لبنان
01 كانون الثاني 2016, 10:36

عظة البطريرك الراعي في عيد رأس السنة 2016 : اللامبالاة بانتخاب رأس لجسم الوطن تنبسط إلى لامبالاة بالحياة الاقتصادية

ترأس غبطة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس رأس السنة في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه المطارنة بولس الصياح، حنا علوان رولان ابو جودة وعاد ابي كرم ولفيف من الكهنة، في حضور شخصيات سياسية واجتماعية وحشد من المؤمنين. بعد الانجيل المقدس، ألقى غبطته عظة قال فيها:

بعد ثمانية أيام من ولادة ابن الله إنسانًا، كُرِّس للربّ، بحسب الشريعة، "ودُعي اسمُه يسوع". وهو الاسم الذي كشفه الملاك ليوسف في الحلم، ويعني "الله يخلّص شعبه من خطاياهم" (متى1: 21). ففي كلّ مرّة نلفظ اسمه، ينبغي أن يتذكّر كلّ واحد وواحدة منّا أنّ يسوع جاء إلى العالم ليخلّصه شخصيًّا. بخلاص الإنسان يكون السلام في العالم. ولهذا السبب اختار الطوباوي بولس السادس اليوم الأوّل من كلّ سنة ليكون "اليوم العالمي للسلام". وفي كلّ سنة كان يوجّه البابوات رسالة بموضوع السلام. ولهذه السنة الجديدة 2016، وجّه قداسة البابا فرنسيس رسالة موضوعها: "انتصرْ على اللامبالاة واكسبْ السلام".


يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة في عيد اسم يسوع ورأس العام الجديد 2016. وسنحتفل بيوم السلام العالمي في الأحد المقبل في الكرسي البطريركي. وتنظّمه اللّجنة الأسقفية "عدالة وسلام".


ويطيب لي أن أقدّم، باسم الأسرة البطريركية، لكم ولجميع اللّبنانيّين المقيمين والمنتشرين، ولأبناء كنيستنا المتواجدين في بلدان الشّرق الأوسط والقارّات الخمس، أطيب التهاني والتمنيات بالسنة الجديدة 2016، راجين أن تكون ملأى بالخير والنعم والسلام. إنّنا نبادلكم ونبادلهم التهاني التي أعربتُم وأعربوا عنها بالبطاقات والمعايدات والحضور إلى هذا الكرسي البطريركي. ونذكر بصلاتنا جميع الحزانى الذين فقدوا عزيزًا عليهم في مناسبة العيدَين السعيدَين. نسأل لهم العزاء الإلهي، ولموتاهم الراحة الأبدية في السماء.

يقترن اسم يسوع بالخلاص، فهو "الذي يخلّص شعبه من خطاياهم" (متى 2؛21)، وبالسلام، فيوم ميلاده أنشد الملائكة "السلام على الأرض". لكن "يسوع هو سلامنا"، كما يقول القديس بولس (أفسس 2: 14). ويسوع نفسه استودعنا سلامه أي ذاته (راجع يو 14؛5)، سلامًا داخليًّا عميقًا، وسلامًا اجتماعيًّا نبنيه بالأخوّة والعدالة والتضامن مع جميع الناس، وسلامًا وطنيًّا وسياسيًّا نوطّده بتأمين خدمة الإنسان والمجتمع والخير العام.

إن خلاص الإنسان تدبير إلهي شامل تمّ في تجسّد ابن الله وموته وقيامته. وبفعل الروح القدس عمّ هذا التدبير البشرية جمعاء والكون. الخلاص هو دخول البشر أجمعين في شركة مع الله بالمسيح وفعل الروح القدس. وهو دعوة كلّ إنسان وغاية وجوده، ومحور حياته.
تعلّم الكنيسة أن "الخلاص بالمسيح"لا يتمّ فقط في الذين يؤمنون به، بل في كلّ الناس ذوي الإرادة الصالحة، الذين تعمل النعمة في قلوبهم بطريقة خفيّة. بما أن المسيح مات عن الجميع، وبما أن دعوة الإنسان الأخيرة هي حقًّا واحدة للجميع كدعوة إلهية، فأنّ الروح القدس يقدّم للجميع إمكانية الاشتراك في الخلاص النابع من السّر الفصحي، بطريقة يعرفها الله وحده" (الدستور الراعوي: الكنيسة في عالم اليوم، 22).

إنّ ثمرة الخلاص هي السلام داخل الإنسان، السلام الذي يعطيه المسيح بالمصالحة مع الله والذات. إنّه يختلف عن السلام الذي يعطيه العالم (راجع يو 14: 27). فسلام العالم مصالح آنية ومال وجاه وسلطة، سرعان ما تتبخرّ فتولّد كآبة الروح والحزن الداخلي وانتفاء السعادة الحقيقية. وسلامُ العالم استبداد القوي على الضعيف، واستكبار وقمع وظلم وكمّ الأفواه وحرمان الناس من إمكانية التعبير عن وجعهم والمطالبة بحقوقهم الأساسية.

يربط قداسة البابا فرنسيس "اكتساب السلام الحقّ بالانتصار على اللامبالاة". ويؤكد أن فقدان السلام اليوم، الظاهر في الحروب والنزاعات والاستبداد والظلم وقهر المواطنين وإفقارهم وسلب حقوقهم، إنّما سببه اللامبالاة بالله. هذه اللامبالاة بلغت عندنا في لبنان لامبالاة سافرة من الجماعة السياسية بالدولة اللبنانية ومؤسساتها الدستورية وحياتها الاقتصادية، وبشعبها وحقوقه ومصيره، وبشبابه ومستقبلهم على أرض الوطن ومصيرهم.
إن ذروة هذه اللامبالاة القتالة هي عناد الكتل السياسية والنيابية في الإحجام عن انتخاب رئيس للجمهورية، الذي هو المحرّك الوحيد والأساسي للمؤسستين الدستوريتين: المجلس النيابي كسلطة للتشريع والمساءلة والمحاسبة، والحكومة كسلطة للإجراء والتنفيذ. ومن المؤسف حقًا أن يمرّ شهر على إعلان المبادرة العملية الجدية المدعومة دوليًا بشأن انتخاب رئيس للجمهورية من دون مقاربتها جديًا من قبل هذه الكتل. إننا نعود ونكرّر التمييز بين مبادرة انتخاب الرئيس والاسم المطروح. المقاربة تقتضي أولاً الالتزام بانتخاب الرئيس، وثانيًا التشاور بشأن الاسم الذي يحظى بالأغلبية المطلوبة في الدستور كمرشح للرئاسة. ومن الأفضل والأسلم ديمقراطيًا الوصول إلى الجلسات الانتخابية بمرشحين، كما تصنع الدول الراقية. وبالطبع ينبغي أن يتحلى المرشح بالحكمة والمهارة والتجرد، وبإيمانه بالمؤسسات الدستورية التي تصنع الجمهورية، وبمعرفته المتمرسة بشؤونها. بغياب الرئيس تدبّ الفوضى، وتفشل المؤسسات، فيغيب السلام الداخلي، وتكثر الأزمات الاجتماعية والأمنية.

هذه اللامبالاة بانتخاب رأس لجسم الوطن تنبسط إلى لامبالاة بالحياة الاقتصادية التي من شأنها أن توفّر للشعب إمكانية العيش بكرامة، ولقواه الحيّة فرص العمل اللازمة. ومعلوم أن "الإنماء الاقتصادي هو الاسم الجديد للسلام" (الطوباوي البابا بولس السادس: ترقي الشعوب، 87). ذلك أنه يفتح أبواب الإنماء الثقافي والاجتماعي الشامل للإنسان وللمجتمع. كيف يتوفّر هذا الإنماء وتتعطل عندنا قدرات القطاع العام وواجب تعاون الدولة مع القطاعات الخاصة والمجتمع المدني، وتُشلّ المبادرات الخاصة بالتسلّط وفرض الخوّات والمبالغ المالية؟ كيف يمكن القبول بإهمال واجب وضع سياسة اقتصادية واجتماعية واضحة، وإهمال المسنّين والمرضى الذين يُحرمون مما يجب لهم من اهتمام وعناية من قبل الدولة لكي يعيشوا شيخوختهم بكرامة، وإهمال تأمين فرص عمل لمواجهة حالة البطالة الآخذة بالتزايد والمتسبّبة بآفة الهجرة القاتلة التي تقتضي تعاونًا وثيقًا بين الدولة والقطاعات المصرفية والإنتاجية الخاصة والمدنية للوقوف إلى جانب العاطلين عن العمل حتى لا ييأسوا من الحياة في وطنهم؟ (راجع: مذكرة اقتصادية، اقتصاد لمستقبل لبنان، 22-23).

في يوم السلام هذا، وهو اليوم الأول من العام الجديد 2016، نلتمس من المسيح الرب "أمير السلام"، أن يبلغ بنا جميعًا وبكل إنسان إلى السلام الحقيقي في داخلنا أولاً من خلال ترميم النظام الذي أراده الله، وهو أن تنتصر النفس على الأميال المنحرفة: أن تخضع للأسمى، وتنتصر على الأدنى. عندها تجد السلام الحقيقي، الأكيد، المنظّم وفقًا لنظام الله، وهو "أن الله يأمر النفسَ، والنفسُ الجسد" (القديس اغسطينوس: راجع القديس البابا يوحنا الثالث والعشرين: سلام في الأرض، 88). عندما نحصل على السلام في داخلنا، نستطيع أن ننشره من حولنا، ونستحق أن نرفع نشيد المجد والتسبيح مع الملائكة في ليلة الميلاد:"المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر" (لو 2؛14). آمين.