عدل ورحمة: زيارة البابا لاون دعوة إلى إحياء روح المصالحة داخل العائلة وبين أبناء المجتمع اللّبنانيّ
لا شكّ في أنّ التّحضير لاستقبال الحبر الأعظم في بلاد الأرز مناسبة ثمينة لإعادة صياغة العلاقات الإنسانيّة بين أفراد الشّعب الواحد وفرصة لإطلاق مرحلة جديدة تُبنى على الاحترام المتبادل، والاعتراف بالأخطاء، والانفتاح على الآخر. إنّها لحظة ينبغي أن تتحوّل إلى دعوة جماعيّة لإيقاظ الضّمير الإنسانيّ وإعادة تنشيط ثقافة الوساطة، الّتي تُصلح ما أفسده الزّمن وتُرمّم الجراح المخفيّة في القلوب".
وللمناسبة فند رئيس الجمعية الأب الدكتور نجيب بعقليني، أبعاد زيارة البابا على مسيرتي العائلة والمجتمع، متوقفًا عند نقاط محدّدة:
"1- مسيرة الزَّواج، فأكّد أنّ "الزَّواجَ المبنيّ على الحُبّ ركيزةٌ أساسيَّة لنجاح الحياة الزّوجيَّة والعائليَّة معًا، فالحُبّ ليس ومضةً عابرة، بل مسيرة تنمو تدريجًا وباستمرار، رغم الصّعوبات والظُّروف الطّارئة وغير المُتوقَّعة. لكن، هل يُدرك الرَّجُل والمرأة أنّ الحياة المُشتركة في إطار الزَّواج هي مشروعُ تحدٍّ دائم ومُغامرة جريئة؟".
الزّواجُ، بطبيعته، عُرضة للفشل والاهتزاز، والغرق في صُعوبات ومشاكل ونزاعات… غير أنّ وعي الزّوجين، وإيمانَهما بأنّ الحُبَّ فعلُ بناءٍ لا عاطفةً عابرة، يحوِّلان كلّ أزمة إلى فرصةٍ للنُّضوج، وكلّ خلافٍ إلى خطوةٍ نحو فهمٍ أعمق للآخر."
2- مسيرة الدّول، فرأى أنّ "الدّول مثل الأفراد، تمرّ بمراحل: تأسيس، بناء، ازدهار، وأحيانًا ضُعف أو انكسار. ما من دولة في التّاريخ سارت في خطّ ثابت من القوَّة من دون التّعرّض لهزّات أو أزمات. نعم، الدّول تتعثّر، وتواجه مشاكِل اقتصاديَّة أو سياسيَّة أو اجتماعيَّة، ومع تفاقُم الصِّراعات الدّوليَّة واتّساع التّوتُّر والحروب، يدرك عالمنا اليوم أسباب هذه النّزاعات المؤلمة والمقيتة الّتي تُدمّر الإنسان والطّبيعة معًا".
وتساءل: "أوليس من واجبنا أن نبحث عن "الوِساطة" كسبيلٍ وحيدٍ للحوار والتّفاهُم والتّعاون؟ الوساطة القانونيّة، أيّ التّحكيم، تعني التّوسّط بين طرفين، للتّوفيق بين وجهات النّظر وإصلاح ذات البَين وتسوية الخلافات. إنّها الطّريق الأنجع لحلّ القضايا المُتنازع عليها، إذا توفّرت الإرادةُ الصَّادِقة والإصغاءُ المُتبادل".
3- "وِساطة الخلافات الزّوجيَّة… سلامٌ داخل الجدران، فاوضح أنّ "الوساطة الرّاعويّة تقوم على مرافقة الأشخاص أو الأزواج أو العائلات في حالات الخلاف أو الأزمات، بهدف المُصالحة والحوار واستعادة التّواصل، بعيدًا عن العنف أو القطيعة أو اللّجوء السّريع إلى القضاء. الوِساطة، في جوهرها، تدخُّل من أجل الخير العامّ وإعادة التّوازن، هدفُها إيجاد حلولٍ عادلة للأزمات القائمة، والتّوصُّل إلى اتّفاقٍ يحقِّقُ الصُّلح بين المُتخاصمين."
تابع: "في الخلافات الزّوجيَّة، يسعى الوسيطُ إلى استعادة لُغة التّواصل، بين الزّوجين، الّتي انكسرت تحت وطأة الجراح اليوميّة وسوء الفهم وتراكُم المشاكل الصّغيرة. يحاول إعادة الإصغاء الصّادق، ويذكّر الطّرفين بما جمعهما قبل أن تفرّقَهما التّفاصيل، فالعائلة هي الخليَّة الأولى في المجتمع، وإذا تفكّكت، تفتّت معها السّلام الدّاخليّ الّذي يقوم عليه الوطن بأسره".
4- وِساطة وقف الحرب… سلام على رُقعة الوطن، اشار الأب بعقليني إلى أنّه "في النِّزاعات السّياسيَّة والعسكريَّة، يواجه الوسيط مشهدًا أكثر تعقيدًا من الجراح والاتّهامات وانعدام الثّقة. مهمّته إعادة الأطراف المُتحاربة إلى طاولة الحوار، وجعل صوت العقل يعلو على هدير السّلاح. على غرار الخِلاف بين الزّوجين، تبدأ الحربُ بكلمة، ثمّ تتصاعد إلى قطيعة، وتتحوّل إلى عنفٍ يُغرق الجميع في الخراب. هنا تبرز قيمة الوِساطة كأحد فنون الإصغاء والبحث عن المُشترك الإنسانيّ قبل المصالح الضّيّقة.
5- قواسم مُشتركة، عدّد الأب بعقليني قواسم مشتركة بين وِساطة العائلة ووِساطة الدول:
•الحاجةُ إلى الإصغاء قبل إصدار الأحكام.
•استعادةُ الثّقة كشرطٍ رئيس لأيّ مُصالحة.
•النّيَّة الصَّادقة لإيجاد حلٍّ لا لتحقيق انتصار.
•الإعتراف بالأخطاء وفتح صفحة جديدة قائمة على احترام مُتبادل".
وأوضح أنّه "في الحالات كافّة، لا يفرِض الوسيط حلولًا، بل يخلق مساحة آمنة للحِوار، تُمكّن الأطراف من إيجاد طريقهم إلى التّفاهُم والسّلام."
6- كيف تنجح الوِساطة؟ إعتبر أنّ "لنجاح أيّ وِساطة، لا بدّ من:
1.الحياد الكامل من قبل الوسيط.
2.الصّبر وطول الأناة، لأنّ التّغيير لا يتحقَّق دفعة واحدة.
3.التّركيز على الأهداف المُشتركة بدل الغرق في تفاصيل الخلاف.
4.إرادة الأطراف الصَّادقة في التّغيير، لأنّ غيابها يحوّل الوِساطة إلى مجرّد كلام فارغ".
7- لماذا تتراكمُ الخلافات؟ رأى أنّ "أسبابًا عدّة تؤدّي إلى تراكُم الخلافات من بينها: غياب التّواصل الحقيقيّ، استبدال الحوار بالتّأويل، أنانيَّة في الحُبّ، سيطرة الغضب على العقل… كلُّها عوامل تؤدّي إلى تراكم الخلافات. كذلك الصّمت عن الجرح، سواء في العائلة أو في الوطن، يولّد الانفجار، لأنّ السُّكوت ليس دائمًا علامة حِكمة، بل نذير انهيار، أحيانًا".
وإعتبر الأب بعقليني أنّ "الحلّ يبدأ من الإنسان نفسِه، من قُدرته على العودة إلى ما يجمعُه بالآخر قبل ما يفرّقُه عنه. "كما تحتاجُ العائلة إلى الحبّ لتستمرّ، هكذا الأوطان، تحتاجُ إلى العدالة والاحترام المتبادَل لتُكمل مسيرتها"، لافتًا إلى أنّ "السّلامَ ليس اتّفاقًا سياسيًّا أو لحظةَ مُصالحةٍ عابرة، بل ثقافة تُبنى في البيت، في المدرسة، وفي العلاقات بين الأفراد والجماعات".
9- زمن الوساطات… وصحوةُ الضّمير الإنسانيّ، اعتبر أنّه "لا بدّ من القيام بخطوات إيجابيّة تُعيد بناء الجسور، مستفيدين من حضور البابا ومن التّفاعل البنّاء مع كلماته المُفعمة بالرّجاء والأمل. حضوره ليس مجرّد زيارة، بل صرخة روحيّة تهزّ الأعماق، وتدعو كلّ فرد إلى مراجعة ذاته وسلوكه وموقعه من مسؤوليّة الإصلاح. فهل ننتظر أن تكشف توجيهاته الحكيمة ضعفنا وتعرّينا؟ أليس الأجدى أن نبادر نحن، بلا تسويف، إلى تصحيح مسيرتنا قبل أن يُسائلنا: ماذا فعلتم بإنسانيّتكم؟ وبالرّسالة الّتي أُوكلت إليكم في هذا العالم؟".
أضاف: "لنتدارك أوضاعنا الّتي تحتاج اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، إلى بصيرة نافذة وتوبة صادقة وإرادة فعليّة قبل أن تنهار القيم وتتلاشى المعايير. ولنعتبر أنّ زيارة البابا ليست حدثًا عابرًا، بل فرصة لتجديد العهد مع ذواتنا، ومع بعضنا البعض، ومع وطنٍ يحتاج إلى نهضة أخلاقيّة وروحيّة تُعيد إليه وجهه الحقيقيّ. أوليس عالمنا اليوم، بكلّ ما فيه من تسارعٍ وضجيجٍ وتشتّت، بحاجةٍ إلى مزيدٍ من "الوساطات"؟ وساطات لا تتعلّق بوقف حربٍ بين دولتين فحسب، بل وقف الحروب الصّغيرة الّتي تنفجر يوميًّا داخل الإنسان، في بيته، في فكره، في مجتمعه. نحن نعيش زمن الانهيار النّفسيّ والفكريّ والاجتماعيّ والرّوحيّ، كأنّ الإنسانَ المُعاصر فقد توازنه بين ما يملِك من علمٍ وتقنيّة، وما يحتاجُ من رحمةٍ وإنسانيَّةٍ. كم نحتاج إلى وسطاء سلامٍ في حياتنا اليوميَّة، لا يحملون راية الانتصار على الآخر، بل رايةَ الإصغاء والمُصالحة".
وتساءل: "هل يُعقل أن يكره الزّوجان بعضهما البعض، بعدما أحبَّا، يومًا، بالشّغف نفسه؟ كيف يتحوّلُ الحُبّ إلى كراهيَّة، والتّفاهُم إلى جدارٍ من الصَّمت؟ حين ننسى "الآخر"، ننسى ذاتنا، فمن يسعى إلى إلغاء أخيه الإنسان، إنّما يُلغي إنسانيَّته أوّلًا".
وأكّد أنّ "لا خلاصَ لنا من هذا التّدهور إلّا بصحوة ضميرٍ حقيقيَّة، تُعيد الإنسانَ إلى جوهره، إلى صورتِه الأولى الّتي أرادها الخالِق: كائن يحمل المحبَّة لا الحقدَ، السَّلام لا العُنفَ، التّفاهُم لا الإلغاء. لا يُفرض السّلام بالقوّة أو بالسّلاح، بل يُبنى من الدّاخل، من تربية الضّمير على الرَّحمة والعدل، ومن إعادة الثّقة بين الإنسان وأخيه الإنسان. لا يجوز أن نقف مكتوفي الأيدي أمام التّفكّكٍ والصّراعاتٍ والصّمتٍ القاتل في عائلاتنا، فالأسرة هي النّواة الأولى للسّلامٍ، وإذا انهارت، انهار المُجتمع بأكملِه وسار نحو الخراب. من هنا، الوِساطة الّتي يحتاجُها عالمنا اليوم ليست بين الدّول فحسب، بل بين القلوب، بين الإنسان ونفسه، بين الإنسان والآخر، بين الإنسان والله. لنبدأ من البيت، من كلمةٍ صادقةٍ تُعيد الجُسور المهدَّمة، ولنؤمِن بأنّ لا سلام في العالم من دون سلامٍ في القلب."
أشار إلى أنّ "الواقع المرير الّذي يعيشه مجتمعُنا ليس قدرًا محتومًا، بل نتيجة خياراتنا اليوميّة: كيف نُحبّ، كيف نُحاور، وكيف نختلف. نحتاج إلى ثورةٍ هادئة، تُعيد ترتيب أولويَّاتنا، فتجعل من الإنسان قيمةً عُليا، ومن الحوار طريقًا، ومن الرَّحمة قاعدةً للحياة المُشتركة. نحن مدعوّون إلى أن نكون وُسطاء سلامٍ في حياتنا اليوميّة، فحين يستيقظ الضّمير، يتغيّر الإنسان، ويتغيّر المُجتمع. وحين يصبح الإنسانُ أكثر إنسانيَّة، يُشفى العالم من قسوته، وتُزهر في داخله قيمُ العدالة والرَّحمة والسّلام. لنبنِ حضارة الضّمير الحيّ، حضارة لا تُقصي أحدًا، بل تجمع المُختلفين على أساس الاحترام، وتُعيد للإنسان وجهه المشرق كما أراده الله: خليفته على الأرض، لا مخرّبًا لها. فليكن التّغيير مسيرَتنا المُشتركة، نحو مجتمعٍ أقلَّ ألمًا، وأكثرَ محبّة، وأكثرَ إنسانيَّة".
وخلص إلى أنّ "للنّجاة من أزماتنا المُتراكمة، لا بدّ أن نُعيد تشكيل وعينا تجاه ما نعيشه يوميًّا، وأن نتعامل بجدّ مع واقعنا الملموس والآثار الّتي يخلّفها، سواء كانت بنّاءة تدفعنا إلى الأمام، أو مُنهكة تُبطئ خطواتنا. فالتّغيير يبدأ حين يصبح الإنسان قادرًا على قراءة حياته بصفاء وفهمٍ صادق. ومع الوعي، تأتي القدرة على اتّخاذ القرار الحرّ، والرّغبة في المبادرة، والالتزام بالعمل الدّؤوب، والاحتفاظ بحلمٍ يحرّكنا، وطموحٍ يفتح لنا دروبًا جديدة نحو مستقبل أكثر إشراقًا. عندئذ يمكننا عيش حياة تستحقّ الجهد والتّعب، حياة ينمو فيها الإنسان ويزدهر. فهل هذا قابل للتّحقّق؟ وهل ما زالت "الحياة الجميلة" ممكنة؟ الجواب رهن قدرتنا على المثابرة وعدم الاستسلام".
وإختتم: "على الإنسان مواجهة الإحباط بدل الاستغراق فيه، ورفض العزلة المدمّرة، وخلع ثوب اللّامبالاة عنه. عليه العمل بصدق ليحافظ على روحٍ مطمئنة، وفكرٍ متّقد، وعزيمة قادرة على الصّمود أمام العثرات. جوهر الإنسان يدعونا إلى حماية الحياة والدّفاع عن قيمها، من خلال التّمسّك بالكرامة والمبادئ الّتي تمنح وجودنا معنى واستقرارًا. مبادئ تُبعدنا عن الإيذاء اللّفظيّ والجسديّ، وعن السّخريّة والاحتقار، وعن العنف والقسوة بكلّ أشكالها. عندما نحترم الآخر ونصون مشاعره، نُعيد للحياة رقيَّها وهدوءها. "كلّ شيء سيمضي إلى الأفضل، ولو بطريقة مغايرة"… ألّا يقود هذا التّغيّر إلى إنسانيَّة أكثر نضجًا وعمقًا؟".
