عظة البطريرك الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي في قداس تكريس كنيسة الطوباوي ابونا يعقوب ومركز ابراهيم الحداد الاجتماعي - غزير
"كنتُ مريضًا فزرتموني" (متى25: 26).
1. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيّا الإلهيّة، إكرامًا للطوباوي أبونا يعقوب حداد الكبوشي، ابن غزير العزيزة، ومؤسّس جمعيّة راهبات الصليب، ومنشئ المؤسّسات التي تعتني بالمريض، بكلّ أنواع المرض والإعاقات، إيمانًا منه بقول الربّ يسوع: "كنتُ مريضًا فزرتموني" (متى 25: 36). لكنّه لم يكتفِ بزيارتهم بل خدمهم في مؤسّساته، وأوصى راهباته بالعناية بهم، متذكّرات دائمًا أنّهن يخدمْن المسيح نفسه في شخصهم.
ويسعدنا أيضًا أن نحتفل بتكريس كنيسة الطوباوي أبونا يعقوب، وتدشين مركز ابراهيم الحداد الاجتماعي، المتّصل بها. وقد أنشأ القنصل الفخري العام المحامي ابراهيم انطوان الحداد هذا المجمَّع من ماله الخاصّ، وأوقفه ليكون بيت راحة للمسنِّين. فإنّا، إذ نقدِّر له هذه المبادرة الكريمة والسخيّة، التي تندرج في وصيّة الربّ يسوع، وفي خطّ الطوباوي أبونا يعقوب. نسأل الله، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، السيّدة الحبشية، والطوباوي أبونا يعقوب، أن يكافئه بفيضٍ من نعمه وبركاته.
2. في ضوء كلام الربّ يسوع، ندرك ميزات محبّته العظمى: فقد تماهى مع الجائع والعطشان والغريب والعريان والمريض والسجين، وسمّاهم "إخوته الصغار". وأكّد أن أي اعتناء بأحدهم هو اعتناء به شخصيًّا: "كلّ ما عملتم لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي عملتموه" (متى 25: 40). يريدنا بهذا الكلام أن نراه ونخدمه في كلّ محتاج، فبذلك نحقّق الوصيّة الإلهيّة أن "نحبّ الأخر حبّنا لنفسنا"، ونجعله قريبنا بأفعال المحبّة والرحمة، مهما كان مختلفًا عنّا دينًا وثقافةً ووطنًا، مثلما فعل ذاك السامري الصالح (راجع لو10: 25-37). فكان رمزًا للمسيح، وللطوباوي أبونا يعقوب الذي كان يوصي راهباته بهذه الروحانية، قائلًا: "النبع لا يسأل العطشان من أيّ دين أو بلد أنت". ويضيف: "جماعتي هم فقراء لبنان".
3. لقد فهم كلام الربّ يسوع بكلّ أبعاده الجسدية والروحية والمعنوية. فالجائع هو الجائع إلى خبز وطعام، وأيضًا إلى كلمة الله والعلم والتربية. والعطشان هو العطشان إلى ماء، وأيضًا إلى محبة ورحمة وعدالة. والغريب هو العائش خارج وطنه ومحيطه، وهو أيضًا العائش في غربة نفسية وانفصام في شخصيّته وفي عزلة وتهميش وإقصاء. والعريان هو المفتقر إلى لباس وحاجات الحياة الاوليّة، وهو أيضًا المعرّى من كرامته وصيته الحسن. والمريض هو المعاني من مختلف الأمراض الجسديّة والنفسيّة والعصبيّة، وهو أيضًا المريض في الخطيئة والكبرياء والأنانيّة، وهو المدمن على المسكرات والمخدِّرات. والسجين هو الموقوف وراء القضبان الحديدية، وهو أيضًا المستعبَد لشهواته وعاداته المنحرفة، وهو أسير النافذين والإيديولوجيِّين.
4. هؤلاء جميعًا رأى فيهم أبونا يعقوب وجه المسيح، فأسّس جمعيّة راهبات الصليب الفرنسيسكانيات لخدمتهم، وأنشأ لهم في حياته إحدى عشرة مؤسّسة ومركزًا، بالإضافة إلى مزاري الصليب على تلّة جلّ الديب وقمّة دير القمر، ومزار سيدة البحار. فكانت المدارس والمياتم والمستشفيات ومراكز المعوَّقين وذوي الاحتياجات الخاصّة. ولا بدّ من إشارة خاصّة إلى مستشفى دير الصليب في جل الديب للأمراض النفسيّة والعصبيّة الذي يضمّ ألف مريض، ومستشفى مار يوسف في الدوره الذي يستقبل أيضًا طلّاب جامعات وكلِّيات اختصاص في الطبّ، ومستشفى السيّدة في انطلياس للمسنّات، ودار المسيح الملك في زوق مصبح للكهنة، ودير سيّدة البير في بقنايا للطالبيّة والابتداء، وللرياضات الروحيّة، ولمركز الرئاسة العامّة.
ومن بعد وفاة أبونا يعقوب ارتفع عدد المؤسسات والمراكز إلى أربعة وعشرين، في كلّ من لبنان وروما وسوريا بدمشق والأردن بعمّان ومصر في القاهرة والاسكندرية وفي لورد.
5. لم يقتصر اهتمام ابونا يعقوب على الاعتناء بمؤسّساته، بناءً وإدارةً وسهرًا، بل كان في الوقت عينه يتنقّل من بلدة إلى أخرى ومن قرية إلى أخرى، يكرز بالإنجيل ويعلّم الصغار والكبار، ويكسر لهم خبز الكلمة وجسد الربّ ودمه. وكان يحرص كلّ الحرص على تنمية الإيمان والتقوى في قلوب الصغار والشبّان، وبخاصّة على تشجيع المناولة الأولى في سنّ مبكّر، مردِّدًا: "إزرعوا القربان في قلوب الأطفال واحصدوا قدّيسين".
6. لقد قال فيه القدّيس البابا يوحنا بولس الثاني عندما أعلنه مكرَّمًا، إذ عاش ببطولةٍ فضائل الإيمان والرجاء والمحبّة وسائر الفضائل المسيحيّة والإنسانيّة، في 21 كانون الأوّل 1992:
"الأب يعقوب، ابن القدّيس فرنسيس فقير أسيزي، كرّس حياته كلّها لله ولخدمة إخوته، غير موفّر شيئًا لذاته، حاملًا الجميع في فكره ومحبّته، من دون أي تمييز في العرق والدين والطبقة الاجتماعيّة. لهذا السبب، فرض نفسه على إعجاب الشعب اللبناني، إذ أصبح علامة للكاثوليك والأرثوذكس والمسلمين، وبالتالي مثالًا مجلّيًا للحوار بين الأديان والعمل المسكوني بين الكنائس بروح محبة المسيح. لقد أمضى حياته في صنع الخير، وبفضل أعماله ومؤسّساته، سمّاه الجميع "القدّيس منصور دي بول اللبناني"، واعتبروه مساويًا "للقديس يوحنا بوسكو" و"للقديس جوزف Cottolengo". فكان دائمًا وفي كلّ مكان هو هو، وظهر رجلاً قدّيسًا، واعيًا وأمينًا لتكريسه الرهباني ولكهنوته".
7. الطوباوي أبونا يعقوب، رجل الله وابن الكنيسة ومحبّ الإنسان الضعيف، هو لنا جميعًا المثال والقدرة في صنع الخير بسخاء، وفي الاتّكال على العناية الإلهيّة. إنّ مركز ابراهيم الحداد الاجتماعي، المكرَّس للطوباوي أبونا يعقوب، يندرج في خطّ هذه القدوة.
فليتمجّد به وفيه الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."