لبنان
24 كانون الثاني 2025, 13:30

سيّدة النّجاة زحلة ودّعت الأب جورج حنّا بشير

تيلي لوميار/ نورسات
ودّعت كاتدرائيّة سيّدة النّجاة في زحلة أمس المتقدّم في الكهنة الأب جورج حنّا بشير، خلال رتبة جنّاز الكهنة ترأّسه رئيس أساقفة الفرزل وزحلة والبقاع للرّوم الملكيّين الكاثوليك المطران ابراهيم مخايل ابراهيم، بمشاركة راعي أبرشيّة زحلة المارونيّة المطران جوزف معوّض، ورئيس عامّ الرّهبانيّة الباسيليّة المخلّصيّة الأرشمندريت أنطوان ديب ممثّلًا بالقيّم العامّ الأب جيلبير وردة ولفيف من الإكليروس، بحضور عدد كبير من أبناء وبنات الرّعايا الّتي خدمها الأب بشير، وأفراد العائلة.

وللمناسبة، ألقى المطران ابراهيم كلمة مؤثّرة رثا فيها الأب جورج بشير قائلًا بحسب إعلام الأبرشيّة:

"نقرأ من انجيل يوحنّا هذه الآية الرّائعة: "حيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي. وإن كان أحد يخدمني يكرّمه الآب." (يو 12:26).

يفصح الله اليوم لذهني من خلالها قصده الإلهيّ الأبويّ باختياره الّذي لا يبدو لي غريبًا، كاهنًا من بين كهنتي الأحبّاء، متّضعًا مصلّيًا ثابت القلب صوفيًّا صبورًا شجاعًا تقيًّا غيورًا، ربّى الله فيه لسنين طويلةٍ خصالاً روحيّةً حميدةً، وزاده بنعمه الكثيرة، المعينة له على رسالةٍ كهنوتيّةٍ شريفةٍ، ألا وهو ولدي الحبيب، قدس الأب المتقدّم بين الكهنة البروتوبرسبيتيروس جورج حنّا بشير. هذا الكاهن الّذي نذر نفسه كلّ يومٍ لخدمة الرّبّ والعمل بكلمته، مفعمًا بالتّصميم على إكمال مشيئته الإلهيّة، خلاصًا للنّفوس الموكلة إليه، وصلاحًا وإصلاحًا للرّعيّة، وإعلانًا لحضور الرّبّ وقربه من بنيه وبناته المحبوبين منه.

كان الرّبّ جليسه في خلوته وأنيسه في صمته ليكتب ما رأى وسمع على قدر طاقة فهمه وإدراكه للكشف الإلهيّ. كان يؤمن أنّ كلمات الرّبّ تصبح بين يديه نارًا آكلةً، وخيرًا وصلاحًا لكثيرين. وكان واثقًا أيضًا أنّ يسوع المسيح يفيض روحه عليه ليجذب له نفوسًا تركته لمعتقداتٍ فاسدةٍ، فيعودون إلى داخل حظيرة السّيّد إذ إنّ الملكوت قريب. همّه كان أن يحظى بالثّواب العظيم أرضًا وسماءً، وها هو يناله.

إيمان الأب جورج كان يشعّ بأبهى صور النّقاء والقداسة عندما كان يحتفل بالذّبيحة الإلهيّة. فكيف لنا أن ننسى تلك اللّحظات الّتي كان يهمس فيها بكلمات التّقديس بصوتٍ خافتٍ مليءٍ بالرّهبة، تلك الكلمات الّتي تجعل السّماء تلتقي بالأرض؟ كيف ننسى رفعه لجسد الرّبّ الحيّ، ورفعه للكأس المقدّسة التي تحمل ثمن فدائنا الأبديّ؟

لقد كان مشهدًا أقرب إلى الجلال السّماويّ، وكأنّ كيانه كلّه كان يتوق للوصول إلى السّماء ذاتها. فقد كان يدرك، كما يدرك كلّ كاهنٍ بروحانيّةٍ عميقةٍ، أنّ تلك القربانة المقدّسة المرفوعة نحو السّماء ليست مجرّد خبزٍ، بل نافذة يطلّ منها الآب السّماويّ على الأرض بفرحٍ، قائلًا للكاهن بمحبّةٍ أزليّةٍ: "أنت ابني الحبيب الّذي به سررت."

كيف لنا أن ننسى محبّته لأبناء رعاياه، وكيف كان بابتسامةٍ مشرقةٍ وبريقٍ في عينيه يباركهم بكلماتٍ مليئةٍ بالعاطفة: "الرّبّ يباركك، الرّبّ يبارككم!

الأب جورج كان الأبونا، الكاهن والأب المتجلّي. من قال إنّ الكاهن المتزوج لا يتجلّى؟

فضيلة الكاهن المتزوّج الأب جورج هي صورة عميقة تنبض بحقيقة التّجلّي الإلهيّ في الأرض، حيث ينسج الله في حياته لوحةً من الحبّ المتكامل الّذي يربط بين الأرض والسّماء. الكاهن المتزوّج يعيش في قلب هذا السّرّ، يجمع بين رسالته كأبٍ روحيٍّ لعائلته الكبيرة في الرّعّية وكأبٍ جسديٍّ لعائلته الصّغيرة الّتي وهبت له كنعمةٍ وشهادةٍ.

إنّه إنسان متّحد بألم العالم وفرحه، يحمل على كتفيه صليب الدّعوة بكلّ ما فيه من مشقّةٍ وتجلّيات نورٍ. فهو يرى في كلّ لحظةٍ من حياته انعكاسًا لوجه الله الحيّ، سواء كان ذلك في ضحكة طفله الصّغير الّتي تذكّره ببراءة الخليقة الأولى، أو في دمعة مؤمنٍ من رعيّته الّتي تحمله إلى أعماق الألم البشريّ ليكون وسيلةً لنعمة الشّفاء والرّجاء.

حياة الكاهن المتزوّج الأب جورج ليست مجرّد رحلّةٍ زمنيّةٍ تمرّ بين واجبات الحياة اليوميّة، بل هي دعوة للعيش في حضرة الله بشكلٍ دائمٍ، حيث يلتقي الزّمن بالأبديّة في تفاصيل يوميّاته. فهو، حين يطعم أولاده من عرق جبينه على مائدة العائلة الصّغيرة، يعي أنّه يشارك في الوليمة الإلهيّة الكبرى، وحين يحتضن ابنه في لحظة حنانٍ، يشعر بنبض قلب الله الآب الّذي يحتوي الجميع بمحبّته.

لكنّ هذه الحياة، على جمالها، ليست خاليةً من الألم. الكاهن المتزوج يسير في درب الصّليب كلّ يومٍ، متأمّلًا في جراح الحبّ الّتي تعبّر عن عطاءٍ لا حدود له. فهو قد يطلب منه أن يترك لحظاتٍ حميميّةً مع عائلته ليهرع إلى مريضٍ يحتضر وقد عرف بكاهن المرضى، أو ليدخل بيتًا يعاني من الانقسام ليزرع فيه السّلام وقد عرف الأب جورج أنّه كاهن المصالحة. وفي هذه اللّحظات، يدرك أنّ الحبّ الحقيقيّ لا يعرف قيودًا، وأنّ رسالته تتطلّب منه أن يكون حضورًا ملموسًا للرّحمة الإلهيّة.

أمّا الفرح الّذي يسكن قلبه، فهو ليس فرحًا عاديًّا، بل فرحًا ينبع من ينابيع الأبديّة. إنّه فرح يرى فيه انعكاس الله في عيني كلّ إنسانٍ يخدمه. فرح يتجلّى حين يتأمّل عائلته الصّغيرة كأيقونةٍ للكنيسة، وحين يرى أبناء رعيّته يكبرون في النّعمة والمحبّة. مسيرة الكاهن المتزوّج عاشها الأب جورج صليبًا وقيامةً.

كاهن متزوّج كأبينا جورج يدرك أنّه هو سفير السّماء في قلب الأرض، رجل يعيش في العالم ولكنّه يحمل روحًا تعيش في الأبديّة. حياته ليست سوى صلاةٍ مستمرّةٍ، يحدّث فيها الله بصمت خدمته وفقره، ويناجيه بألم تضحيته، ويراه في وجوه أحبّائه. إنّه إنسان يذوب في دعوته كما يذوب الشّمع في النّور، ليكون في كلّ لحظةٍ شهادةً حيّةً على حضور الله الحيّ بين البشر.

وهكذا عرفته مدّة ثلاث سنواتٍ، وهكذا ستبقى حياة أبينا جورج في ذاكرتي، حياة كاهنٍ متزوّجٍ صارت صلاةً صوفيّةً متجدّدةً، ترتفع من مذبح القلب إلى عرش الله، تنساب فيها دموع الألم مع ألحان الفرح، لتكون شهادةً على سرّ الحبّ الإلهيّ الّذي لا ينتهي.

لن ننسى أبدًا إيمانه وصلابته المتمثّلة في اعتماده على الرّبّ للمضيّ قدمًا في الحياة. كان مشهدًا مهيبًا لرجلٍ يواجه الموت بهدوءٍ وطمأنينةٍ نابعةٍ من أعماق روحه، شاهدةً على العلامة الّتي لا تمحى من معموديّته وتثبيته وزواجه وسيامته الكهنوتيّة، الّتي عاشها يوميًّا. لقد مات كما عاش، محبًّا للحياة ومحبًّا للمسيح، متأمّلًا في صلاحه، ولكنّه مشغوفًا بالمغادرة لرؤية يسوعه المحبوب ومريم العذراء. إنّ رحيله يشكّل نهاية حقبةٍ. لقد قالت القدّيسة تيريزا الأفيليّة ذات يومٍ: "أريد أكثر من أيّ شيءٍ أن أرى الله! ولكن لرؤيته، عليّ أن أموت."

لم يكن الأب جورج غريبًا عن الألم، فقد كان قويًّا؛ أدهش الأطبّاء بقوّة تحمّله وكيفيّة تمسّكه بالحياة في معركته الأخيرة. كان مشهدًا عجيبًا لرؤية روحٍ تستمرّ في استحقاق النّعمة وسط الألم، بينما تظلّ تفكّر في الآخرين، وتردّ بروح الدّعابة والمودّة.

حتّى في وسط ألمه، نظر إليّ في لحظةٍ وقال: "أحتاج إلى مزيدٍ من الوقت لإكمال الرّسالة." فأجبته: "إذا منحنا الرّبّ المزيد من العمر، هل ننهي الرّسالة؟" فردّ قائلًا: "هو من يقرّر، لا نحن." والله قرّر.

غرفته في المستشفى كانت مملوءةً بسلامٍ عميقٍ وكانت مشبعةً بالصّلاة. كان مشهدًا جميلاً رؤية الممرّضات والأطبّاء يدخلون باستمرارٍ، يشعرون بشيءٍ قويٍّ ومطمئنٍّ في تلك الغرفة، لم يجدوه في أيّ مكانٍ آخر في المستشفى.

زرته لا لأباركه، بل ليباركني وهكذا كان. أنا حصلت بفرحٍ على بركته ولا أزال. أشكر كلّ الّذين عادوه وصلّوا معه ولأجله من الكهنة ومن أفراد عائلته. الله لن ينسى أبدًا ما فعلتموه.

بالطّبع، نحن لسنا هنا اليوم لنطوّب الأب جورج. ولكنّنا دون أيّ شكٍّ ندرك أنّ الله قد سبقنا إلى تطويبه.

ما أسعده اليوم وما أبهاه وإشراقة الأبديّة تلفّه! ما أسعدك يا أبانا جورج وفرح السّماء كلّه لك!

فلنواصل الصّلاة من أجل أبينا المحبوب جورج بشير بقلوبٍ مليئةٍ بالمحبّة والامتنان. شكرًا لك، أيّها الأب، على حضورك الأبويّ. شكرًا على فكاهتك وذكائك. شكرًا على حبّك للمشرق المسيحيّ وتقاليده المجيدة. شكرًا على الخدمة العظيمة الّتي قدّمتها لأبرشيّتنا. شكرًا لأنّك منحت كلّ واحدٍ منّا ذكرياتٍ وقصصًا يمكننا أن ننقلها لمن بعدنا. ولكنّ فوق كلّ شيءٍ، نشكرك على عطيّة الإيمان، وعلى تقوية إخوتك وأخواتك في المسيح في الإيمان الواحد المقدّس الكاثوليكيّ والملكيّ الرّسوليّ.

طلبت السّعادة الحقيقيّة يا أبانا جورج ولأنّها ليست على الأرض فها أنت اليوم تلقاها.

ارقد بسلامٍ."

وأعطى لمحة عن سيرة حياة الأب جورج حنّا بشير فقال:

"من هو الأب جورج؟

هو جورج ابن المرحومين حنّا بشير وماري بحدي أشقاؤه: لينا وريمون وحياة ونويل، وشقيقاته: كارولين ويوليانة وريتا ولينا. ولد في القامشلي في 22/تموز/1949رقم سجلّه 90 المذهب سريان أرثوذكس. درس في سوريا وحاز على شهادة اللّيسانس في التّاريخ من جامعة دمشق سنة 1973. إنتقل إلى لبنان وحاز على الجنسيّة اللّبنانيّة سجلّ رقم 60 زحلة وتابع دروسه وحاز على دبلوم في التّربية من جامعة بيروت العربيّة سنة 1974. ثمّ تلقّى علومه اللّاهوتيّة في المعهد الدّينيّ في زحلة، التّابع لدار الصّداقة، الرّهبانيّة الباسيليّة المخلّصيّة. التحق بأبرشيّة الفرزل وزحلة والبقاع للرّوم الملكيّين الكاثوليك وارتسم شمّاسًا بتاريخ 2/شباط/1986 ثمّ كاهنًا بتاريخ 14/9/ 1987عن يد المطران أندره حدّاد. أتقن فنّ الرّسم الزّيتيّ والتّرميم وله لوحات وأعمال كثيرة.

خدم الأب جورج عدّة رعايا هي:

تعلبايا وجلالا وتعنايل 1990 لغاية 2007

برّ الياس: من سنة 1987 لغاية 2021

جب جنّين: من سنة 1991 لغاية شباط 1995

خربة قنافار: من شباط 1995 لغاية 2021

الدكوة: من نيسان 2003 لغاية 2024

نال رتبة ستافروفوروس وألبس الصّليب المقدّس في 6 كانون الأوّل 2021 بعد نهاية خدمته في برّ الياس.

تزوّج من لودي عيسى داود وأنجب منها أبناءه: جوني وبيار وإيلي وابنتاه: ماري وكرستين. "

وإختتم المطران ابراهيم مقدّمًا التّعزية "باسمي وباسم صاحب السّيادة المطران جوزف معوّض، وصاحب السّيادة المطران بولس سفر، وباسم الرّئيس العامّ للرّهبانيّة المخلّصيّة الأرشمندريت أنطوان الدّيب الممثّل بيننا بقدس القيّم العامّ للرّهبانيّة الأب جيلبر وردة وباسم النّائب العامّ الأرشمندريت نقولا حكيم والقيّم العمّ الأرشمندريت اليان أبو شعر وكلّ كهنة الأبرشيّة أتقدّم من الخوريّة وسائر أفراد العائلة وكلّ الأقرباء والأنسباء والأصدقاء بالتّعزية القلبيّة وأطلب لنفس أبونا جورج الرّاقد الرّاحة لنفسـه ولكـم من بعده طـول البقاء. المسيح قام! حقًّا قام!".

وبعد الجنّاز حمل نعش الأب بشير من قبل كهنة الأبرشيّة وطافوا به في جولة وداعية في أرجاء مطرانيّة سيّدة النّجاة قبل أن يوارى الثّرى في مدافن المطرانيّة.

وكان جثمان الأب الرّاحل استقبل قبل الظّهر في باحة مطرانيّة سيّدة النّجاة وسجّي الجثمان في الكاتدرائيّة حيث أقيمت القداديس على مدار السّاعة. وتقبّل المطران ابراهيم والعائلة التّعازي في صالون المطرانيّة.