أستراليا
16 كانون الأول 2020, 12:15

سيامة كاهنين جديدين من مواليد سيدني على مذابح الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة عشيّة عيد الحردينيّ

غسان نخول- نورسات/ أستراليا
تردّدا كثيرًا خلال صباهما إلى ذلك المكان، عرفاه عن كثب، عاشا في ظلاله ذكريات جميلة ولهما في أرجائه بصمات لا تُمحى. أحدهما رفع إسم المدرسة بتحصليه حوالى 96% من العلامات في الشّهادة الثّانويّة، والآخر سمّر الجماهير في ساحة الكنيسة عندما أدّى دور المسيح ذات يوم من أيّام الجمعة العظيمة.

بالنّسبة إليهما، دير مار شربل ليس قصّة حنين فحسب، بل سلسلة من الاختبارات المقدّسة الّتي أشعلت فيهما شرارة الدّعوة الكهنوتيّة وأضرمت في قلبيهما نار الشّوق والحبّ للحياة الرّهبانيّة. واليوم، وبعد سنوات طويلة من التّمييز ودراسة اللّاهوت والتّقدّم في الدّرجات المكرّسة، تمّت سيامتهما كاهنيْن أمام المذبح الّذي أمضيا أمامه ليالٍ طويلة من الصّلاة والتّأمّل، بوضع راعي الأبرشيّة المارونيّة في أستراليا المطران أنطوان شربل طربيه. إنّهما الشّابّان بيتر بطرس وأنطوني متري اللّذان سيما كاهنيْن مساء الأحد في 13 كانون الأوّل 2020.

"حبّنا للآخرين ينبع من حبّنا لله، وكلّما امتلأنا حبًّا للرّبّ، كلّما تقدّست خدمتنا الكهنوتيّة أكثر فأكثر"، قال المطران طربيه في العظة الّتي ألقاها خلال القدّاس الاحتفاليّ الّذي رأسه لسيامة الكاهنيْن الجديديْن، يعاونه رئيس دير مار شربل الأب شربل عبّود ولفيف من الكهنة. وشارك في القدّاس مطران كنيسة الرّوم الملكيّين الكاثوليك في أستراليا ونيوزيلندا روبير ربّاط، وكهنة ورهبان وراهبات، وسياسيّون، وحشد من المؤمنين، وأهل الكاهنيْن وأقرباؤهما.

المطران طربيه ذكّر الكاهنين الجديدين بكلام بطرس ليسوع عندما سأله الرّبّ ثلاث مرّات ما إذا كان يحبّه أكثر من الباقين، وبجواب بطرس الّذي قال: "نعم يا ربّ، أنت تعرف أنّني أحبك". سؤال الرّبّ لبطرس الّذي سبق ونكره ثلاث مرّات، كما أضاف المطران طربيه، يأتي لأنّ إلهنا هو إله الرّحمة والمحبّة. وشدّد طربيه على أنّ أحدًا لا يستطيع أن يفي الخدمة الكهنوتيّة حقّها، "لا حتّى البابا ولا أيّ أسقف أو كاهن، ما لم يكن ممتلئًا من الحبّ للرّبّ ومفعمًا بمواهب الرّوح القدس".

وشدّد المطران طربيه في عظته على البُعد القائم على الحبّ والتّضحية في رسالة الكاهن، مشيرًا إلى أنّ "درب بطرس لم تكن سهلة، وهي لن تكون سهلة لنا، فعيْش إيماننا في حياتنا اليوميّة يتطلّب شجاعة هائلة، من أجل الوصول إلى النّهاية مع يسوع".  

وقد بدت السّيامتان مختلفتين عن السّيامات الكهنوتيّة الأخرى الّتي قام بها المطران طربيه حتّى الآن. فالشّمّاسان اللّذان كان بصدد رسمهما كاهنين هما من الشّبيبة الّتي يعرفها طربيه جيّدًا عندما كان يخدم في دير مار شربل قبل أن يصبح أسقفًا لأبرشيّة أستراليا المارونيّة. هما بالأحرى ابنان روحيّان له، رافق ولادتهما الرّوحيّة في عالم الدّعوة الكهنوتيّة مذ أبصرت النّور. لمح فيهما تلك الشّعلة منذ أيّام صباهما، فحرّكت كيانه، وبدا وكأنّ هناك حسًّا أبويًّا عميقًا تجاههما، وقد ظهر هذا الحسّ واضحًا في العظة الّتي ألقاها في قدّاس سيامتهما.

فقد كشف المطران طربيه في عظته أنّ أنطوني فاتحه بالدّعوة الّتي يشعر بها منذ العام 2012، وأنّ هذا الشّابّ فرح عندما قال له طربيه إنّ عليه أوّلاً أن ينهي دراسته الثّانوية لكي يستطيع الذّهاب إلى لبنان لاختبار دعوته، فتفوّق في دراسته الثّانويّة ثم في دراسته اللّاهوتيّة. وبالنّسبة إلى بيتر، قال طربيه "شعرتُ منذ اللّحظة الأولى أنّه مدعوّ للحياة الرّهبانيّة". لم يكن ذلك بسبب اسمه الّذي يتكرّر فيه اسم بطرس– بيتر بطرس– أو بسبب تكرّسه للصّلاة فحسب، كما أضاف المطران طربيه، بل "عندما لاحظتُ كيف أدّى دور يسوع في تمثيليّة أقيمت في رعيّة مار شربل. لقد كانت تلك علامة على أنّ الرّبّ يدعوه".

ويتذكّر بيتر تلك المرحلة في حديث معنا. "في العام 2009، طُلب منّي أن أشارك في تمثيليّة بمناسبة يوم الجمعة العظيمة. أدّيت دور يسوع. لدى أدائي هذا الدّور، حصل معي شيء غريب. شعرت وكأنّني كنت هناك فعلاً. لم أكن قلقًا من شيء سوى أن أفقد تركيزي على المسيح. عندها قرّرت أنّ الوقت حان لكي أبدأ مسيرة دعوتي وأدخل الحياة الرّهبانيّة".

بيتر بطرس، من بلدة كرم المهر اللّبنانيّة الشّماليّة، ومن مواليد سيدني في 13 كانون الثّاني 1981. والداه الياس وليلى بطرس، وهو الثّاني في عائلة مؤلّفة من خمسة أولاد، أربعة أبناء وابنة واحدة. حصل على إجازة في اللّاهوت من كلّيّة اللّاهوت الحبريّة في الكسليك. شعاره الكهنوتيّ "والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا... مملوءًا نعمة وحقًّا" (يوحنّا 14: 1).

"مسيرتي لم تكن سهلة"، يقول الأب بيتر. "أمضيت عشر سنوات وأنا أميّز دعوتي قبل أن آخذ قراري بالدّخول إلى الدّير". والداه الياس وليلى عبّرا عن فرحهما الكبير بسيامة ابنيهما. وتقول ليلى "لم يكن تجاوز الـ16 سنة من العمر حين تركنا وصار طوال الوقت في الكنيسة." ويتذكّر الأب بيتر تلك المرحلة؛ كانت تلكْ كنيسة القدّيس يوسف في كرويدن. هناك تأثّر كثيرًا بكاهن الرّعيّة الخوري يوسف الياس عبيد الّذي رحل عن هذه الدّنيا شابًّا في الثّلاثينات من عمره. "هذا الكاهن فتح عينيّ على الدّعوة"، يقول بيتر. "خلال وجوده القصير على الأرض، أضرم في داخلي نار الحبّ للرّبّ، من خلال كهنوته وحبّه الحميم لله". وتتذكّر الوالدة، "في بداية الأمر تردّدنا قليلاً... لكن عندما تخلّى عن كلّ شيء له، عرفنا أنّه جادّ، فوقفنا إلى جانبه". ويكمل الوالد من حيث توقّفت الوالدة: "باركناه... وهذه نعمة كبيرة... وعقبال كلّ مين عندو دعوة". لم ينسَ بيتر كلمات أهله: "نصحوني بالتّفكير جيّدًا بما أفعل، وأن أتأكّد من أنّ الدّرب الّتي قرّرت السّير فيها، هي فعلاً ما أريد... وهنا تلقّيت بركتهما".  

الكاهن الجديد الآخر أنطوني متري، من بلدة الجيّة اللّبنانيّة الجنوبيّة، وهو من مواليد سيدني أيضًا في 22 آذار 1994. والداه جورج وغادة متري، وقد أنعم الله عليهما بخمسة أبناء، أنطوني الثّالث بينهم. حصل الأب أنطوني على إجازة في اللّاهوت من كلّيّة اللّاهوت الحبريّة في الكسليك. شعاره الكهنوتيّ: "أثبتوا فيّ وأنا أثبت فيكم" (يوحنّا 4: 15).

ويبدو أنّ هذا الثّبات يرافق أنطوني منذ نعومة أظفاره. "شعرت بالدّعوة إلى الحياة الرّهبانيّة عندما كنت طفلاً صغيرًا" يقول الأب أنطوني، "وقد نَمَتْ فيَّ الدّعوة خلال سنوات دراستي في مدرسة مار شربل وعندما كنت أخدم المذبح في كنيسة مار شربل". تأثّر أنطوني التّلميذ برهبان الدّير وبحياتهم، فقد كانوا "مثلاً صالحًا عظيمًا لي وشجّعوني على متابعة دعوتي للحياة الرّهبانيّة". وتقول والدته غادة إنّ ابنها كشف لها أنّه اختار التّرهّب دربًا له ما أن حصل على شهادته الثّانويّة بتفوّق. "فرحتُ كثيرًا... فمنذ زواجي قبل ثلاثة وثلاثين عامًا، وأنا أطلب من الله أن يُنعم على أسرتي بدعوات كهنوتيّة ورهبانيّة". ولا ينسى الكاهن الشّابّ، ابن الـ26 ربيعًا، دعم والديْه له منذ البداية، ثمّ يتوجّه بكلمة إلى نظرائه الشّبيبة: "حافظوا على إيمان قويّ في المسيح ربّنا ومخلّصنا. حافظوا أيضًا على الرّجاء الّذي في داخلكم، فمصدره المسيح وحده. مارسوا دائمًا فضيلة المحبّة تجاه الآخرين، شهادةً على حبّكم للمسيح". وبالنّسبة إلى الوالدة، فهي تطلب المزيد من الدّعوات من أبنائها: "أتمنّى أن يلحق به واحد على الأقلّ من إخوته... أحبّ الدّعوات الرّهبانيّة والكهنوتيّة، فهي دعوات مقدّسة".

هذه النّاحية من حياة أسرتيْ الكاهنين الجديدين لمسها المطران طربيه في عظته. فقد وصف الأسرتيْن بالعائلتيْن المباركتيْن والمميّزتيْن اللّتيْن عملتا على تربية أولادهما بحبّ وعناية وأعطياهم "أغلى هديّة يمكن لأيّ أهل أن يقدّموها لأولادهم: هديّة الإيمان". وشكر المطران طربيه العائلتين "لكونهما أوّل مدرسة إيمان لبيتر وأنطوني". وأشاد المطران طربيه أيضًا برسالة الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونية في أستراليا ونجاحها في التفاعل مع الجالية وتحوّلها "أرضًا خصبة للدّعوات"، مشيرًا إلى سيامته قبل سنتين راهبيْن آخريْن من الشّببية اللّبنانيّة الأستراليّة الّتي انتمت إلى الرّهبنة، أنطوني القزّي ومايكل سندروسي.

رئيس دير مار شربل الأب شربل عبّود شكر الجالية اللّبنانيّة الّتي تقدّم الكثير من الدّعوات للكنيسة عبر الرّسالة الّتي تقوم بها الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة في أستراليا، والّتي بدأت من منزل صغير قبل ثمانية وأربعين عامًا لتصبح اليوم مؤسّسة كبيرة تركّز على رسالة تربويّة وأخرى لرعاية كبار السّنّ. وشدّد الأب عبّود على المثل الصّالح الّذي تقدّمه الرّهبانيّة للجالية من خلال روحانيّتها القائمة على الطّاعة والفقر والعفّة. "وسخاء الجالية يقابله سخاء الرّهبانيّة" كما يؤكّد الأب عبّود. فبالإضافة إلى التّربية ورعاية كبار السّنّ والرّسالة الرّعويّة، "قدّمت الرّهبانيّة أيضًا رأس الكنيسة المارونيّة في أستراليا"، المطران طربيه، ابن الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة.

المطران طربيه أوصى الكاهنين الجديدين بأن يكون القدّاس أهمّ لحظات حياتهما اليوميّة حتّى نهاية العمر، وأن يحتفلا بكلّ قدّاس بالحرارة والانتباه ذاتهما اللّذين سيتميّز بهما القدّاس الأوّل لكلّ منهما.

وينطلق أبونا بيتر وأبونا أنطوني في حياتهما الكهنوتيّة والرّهبانيّة بهذه النّصيحة وفي جعبتهما أيضًا الكثير من الزّاد. لكن تبقى لكلّ منهما شخصيّته المميّزة الّتي ستترك حتمًا بصمتها الخاصّة. يشبه الكاهنان الجديدان بعضهما في نذورهما الرّهبانيّة من طاعة وعفّة وفقر، لكنّهما يبدوان مختلفين، مثل الاختلاف بين القدّيسين بطرس وبولس. يقول أبونا بيتر "أكثر ما يجذبني في دعوتي البساطة والشّفافيّة... بذلك أعطي ذاتي كلّيًّا للرّبّ وأقدم له وللكنيسة والرّهبانيّة أفضل ما عندي". أمّا الأب أنطوني فهو يتّجه نحو التّعمّق في اللّاهوت. "آمل أن تكون دراساتي اللّاهوتيّة ثمرة حياتي الرّهبانيّة القائمة على الصّلاة والتّأمّل" كما يقول، "وأتمنّى أيضًا أن تعزّز دراساتي أكثر قدرتي على التّواصل مع المؤمنين في مشاكلهم اليوميّة".

طريقان مختلفان سلكهما قبلهما قدّيسون كثر، طريق الحياة الرّهبانيّة البسيطة، وطريق التّعمّق في اللّاهوت وسرّ الله والإنسان والكون. ولهما في رهبانيّتهما مثلان ساطعان على قدّيسيْن سلك أحدهما درب البساطة والآخر درب العلم، مار شربل ومار نعمة الله الحردينيّ. واليوم، يسطع نجمهما معًا في الملكوت، وتتضوّع الأرض بعطر قداستهما.