لبنان
01 كانون الثاني 2021, 11:00

عودة: إتعظوا يا حكّام بلدنا الحبيب، عودوا إلى الصّلاح

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عودة قدّاس رأس السّنة وعيد ختانة يسوع المسيح في المطرانيّة في بيروت، وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس ألقى عظة جاء فيها:

"اليوم بدء عام جديد نصلّي كي يجعله الرّبّ الإله مقدّسًا بحضوره في قلوبنا وفي حياتنا. نصلّي كي يحمل هذا العام السّلام للعالم أجمع ولمنطقتنا وللبنان، كما نصلّي كي يعتقنا الرّبّ الإله خلال هذا العام القادم من كلّ خطايانا وسقطاتنا وكبريائنا وحقدنا، لنكون آنية مقدّسة لروحه القدّوس، تنشر المحبّة وتشعّ تواضعًا وقداسة.
يودع اللّبنانيّون سنة 2020 بكثير من الحزن والأسى والخيبة والقلق على المستقبل. سنة 2020 حملت للعالم أجمع وباء يهدد كلًّا منّا مهما علا شأنه، ويعلّمنا أنّنا، مهما عظم شأننا وعلا مركزنا وانتفخت جيوبنا، نحن عاجزون، ضعفاء، غير قادرين على مقاومة مرض، فما بالنا بعظمة الله؟ هل يدرك الإنسان أنّه مخلوق ضعيف مصيره الموت؟ هل يدرك أنّ كلّ ما جمعه في حياته سيتركه هنا، على الأرض، عندما تأتي ساعته؟ هل يتذكّر قول الرّبّ لمن أمضى حياته يجمع المحاصيل ويخزنها: "يا غبيّ، هذه اللّيلة تطلب نفسك منك. فهذه التي أعددتها لمن تكون" (لو 12: 20).
العام الماضي كان استثنائيًّا بسلبيّته على وطننا: خيبات ونكبات وانهيارات. فليرتنا فقدت قيمتها، واقتصادنا تدهور، ومصارفنا فشلت، وسياستنا تراجعت، وشبابنا هاجروا، وشيوخنا افتقروا وجاعوا. وجاءت كارثة 4 آب لتخلّف إلى الدّمار القتلى والجرحى والتّشرّد والحزن واليأس، فيما الطّبقة السّياسيّة غائبة عن اتخاذ أيّ قرار يبعث ولو شعاع أمل في سواد أيامنا، وهي منشغلة بمصالحها وحصصها وارتباطاتها وتصفية حساباتها.
العالم كلّه خائف على لبنان إلّا حكّامه. وزير خارجيّة فرنسا شبه وضعنا بسفينة تغرق، فيما الطّبقة السّياسيّة عندنا تتلهى بجدالاتها العقيمة ومقامرتها بالبلد. ترى أهو انتحار جماعيّ أم نحر جماعيّ؟ ألّا يوجد بين من يتوّلى أمرنا من يهتزّ ضميره لما وصلنا إليه، فيقوم بعمل بطوليّ في هذه الأوقات المصيرّية؟ أليس من يحمل في قلبه رحمة ليشعر مع هذا الشّعب الحزين الذي لم يعد يعرف للفرح طعمًا؟ أم أن بيوتهم دافئة وسقوفهم متينة وجيوبهم ملأى وأولادهم في مأمن كما يقول الشّعب، فلم يتنازلون؟
في القلب غصّة لا لأنّ الأحزان كبيرة والآلام عظيمة وحسب، بل لأنّ لا مبالاة المسؤولين وقلة مسؤوليّتهم تؤذي الشّعب وهم لا يأبهون.
ما نفع الدّولة بلا شعب؟ وإلى متى سيبقون لبنان رهينة مصالحهم وأسير لعبتهم السّياسيّة التّقليديّة وخلاصتها تقاسم الحصص والغنائم الوزاريّة؟ وهل بقي ما يستحق التّقاسم؟ ألم يأت الشّلل السّياسيّ، الذي دام طويلًا، على كّل ما تبقّى من لبنان، بسبب سوء النّيّة أو سوء الإدارة، الله يعلم. هل يعقل أن تتولّى حكومة تصريف الأعمال لمدّة أطول من مدّة اضطلاعها بالمسؤوليّة؟ وهل يحدث في بلد يحترم نفسه أن تكون فترات تعطيل الحكم والمؤسّسات أطول من فترات الحكم والعمل الفعال؟
ألا يهزّ ضمائركم وضع اللّبنانيّين؟ ألا يدمي قلوبكم أنينهم ومعاناتهم، وفيهم من ليس لديه ما يطعم أولاده؟ هل سمعتم أمنية اللّبنانيّين: أن ترحلوا. الشّعب غاضب وحاقد عليكم ويريدكم أن ترحلوا. إن كان لم يهزكم مشهد بيروت المدمّرة، ألا يهزكم رأي شعبكم بكم؟".
في حين يعيد العالم اليوم لبدء عام جديد، تعيّد كنيستنا المقدّسة لختانة الرّبّ يسوع المسيح بالجسد، ولأبينا الجليل في القدّيسين باسيليوس الكبير رئيس أساقفة قيصريّة كبادوكيا. خضوع الرّبّ يسوع للختانة هو درس عظيم في التّواضع، لأنّ واضع النّاموس والشّريعة يخضع للشّريعة، مع أنّه كان يستطيع ألّا يخضع كونه ابن الله.
أمّا البشر الذين تجسّد ليخلّصهم من خطاياهم فلم يتعلّموا شيئًا من هذا التّواضع والتّنازل الأقصى، ونجدهم يتكبرون ويتباهون بأصلهم وفصلهم ومراكزهم وممتلكاتهم، متناسين أن آخرة الإنسان إلى التّراب، وسيصبح مأكلًا للدّود. ومهما استعلى وتكبر وتفاخر لن تكون آخرته مميزة عن غيره، أمّا ذكره فيكون إمّا طيبًا أو لعنات، بحسب ما قام به في حياته.
خالق الكون تنازل واتّخذ صورة عبد وصار بصورة جسدنا الوضيع لكي يجعلنا مشتركين بصورة مجده، على حسب ما نسمع في القدّاس الإلهيّ الذي كتبه القدّيس باسيليوس. هل يدرك الإنسان معنى هذا التّواضع؟ وهل من مسؤول أو زعيم يعي أنّ الوصول إلى الكمال يمرّ بالتّواضع والانسحاق؟ لكنّ التّواضع والمحبّة والتّضحية والتّخلّي عن الكبرياء كلّها تولد ألمًا، لأنّها تستدعي تنازلات جسيمة لن يتحمّلها أيّ ملتصق بكرسيّ أو مركز.
المسيح تنازل فتجسد ثم ختن وصولًا إلى الصّلب والموت، كل ذلك من أجل خلاص الشّعب، فهل من يتّعظ؟ كيف يتّعظون ويتواضعون ويحبّون وهم يكذبون كلّما نطقوا؟ وعدوا الشّعب بجلاء حقيقة التّفجير في خمسة أيّام، وها خمسة أشهر مرّت لم يكشف خلالها شيء سوى أنّ كل من له علاقة بالمرفأ وكلّ المسؤولين لم يكونوا يدرون بما فيه.
مضحك مبك أن يتساءل المسؤولون عن أسباب الإنفجار. كلّ واحد بدوره يريد أن يعرف كيف دخلت المواد المتفجّرة إلى المرفأ وكيف فجّرت. لكنّ المشكلة أنّ الشّعب لم يعطهم الجواب بعد. وعدوا الشّعب بحكومة إنقاذيّة، وها نحن ننتظر منذ أشهر ولادة قيصريّة لحكومة لا نعرف لم التّأخير في تأليفها والبلد في عين العاصفة.
هل الكبرياء أم الجشع أم المصلحة الخاصّة التي تعلو على مصلحة الوطن والمواطنين، أم التّأثيرات الخارجيّة هي السبب؟ مؤسف أنّ السّلطة غير قادرة على كشف الحقيقة ووقف الإنهيار واتّخاذ خطوة إنقاذيّة واحدة، وكلفة الانتظار باهظة جدًا والشّعب وحده يدفع الثّمن. مع هذا، تصلّي كنيستنا من أجل حكّام البلد بلسان القدّيس باسيليوس الكبير قائلة: "أذكر يا ربّ حكّامنا المؤمنين الحسني العبادة الذين ارتضيت أن يملكوا على الأَرض، توجهم بسلاح الحقّ، كلّلهم بسلاح رضوانك، قوّ ذراعهم، إرفع يمينهم، هبهم سلامًا وطيدًا لا يتزعزع. بثّ في قلوبهم الخير والصّلاح لكنيستك ولكلّ شعبك، لكي نعيش في ظلّ أمنهم عمرًا هادئًا ومطمئنًا، بكل عبادة حسنة وتهذيب.
إذا، يجب أن يتّسم الحاكم بالحقّ وأن يكون مرضيًا لله، ومن السّاعين إلى الخير والصّلاح للشّعب، عندئذ يسود السّلام والأمن والهدوء. لذلك، اتعظوا يا حكّام بلدنا الحبيب، عودوا إلى الصّلاح، لا بالشّعارات فقط، بل بالأَفعال، إِجعلوا هذا العام الجديد عام الإنقاذ لا عام التّخلّص ممّن تبقى في الوطن.

المسؤول الحقيقيّ لا يهنأ له العيش وشعبه يئنّ، ومن أولى واجباته خدمة شعبه وتلبية طموحاته، وملاقاة تطلّعاته، وضمان حياته وشيخوخته. الحاكم الحقيقيّ هو الأكثر خدمة للشّعب لا الأكثر استغلالًا له.
في بداية هذا العام الجديد نجدد رجاءنا بالرّبّ وحده، مؤمنين أنّه سيكون لهذا اللّيل نهاية. ربّنا قد غلب العالم بتواضعه العظيم، مولودًا في مغارة ومقتبلًا الختان، ثم العماد، زارعا الحّب في الأرض. لا بد للآلام أن تنتهي ولنور القيامة أن يشرق بقوّة النّعمة الإلهيّة وصلوات القدّيسين. أمّا نحن المؤمنين به فعلينا الصّبر والصّلاة، وهو حتمًا سامعنا ومخلّصنا.
دعاؤنا، في هذه السّنة الجديدة، أن نصل إلى الخلاص من كلّ الشّدائد المحيطة ببلدنا الحبيب، وأن يعود لبنان منارة العلم والثّقافة والإبداع، بلد الديمقراطيّة والانفتاح، وأن ينعم اللّبنانيّون بالطّمأنينة والفرح وراحة البال.
بارككم الرّبّ، وبارك أيامكم المقبلة، مالئًا إِيّاها صحّة وفرحًا وبحبوحة وقداسة. صلّوا، لأنّ الصّلاة سلاحنا الوحيد في هذه الأيّام".