد ويأس المواطن. لذا نرجو منكم الابتعاد عن الانحياز والظّلم والعنصريّة والمحسوبيّة وخصوصًا عن السّياسة، وعدم الخوف إلّا من الله خالقكم، وعدم الإصغاء إلّا إلى ضمائركم. أرسوا النّظام والعدل والحقّ، أنصفوا البريء والمظلوم، أحموا حرّيّة الرّأي والفكر والتّعبير والمعتقد، ودافعوا عن الشّعب المقهور، وعن الأحرار والمثقّفين والمفكّرين. يقول ميخا النّبيّ: "قد أخبرك أيّها الإنسان ما هو صالح وماذا يطلبه منك الرّبّ إلّا أن تصنع الحقّ وتحب الرّحمة وتسلك متواضعًا مع إلهك" (6: 8). إستخدموا سلطتكم من أجل خلاص النّاس، لا من أجل التّخلّص منهم كما يفعل محترفو السّياسة. لقد نصحناهم مرارًا وتكرارًا قائلين لهم: لا تدعوا اللّبنانيّين ينشدون الخلاص من الخارج، كونوا أنتم صنّاعه، أنقذوا البلد بالحكمة والتّعقل والتّعاون، شكّلوا حكومة متعالية عن الاختلافات الطّائفيّة والقبليّة وعن المصالح والمكاسب، ولتكن طائفتكم واحدة، طائفة محبّي الوطن الواحد المخلصين له وحده، ولتكن مصلحتكم الوحيدة مصلحة شعبكم الذي سلمكم عنقه ثقة بكم، فلا تنحروه.

في النّهاية يدعونا الرّبّ إلى التّواضع والمحبّة والإصرار في الإيمان. نحن سنبقى مصرّين في صلواتنا إلى الرّبّ كي ينير عقول مسؤولينا، ويلين قلوبهم، علهم يرأفون بالبقيّة الباقية في هذا البلد، ويبعد عنهم الكبرياء والجشع والحقد والظّلم وإدانة الآخرين، بشفاعات القدّيس البارّ مارون النّاسك الذي تعيد له كنيستنا المقدّسة اليوم، في الرّابع عشر من شهر شباط، آمين".