الفاتيكان
17 كانون الأول 2020, 13:30

صدور رسالة البابا لليوم العالميّ الـ54 للسّلام، وهذا ما كتبه!

تيلي لوميار/ نورسات
صدرت اليوم عن الكرسيّ الرّسوليّ رسالة البابا فرنسيس لليوم العالميّ الرّابع والخمسين للسّلام، تحت عنوان "ثقافة العناية كمسيرة سلام"، وكتب فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

"على عتبة العام الجديد، أودّ أن أتقدّم بأحرّ التّحيّات إلى رؤساء الدّول والحكومات ورؤساء المنظّمات الدّوليّة والقادة الرّوحيّين والمؤمنين من مختلف الأديان، والرّجال والنّساء ذوي الإرادة الصّالحة. أتقدّم بأطيب تمنّياتي للجميع، لكي يتمكّن هذا العام من أن يجعل البشريّة تتقدّم على درب الأخوَّة والعدالة والسّلام بين الأفراد والجماعات والشّعوب والدّول.

لقد طُبع عام 2020 بالأزمة الصّحّيّة الكبيرة لفيروس الكورونا، والّتي تحوّلت إلى ظاهرة متعدّدة القطاعات وعالميّة، وأدّت إلى تفاقم الأزمات المترابطة، مثل أزمات المناخ والغذاء والأزمات الاقتصاديّة والهجرة، وتسبّبت في آلام وصعوبات شديدة. أفكّر أوّلاً في الّذين فقدوا أحد أفراد أسرتهم أو شخصًا عزيزًا، وإنّما أيضًا في الّذين فقدوا وظائفهم. ذكر مميّز يتوجّه إلى الأطبّاء والممرّضين والصّيادلة والباحثين والمتطوّعين والمرشدين وطاقم المستشفيات والمراكز الصّحّيّة الّذين بذلوا قصارى جهدهم وما زالوا يفعلون ذلك بجهود وتضحيات كبيرة لدرجة أنّ بعضهم قد ماتوا فيما كانوا يحاولون الاقتراب من المرضى للتّخفيف من معاناتهم أو لإنقاذ حياتهم. وإذ أشيد بهؤلاء الأشخاص، أجدّد ندائي إلى المسؤولين السّياسيّين والقطاع الخاصّ لكي يتّخذوا التّدابير المناسبة لضمان الحصول على لقاحات ضدَّ فيروس الكورونا وعلى التّقنيّات الأساسيّة اللّازمة لمساعدة المرضى وجميع الأشخاص الأكثر فقرًا وهشاشة.

من المؤلم أن نلاحظ أنّه، إلى جانب العديد من شهادات أعمال المحبّة والتّضامن، أنّ الأشكال المختلفة للقوميّة والعنصريّة وكراهيّة الأجانب والحروب والصّراعات الّتي تزرع الموت والدّمار تكتسب زخمًا جديدًا. هذه الأحداث وغيرها الّتي طبعت مسيرة البشريّة في العام الماضي، تعلّمنا أهمّيّة العناية ببعضنا البعض وبالخليقة، من أجل بناء مجتمع يقوم على علاقات الأخوَّة. لذلك اخترت كموضوع لهذه الرّسالة: ثقافة العناية كمسيرة سلام. ثقافة الرّعاية للقضاء على ثقافة اللّامبالاة والتّهميش والنّزاع الّتي غالبًا ما تسود اليوم.

نجد في العديد من التّقاليد الدّينيّة، روايات تشير إلى أصل الإنسان وعلاقته بالخالق والطّبيعة وبإخوته البشر. في الكتاب المقدّس، يكشف سفر التّكوين منذ البداية، عن أهمّيّة العناية بمخطّط الله للبشريّة أو الحفاظ عليه، مسلّطًا الضّوء على العلاقة بين الإنسان (آدم) والأرض (آداما). وبين الإخوة. في الرّواية البيبليّة للخلق، أوكل الله الجنّة "المغروسة في عدن" إلى يدي آدم بمهمّة "زراعتها وحفظها". وهذا يعني، من ناحية، جعل الأرض منتجة، ومن ناحية أخرى، حمايتها وجعلها تحتفظ بقدرتها على دعم الحياة. يصف الفعلان "يزرع" و"يحرس" علاقة آدم ببيته- الحديقة ويشيران أيضًا إلى الثّقة الّتي يضعها الله فيه في جعله سيّد الخليقة وحارسها. تولّد ولادة قايين وهابيل قصّة إخوة يفسّرها قايين– بشكل سلبيّ- من حيث الدّفاع أو الحراسة. وبعد أن قتل أخيه هابيل، أجاب قايين على سؤال الله على النّحو التّالي: "أَحَارِسٌ أَنَا لِأَخِي؟". إنَّ قايين بالطّبع هو "حارس" أخيه. إنّ هذه الرّوايات القديمة، الغنيّة بالرّمزيّة العميقة، كانت تحتوي قناعة نشعر بها اليوم: أنّ جميع الأمور مرتبطة ببعضها البعض، وأنّ العناية الحقيقيّة بحياتنا وعلاقاتنا مع الطّبيعة لا تنفصل عن الأخوّة والعدالة والأمانة إزاء الآخرين.

يقدّم الكتاب المقدّس الله، بالإضافة إلى كونه الخالق، على أنّه الشّخص الّذي يعتني بخلائقه، ولاسيّما بآدم وحوّاء وأولادهما. حتّى قايين عينه، على الرّغم من أنّ اللّعنة قد وقعت عليه بسبب الجريمة الّتي ارتكبها، يتلقى كعطيّة من الخالق علامة حماية، لكي تُحفظ حياته. هذه الحقيقة، فيما تؤكِّد الكرامة الّتي لا يمكن انتهاكها للشّخص البشريّ المخلوق على صورة الله ومثاله، تُظهر أيضًا المخطّط الإلهيّ للحفاظ على انسجام الخليقة، لأنّ السّلام والعنف لا يمكنهما أن يقيما في المسكن عينه. وبالتّالي فإنّ العناية بالخليقة هي في أساس تأسيس "السّبت" الّذي، بالإضافة إلى تنظيم العبادة الإلهيّة، كان يهدف إلى إعادة النّظام الاجتماعيّ والتّنبّه للفقراء. كذلك سمح الاحتفال باليوبيل، بمناسبة السّنة السّابعة، بهدنة للأرض وللعبيد والمدينين. في عام النّعمة هذا، كانت تتمُّ العناية بالأشدّ ضعفًا، وكان يُقدَّم لهم منظورًا جديدًا للحياة، لكي لا يكون هناك مُعوَز بين الشّعب. وتجدر الإشارة أيضًا إلى التّقليد النّبويّ، حيث تتجلّى ذروة الفهم البيبليّة للعدالة في الطّريقة الّتي تعامل فيها الجماعة الأشدَّ ضعفًا في داخلها. هذا هو السّبب في أنّ عاموس وأشعيا، بشكل خاصّ، يرفعان صوتهما باستمرار لصالح العدالة من أجل الفقراء، الّذين، وبسبب ضعفهم، يصغي إليهم فقط الله الّذي يعتني بهم.

تجسّد حياة يسوع وخدمته ذروة الإعلان عن محبّة الآب للبشريّة. في مجمع النّاصرة، أظهر يسوع نفسه على أنّه الشّخص الّذي كرّسه الرّبّ وأَرسَلَه ليعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم ويُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين. تشكّل هذه الأعمال المسيحانيّة، الخاصّة باليوبيل، أفصح شهادة عن الرّسالة الّتي أوكلها الآب إليه. في شفقته، يقترب المسيح من مرضى الجسد والرّوح ويشفيهم؛ يغفر للخطأة ويمنحهم حياة جديدة. يسوع هو الرّاعي الصّالح الّذي يعتني بالخراف؛ إنّه السّامريّ الصّالح الّذي ينحني على الجريح ويداوي جراحه ويعتني به. في ذروة رسالته، ختم يسوع عنايته بنا بتقديم نفسه على الصّليب وبالتّالي بتحريرنا من عبوديّة الخطيئة والموت. وهكذا، في بذل ذاته وتضحيته، فتح لنا طريق المحبّة ويقول لكلّ واحد منّا: اتبعني. وإعمَل أَنتَ أَيضًا مِثلَ ذلك".

تشكّل أعمال الرّحمة الرّوحيّة والجسديّة نواة خدمة محبّة الكنيسة الأولى. لقد مارس مسيحيّو الجيل الأوّل المشاركة لكي لا يكون أحدٌ منهم في حاجة واجتهدوا لكي يجعلوا الجماعة بيتًا مضيافًا، مفتوحًا لكلّ حالة بشريّة، ومستعدًّا لتحمّل مسؤوليّة الأكثر هشاشة. وهكذا أصبح من المعتاد تقديم هبات طوعيّة من أجل إشباع الفقراء ودفن الموتى وإطعام الأيتام والمسنّين وضحايا الكوارث، مثل النّاجين من الغرق. وعندما في فترات لاحقة، فقد سخاء المسيحيّين بعض الزّخم، أصرّ بعض آباء الكنيسة على أنّ الملكيّة قصدَها الله من أجل الخير العام. لقد كان القدّيس أمبروسيوس يؤكّد أنّ "الطّبيعة قد أفاضت كلّ شيء للبشر من أجل الاستخدام العامّ [...] لذلك، أنتجت الطّبيعة حقًّا مشتركًا للجميع، لكنَّ الجشع حوّله إلى مجرّد حقٍّ للبعض". وبعد أن تغلّبت الكنيسة على اضطهادات القرون الأولى، استغلّت الحرّيّة لكي تُلهم المجتمع وثقافته. "لقد أثار بؤس العصر قوى جديدة في خدمة المحبّة المسيحيّة. ويذكر التّاريخ العديد من الجمعيّات الخيريّة. [...] إذ تمَّ إنشاء العديد من المؤسّسات للتّخفيف من معاناة البشريّة: المستشفيات، وملاجئ الفقراء، ودور الأيتام، ودور العجزة وغيرها".

إنّ الخدمة الّتي أغنتها تأمّلات الآباء، وحرّكتها- على مرّ القرون- المحبّةُ الفاعلة للعديد من الشّهود النّيّرين للإيمان، أصبحت القلب النّابض للعقيدة الاجتماعيّة للكنيسة، وتقدّم ذاتها لجميع الأشخاص ذوي الإرادة الصّالحة، كإرث ثمين للمبادئ، وكمعيار ومؤشّر، تُستمدّ منهما لغةُ الرّعاية: تعزيز كرامة كلّ كائن بشريّ، والتّضامن مع الفقراء والضّعفاء، الدّعوة إلى الخير العامّ، وحماية الخلق.

إنّ مفهوم الشّخص، الّذي ولد ونضج في المسيحيّة، يساعد على البحث عن تنمية بشريّة كاملة. لأنّ كلمة شخص تعني دومًا "علاقة"، لا الفردانيّة، تؤكّد على الاشتمال لا الإقصاء، وعلى الكرامة الفريدة وغير القابلة للتّصرّف، لا الاستغلال. كلّ شخص بشريّ هو غاية بحدّ ذاته، وليس أداة تُثمّن بسبب المنفعة، وهو مخلوق ليعيش ضمن العائلة والجماعة والمجتمع، حيث كلّ الأفراد متساوون في الكرامة. ومن هذه الكرامة تتأتّى الحقوق الإنسانيّة، كما أيضًا الواجبات الّتي تقتضي مسوؤليّة قبول ومساعدة الفقراء والمرضى والمهمّشين وكلّ شخص قريب وبعيد في الزّمان والمكان.

كلّ بعد للحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة، يجد ملأه عندما يوضع في خدمة الخير العامّ، أو في خدمة ظروف الحياة الاجتماعيّة الّتي تسمح للجماعة والأفراد ببلوغ كمالهم بصورة أتمّ وأسرع. لذا فإنّه يتعيّن على خططنا وجهودنا أن تأخذ دومًا في عين الاعتبار العائلة البشريّة برمّتها، مع التّفكير بنتائجها في الحاضر وفيما يتعلّق بأجيال المستقبل. وتُظهر لنا صحّة وآنيّة هذا الأمر جائحةُ فيروس الكورونا، أذ وجدنا أمامها أنّنا على متن المركب نفسه، وأنّنا ضعفاء ومرتبكون، لكن أدركنا في الوقت نفسه أنّنا مهمّون وضروريّون، وعلينا أن نجذّف معًا، لأنّ لا أحد يستطيع أن يخلّص بمفرده، ولا يمكن لأيّ دولة أن تضمن لوحدها الخير العامّ لمواطنيها.

إنّ التّضامن يعبّر بشكل ملموس عن المحبّة تجاه الآخر، ليس كشعور مبهم، بل كإصرار حازم ومثابر على الالتزام لصالح الخير العامّ: أيّ خير الجميع، وكلّ فرد، لأنّنا جميعنا مسؤولون عن الجميع. إنّ التّضامن يساعدنا على رؤية الآخرين– أكانوا أشخاصًا أم شعوبًا أم أوطانًا– ليس كمجرّد معطيات إحصائيّة، أو كأداة تُستغلّ وتُطرح جانبًا عندما تفقد منفعتها، بل كأشخاص قريبين، كرفاق الدّرب، المدعوّين إلى مشاركتنا وليمة الحياة، الّتي يدعو إليها الله الجميع.

إنّ الرّسالة العامّة "كن مسبّحًا" تأخذ في عين الاعتبار التّرابط القائم وسط الخلق، وتسلّط الضوء على ضرورة الإصغاء، في الآن معًا، إلى صرخة الأشخاص الأكثر حاجة وباقي الخليقة أيضًا. من هذا الإصغاء المتنبّه والمثابر يمكن أن يُبصر النّور الاعتناء الفاعل بالأرض، الّتي هي بيتنا المشترك، كما بالفقراء أيضًا. في هذا السّياق، أودّ أن أؤكّد أنّ مشاعر الاتّحاد الحميم مع باقي كائنات الطّبيعة لا يمكن أن يكون أصيلاً إن لم يسكن في القلب الحنانُ والرّأفة والقلق على الكائنات البشريّة. السّلام والعدالة وحماية الخلق هي مسائل ثلاث مترابطة مع بعضها البعض، ولا يمكن فصلها والتّعامل معها بشكل منعزل كي لا نقع مجدّدًا في فخّ الاختزاليّة.

في زمن تسوده ثقافة الإقصاء، وإزاء تفاقم عدم المساواة داخل الدّول وفيما بينها، أودّ أن أدعو المسؤولين عن المنظّمات الدّوليّة والحكومات، وعالم الاقتصاد والعلم والاتّصالات الاجتماعيّة والمؤسّسات التّربويّة لأن يمسكوا ببوصلة المبادئ الّتي جاء ذكرها آنفًا، كي يرسموا وجهة مشتركة لعمليّة العولمة، "وجهةٌ إنسانيّة حقًّا". هذه الوجهة تسمح بتثمين قيمة كلّ شخص وكرامته، وبالتّصرّف معًا والتّضامن من أجل الخير العامّ، منتشلين الأشخاص الّذين يعانون من الفقر والمرض والعبوديّة والتّمييز والنّزاعات.

من خلال هذه البوصلة، أشجّع الجميع على أن يصبحوا أنبياء وشهودًا لثقافة الاعتناء، وكي يزيلوا الأشكال الكثيرة لعدم المساواة الاجتماعيّة. وهذا الأمر يصبح ممكنًا فقط من خلال دور رياديّ قويّ وواسع النّطاق تلعبه النّساء، في البيئة العائليّة وفي جميع البيئات الاجتماعيّة والسّياسيّة والمؤسّساتيّة... إنّ بوصلة المبادئ الاجتماعيّة، الّتي هي ضروريّة من أجل تعزيز ثقافة الرّعاية والاعتناء، هي مهمّة أيضًا بالنّسبة للعلاقات بين الدّول، الّتي ينبغي أن تُستلهم من الأخوّة، والاحترام المتبادل والتّعاضد واحترام القانون الدّوليّ. في هذا السّياق، لا بدّ من التّأكيد على حماية وتعزيز حقوق الإنسان الأساسيّة، الّتي هي كونيّة وغير قابلة للتّصرّف".

وذكّر البابا أيضا بأهمّيّة احترام القانون الإنسانيّ، خصوصًا في هذه المرحلة حيث تتواصل الصّراعات والحروب بدون انقطاع. وكتب أنّ "العديد من المناطق والجماعات لم تعد تتذكّر، وللأسف، الزّمن الّذي كانت تنعم فيه بالسّلام والأمن. فالعديد من المدن أصبحت مركزًا لانعدام الأمن: سكّانها يناضلون من أجل الحفاظ على نمط حياتهم الطّبيعيّ، ويتعرّضون للهجمات والقصف العشوائيّ، بالمتفجّرات والمدفعيّة والأسلحة الخفيفة. والأطفال عاجزون عن الدّراسة. والرّجال والنّساء لا يستطيعون العمل كي يعيلوا أُسرَهم. وحلّت المجاعة في مناطق لم تكن فيها معروفة في الماضي. ويجد الأشخاص أنفسهم مرغمين على الهروب، تاركين وراءهم بيوتهم، وتاريخهم العائليّ وجذورهم الثّقافيّة... إنّ مسبّبات الصّراع كثيرة، لكنّ النّتيجة واحدة: الدّمار والأزمة الإنسانيّة. علينا أن نتوقّف ونسائل أنفسنا: ما الّذي أدّى إلى تطبيع الصّراعات في العالم؟ وكيف تستطيع أن ترتدّ قلوبنا وتتغيّر ذهنيّتنا كي نبحث فعلاً عن السّلام في إطار التّضامن والأخوّة؟".

إنّ الهدر في الموارد من أجل تصنيع الأسلحة، خصوصًا تلك النّوويّة، وقال: "إنّ هذه الموارد يمكن أن تُستخدم لأولويّات أخرى، من أجل ضمان الأمن للأشخاص، وتعزيز السّلام والتّنمية البشريّة المتكاملة، ومكافحة الفقر، وتلبية الاحتياجات الصّحّيّة. وهذه قضايا سلّطت عليها الضّوء مشاكل عالميّة، شأن جائحة فيروس الكورونا والتّبدلّات المناخيّة. إنّ خطوة شجاعة تتمثّل في استخدام الأموال الّتي تُنفق على الأسلحة وباقي النّفقات العسكريّة من أجل إنشاء "صندوق عالميّ" يكون كفيلاً في القضاء نهائيًّا على الجوع والإسهام في نموّ البلدان الأكثر فقرًا.  

يتطلّب تعزيز ثقافة العناية عمليّة تربويّة وتشكّل بوصلة المبادئ الاجتماعيّة، لهذا الغرض، أداة موثوقة لمختلف السّياقات المترابطة. أودّ أن أعطي بعض الأمثلة في هذا الصّدد. إنّ التّربية على العناية تولّد في العائلة، النّواة الطّبيعيّة والأساسيّة للمجتمع، حيث يتعلّم المرء أن يعيش في علاقة وفي الاحترام المتبادل. ومع ذلك، تحتاج العائلة لأنّ توضَعَ في الظّروف الّتي تمُكّنها من أداء هذه المهمّة الحيويّة الّتي لا غنى عنها. وبالتّعاون مع العائلة أيضًا، هناك الفاعلون الآخرون المسؤولون عن التّعليم وهم المدارس والجامعات، وبالطّريقة عينها، في بعض النّواحي، هناك فاعلو التّواصل الاجتماعيّ. إنّهم مدعوّون لكي ينقلوا نظامًا من القيم يقوم على الاعتراف بكرامة كلّ شخص، وكلّ جماعة لغويّة وعرقيّة ودينيّة، ولكلّ شعب والحقوق الأساسيّة الّتي تنبع منه. إنَّ التّعليم هو أحد أركان المجتمع الأكثر عدالة وتضامنًا.

يمكن للأديان عامّة، وللقادة الدّينيّين بشكل خاصّ، أن يلعبوا دورًا لا غنى عنه في نقل قيم التّضامن، واحترام الاختلافات، والاستقبال والعناية بالأخوّة الأكثر هشاشة إلى المؤمنين والمجتمع. وفي هذا الصّدد، أذكِّر بكلمات البابا بولس السّادس الّتي وجهها إلى البرلمان الأوغندي في عام 1969: "لا تخافوا من الكنيسة؛ هي تكرِّمكم، وتثقّفكم لتكونوا مواطنين صادقين ومخلصين، هي لا تثير الخصومة والانقسامات، بل تسعى إلى تعزيز الحرّيّة السّليمة والعدالة الاجتماعيّة والسّلام؛ إذا كان لديها أيّ تفضيل، فهو التّفضيل للفقراء، ولتعليم الصّغار والشّعوب، وللعناية بالمتألّمين والفقراء". وإلى جميع العاملين في خدمة السّكّان، وفي المنظّمات الدّوليّة والحكوميّة وغير الحكوميّة، الّذين لديهم رسالة تربويّة، وإلى جميع الّذين يعملون في مجال التّعليم والبحث، أجدّد تشجيعي، لكي نتمكّن من الوصول إلى هدف تعليم "أكثر انفتاحًا وإدماجًا، قادرًا على الإصغاء الصّبّور، والحوار البناء والتّفاهم المتبادل". آمل أن تلقى هذه الدّعوة، الّتي وجّهتها في سياق الميثاق الّتربويّ العالميّ، قبولاً واسعًا ومتنوّعًا.

إنَّ ثقافة الرّعاية، كالتزام مشترك وتضامنيّ وتشاركيّ من أجل حماية وتعزيز كرامة الجميع وخيرهم، وكاستعداد للاهتمام والتّنبّه والشّفقة والمصالحة والشّفاء والاحترام المتبادل والقبول المتبادل، تشكّل وسيلة مميّزة لبناء السّلام. ففي العديد من أنحاء العالم، هناك حاجة إلى مسارات سلام تؤدّي إلى التئام الجراح وهناك حاجة إلى صانعي سلام مستعديّن لإطلاق عمليّات شفاء ولقاء متجدّد بذكاء وجرأة. ففي هذا الزّمن الّذي تتقدّم فيه سفينة البشريّة، الّتي تهزّها عاصفة الأزمة، بصعوبة في البحث عن أفق أكثر هدوءًا وسكينة، يمكن لدفّة كرامة الشّخص البشريّ و"بوصلة" المبادئ الاجتماعيّة الأساسيّة أن تسمحا لنا بالإبحار في مسار آمن ومشترك. كمسيحيّين، نحدق نظرنا إلى مريم العذراء نجمة البحر وأمّ الرّجاء. ونساهم معًا جميعًا للتّقدّم نحو أفق جديد من المحبّة والسّلام والأخوَّة والتّضامن والدّعم المتبادل والقبول المتبادل. فلا نستسلمنَّ إذًا لتجربة عدم المبالاة بالآخرين، ولاسيّما بالأشدّ ضعفًا، ولا نعتَد على أن نميل نظرنا إلى الجهة الأخرى، بل لنلتزم يوميًّا بشكل ملموس في تكوين جماعة مكوَّنة من إخوة يقبلون بعضهم البعض، ويعتنون ببعضهم البعض."