الفاتيكان
16 كانون الأول 2022, 10:30

صدور رسالة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالميّ السّادس والخمسين للسّلام

تيلي لوميار/ نورسات
تحت عنوان "لا أحد يمكنه أن يخلص بمفرده. الانطلاق مجدّدًا من فيروس الكورونا لكي نرسم معًا دروب سلام"، صدرت صباحًا رسالة البابا فرنسيس لليوم العالميّ السّادس والخمسين للسّلام كتب فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

""أَمَّا الأَزمِنَةُ والأَوقات فلا حاجةَ بِكُم، أَيُّها الإِخوَة، أَن يُكتَبَ إِلَيكم فيها لأَنَّكم تعرِفونَ حَقَّ المعرِفَة أَنَّ يَومَ الرَّبِّ يَأتي كَالسَّارِقِ في اللَّيل". بهذه الكلمات، دعا بولس الرّسول جماعة تسالونيكي، الّتي كانت تنتظر اللّقاء مع الرّبّ، لكي تبقى ثابتة، بأقدام وقلوب مغروسة في الأرض، وقادرة على النّظر باهتمام إلى وقائع وأحداث التّاريخ. لذلك، حتّى لو بدت أحداث حياتنا مأساويّة وشعرنا بأنّنا قد دُفعنا إلى النّفق المظلم والصّعب للظّلم والألم، نحن مدعوّون لكي نُبقي قلوبنا مفتوحة على الرّجاء، واثقين في الله الّذي يحضر بيننا ويرافقنا بحنان ويعضدنا في التّعب ولاسيّما يوجّه مسيرتنا. لهذا السّبب، يحثّ القدّيس بولس الجماعة باستمرار على السّهر والبحث عن الخير والعدالة والحقّ: "فلا نَنامَنَّ كما يَفعَلُ سائِرُ النَّاس، بل علَينا أَن نَسهَرَ ونَحنُ صاحون". إنّها دعوة لكي نبقى صاحين ولكي لا ننغلق في الخوف أو في الألم أو الاستسلام، ولكي لا نستسلم للتّلهّي ولكي لا تثبط عزيمتنا وإنّما لكي نكون مثل رقباء قادرين على السّهر وعلى رؤية أنوار الفجر الأولى لاسيّما في السّاعات الأكثر ظلامًا.  

لقد دفعنا فيروس الكورونا إلى قلب اللّيل وزعزع استقرار حياتنا العاديّة، وقلب خططنا وعاداتنا رأسًا على عقب، وقلب الهدوء الظّاهر حتّى في المجتمعات الأكثر امتيازًا، وولد الارتباك والألم، وتسبّب في وفاة العديد من إخوتنا وأخواتنا. وإذ دُفعنا في زوبعة التّحدّيات المفاجئة وفي موقف لم يكن واضحًا تمامًا حتّى من وجهة نظر علميّة، تحرّك عالم الصّحّة لكي يخفّف آلام الكثيرين ويحاول أن يجد لها علاجًا؛ وكذلك السّلطات السّياسيّة، الّتي اضطرّت إلى اتّخاذ تدابير كبيرة من حيث تنظيم وإدارة حالة الطّوارئ. بالإضافة إلى الأعراض الجسديّة، تسبّب فيروس الكورونا، مع تأثيرات طويلة المدى، بضيق عامّ تركّز في قلوب العديد من الأشخاص والعائلات، مع آثار لا يمكن إهمالها، غذّتها فترات طويلة من العزلة وقيود مختلفة للحرّيّة. كذلك، لا يمكننا أن ننسى كيف أثّر الوباء على بعض نقاط الضّعف في النّظام الاجتماعيّ والاقتصاديّ، وأدّى إلى ظهور تناقضات وعدم مساواة. لقد هدّد الأمن الوظيفيّ لكثيرين وزاد من حدّة الشّعور بالوحدة المتفشّي بشكل متزايد في مجتمعاتنا، ولاسيّما لدى الأشخاص الأشدَّ ضعفًا والفقراء. لنفكّر، على سبيل المثال، في الملايين من العمّال غير الرّسميّين في أماكن عديدة من العالم، والّذين قد تركوا بدون عمل وبدون أيّ دعم طوال فترة الحجر. نادرًا ما يتقدّم الأفراد والمجتمع في المواقف الّتي تولد مثل هذا الشّعور بالهزيمة والمرارة: فهو في الواقع، يضعف الجهود الّتي بُذلت من أجل السّلام ويسبّب صراعات اجتماعيّة وإحباطات وعنفًا بمختلف أنواعه. وبهذا المعنى، يبدو أنّ الوباء قد بلبل حتّى أكثر المناطق سلامًا في عالمنا، وأظهر عددًا لا يحصى من الهشاشة والضّعف.

بعد ثلاث سنوات، حان الوقت لكي نأخذ بعض الوقت لكي نسأل أنفسنا ونتعلّم وننمو ونسمح بأن نتحوّل كأفراد وجماعات؛ وقت مميّز لكي نستعدَّ لـ"يوم الرّبّ". لقد أتيحت لي الفرصة لكي أكرّر عدّة مرّات أنّنا لا نخرج من الأزمات أبدًا مثلما كنّا: إمّا نخرج أفضل أو أسوأ. ولذلك نحن اليوم مدعوّون لكي نسأل أنفسنا: ما الّذي تعلّمناه من حالة الوباء هذه؟ ما هي المسارات الجديدة الّتي علينا أن نسلكها لكي نتخلّى عن قيود عاداتنا القديمة، ولكي نكون مستعدّين بشكل أفضل، ونتجرّأ على الحداثة؟ ما هي علامات الحياة والرّجاء الّتي يمكننا أن نراها والّتي تساعدنا لكي نمضي قدمًا ونسعى لكي نجعل عالمنا أفضل؟ بالتّأكيد، بعد أن لمسنا لمس اليدِ الهشاشة الّتي تميّز الواقع البشريّ وحياتنا الشّخصيّة، يمكننا أن نقول إنّ أعظم درس تركه لنا فيروس الكورونا كإرث هو الإدراك بأنّنا جميعًا بحاجة إلى بعضنا البعض، وأنّ أعظم كنز لدينا، وإن كان الأكثر هشاشة، هو الأخوة البشريّة، الّتي تقوم على البنوّة الإلهيّة المشتركة، وعلى أنّ لا أحد يمكنه أن يخلُص بمفرده. لذلك من الضّروريّ أن نبحث عن القيم العالميّة الّتي ترسم مسار هذه الأخوّة البشريّة ونعزّزها معًا. لقد تعلّمنا أيضًا أنّ الثّقة الّتي وضعناها في التّقدّم والتّكنولوجيا وآثار العولمة لم تكن مفرطة فحسب، بل تحوّلت أيضًا إلى تسمُّمٍ فرديّ ووثنيّ، يقوِّض الضّمان المنشود للعدالة والوئام والسّلام. في عالمنا الّذي يركض بسرعة كبيرة، غالبًا ما تغذّي مشاكل الاختلالات والظّلم والفقر والتّهميش المنتشرة العلل والصّراعات، وتولد العنف وحتى الحروب. وبينما أظهر الوباء من جهة هذا كلّه، إلّا أنّنا قد تمكّنّا، من جهة أخرى، من أن نقوم باكتشافات إيجابيّة: عودة مفيدة إلى التّواضع؛ إعادة تشكيل لبعض الادّعاءات الاستهلاكيّة؛ حسُّ تضامن متجدّد يشجّعنا على الخروج من أنانيّتنا لكي ننفتح على ألم الآخرين واحتياجاتهم؛ بالإضافة إلى الالتزام، وفي بعض الحالات البطوليّ، للعديد من الأشخاص الّذين بذلوا أنفسهم لكي يتمكّن الجميع من أن يتغلّبوا بشكل أفضل على مأساة حالة الطّوارئ. من هذه الخبرة جاء الوعي الأقوى الّذي يدعو الجميع، الشّعوب والأمم، لكي يضعوا كلمة "معًا" في المحور مرّة أخرى. والواقع معًا، في الإخوة والتّضامن، نحن نبني السّلام ونضمن العدالة، ونتغلّب على أكثر الأحداث إيلامًا. إنّ الأجوبة الأكثر فعاليّة على الوباء كانت في الواقع، تلك الّتي شهدت مجموعات اجتماعيّة ومؤسّسات عامّة وخاصّة ومنظّمات دوليّة متّحدة مع بعضها البعض لكي تجيب على التّحدّي، تاركةً مصالحها الشّخصيّة جانبًا. وحده السّلام الّذي يولد من الحبّ الأخويّ والمُتجرِّد يمكنه أن يساعدنا في التّغلّب على الأزمات الشّخصيّة والاجتماعيّة والعالميّة.

في الوقت عينه عندما تجرّأنا على أن نرجو أنّنا قد تخطّينا أسوأ من جائحة فيروس الكورونا، وقعت كارثة رهيبة جديدة على البشريّة. وشهدنا ظهور بلاء آخر: حرب أخرى، يمكننا أن نقارنها جزئيًّا بـفيروس الكورونا، وإنّما تقودها خيارات بشريّة مُذنِبة. إنَّ الحرب في أوكرانيا تحصد ضحايا أبرياء وتنشر الشّكّ والرّيبة، ليس فقط في الّذين يتأثّرون بها بشكل مباشر، وإنّما وبأسلوب واسع النّطاق وعشوائيّ للجميع، حتّى في الّذين، وعلى بعد آلاف الكيلومترات، يتألّمون بسبب آثارها الجانبيّة– يكفي فقط أن نفكّر فقط في مشاكل الحبوب وأسعار المحروقات. هذه ليست بالتّأكيد، حقبة ما بعد الكورونا الّتي كنّا نرجوها أو نتوقّعها. في الواقع، تمثّل هذه الحرب، إلى جانب جميع النّزاعات الأخرى حول العالم، هزيمة للبشريّة بأسرها وليس فقط للأطراف المعنيّة بشكل مباشر. وفيما تمّ العثور على لقاح لفيروس الكورونا، لم يتمّ بعد العثور على حلول مناسبة للحرب. من المؤكّد أنّ هزيمة فيروس الحرب هي أصعب من هزيمة الفيروسات الّتي تضرب الجسم البشريّ، لأنّه لا يأتي من الخارج، بل من الدّاخل، من القلب البشريّ الّذي تفسده الخطيئة.

فماذا يُطلب منّا إذن أن نفعل؟ أوّلاً علينا أن نسمح لحالة الطّوارئ الّتي عشناها بأن تغيِّر قلوبنا، أيّ أن نسمح لله، من خلال هذه اللّحظة التّاريخيّة، بأن يغيِّر معاييرنا المعتادة لتفسير العالم والواقع. لم يعد بإمكاننا أن نفكّر فقط في أن نحافظ على فسحة مصالحنا الشّخصيّة أو الوطنية، ولكن علينا أن نفكّر في ضوء الخير العامّ، بحسٍّ جماعيّ، أيّ بـ"نحن" منفتح على الأخوّة العالميّة. لا يمكننا أن نحصل على الحماية أنفسنا فقط، وإنّما حان الوقت لكي نلتزم جميعًا من أجل علاج مجتمعنا وكوكبنا، ولكي نضع الأسس لعالم أكثر عدلاً وسلمًا يلتزم بجدّيّة بالبحث عن خير يكون مُشترَكَا حقًّا. ولكي نفعل ذلك ونعيش بشكل أفضل بعد حالة الطّوارئ الّتي سبّبها فيروس الكورونا، لا يمكننا أن نتجاهل حقيقة أساسيّة: العديد من الأزمات الأخلاقيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة الّتي نعيشها هي مرتبطة ببعضها البعض، والمشاكل الّتي ننظر إليها كمشاكل فرديّة هي في الواقع أسباب أو نتائج لمشاكل أخرى. لذلك، نحن مدعوّون لكي نواجه تحدّيات عالمنا بمسؤوليّة ورحمة. علينا أن نعيد النّظر في موضوع ضمان الصّحّة العامّة للجميع؛ تعزيز أعمال سلام لوضع حدّ للصّراعات والحروب الّتي لا تولّد الضّحايا والفقر؛ العناية بشكل ملموس ببيتنا المشترك وتنفيذ تدابير واضحة وفعّالة للتّصدّي لتغيّر المناخ؛ محاربة فيروس عدم المساواة وضمان الغذاء والعمل اللّائق للجميع، ودعم الّذين يفتقرون حتّى إلى الحدّ الأدنى للأجور ويواجهون صعوبات كبيرة. نحن بحاجة إلى أن نطوِّر مع سياسات ملائمة، الاستقبال والادماج لاسيّما إزاء المهاجرين والّذين يعيشون التّهميش في مجتمعاتنا. فقط من خلال بذل ذواتنا في هذه المواقف، بإيثار مستوحى من محبّة الله اللّامتناهية والرّحيمة، سنتمكّن من أن نبني عالمًا جديدًا وأن نساهم في بناء ملكوت الله، الّذي هو ملكوت الحبّ والعدل والسّلام.

من خلال مشاركة هذه الأفكار، أتمنّى أن نتمكّن في العام الجديد من أن نسير معًا ونكتنز ممّا يمكن للتّاريخ أن يعلّمنا إيّاه. أتقدّم بأطيب التّمنّيات لرؤساء الدّول والحكومات ورؤساء المنظّمات الدّوليّة ولقادة الأديان المختلفة. وأتمنّى لجميع الرّجال والنّساء ذوي الإرادة الصّالحة أن يبنوا يومًا بعد يوم، كصانعي سلام، سنة جيّدة! لتشفع، مريم العذراء البريئة من دنس الخطيئة الأصليّة، أم يسوع وملكة السّلام، بنا وبالعالم أجمع".