سبيتري يطلب شفاعة مار فرنسيس الأسيزيّ للبنان والشّرق
بعد الإنجيل المقدّس، ألقى سبيتري عظة قال فيها: "تجمعنا اليوم مناسبة عزيزة على قلوبنا نحن الآباء الفرنسيسكان في العالم: عيد القدّيس فرنسيس الأسيزيّ رسول المحبّة والسّلام والأخوّة والمصالحة العالميّة.
ومع أنّ المناسبة الّتي نحييها اليوم تعود لثمانمئة عامٍ، إلّا أنّها حاضرةٌ اليوم في وجداننا وضمائرنا، بل إنّها حاجة لأيّامنا الرّاهنة، أكثرُ من أيّ وقت مضى. إنّ روحانيّة القدّيس فرنسيس ما تزال تنثرُ عَبَقَ أريجِها في أرجاء المعمورة كلّها. ففي كلّ مناسبة موضوعها السّلام والمصالحة تحضرُ شخصيّة القدّيس فرنسيس نموذجًا يحتذى به. ولقاءُه بالسّلطان الملك الكامل في دمياط- مصر عام 1219 يعتبر ترجمةً حقيقيّةً فريدةً لتلاقي الإخوة المختلفين بالعقيدة والثّقافة والقوميّة، ومع ذلك تجمع فيما بينهم قواسم الاحترام وقبول الآخر المختلف واعتباره أخًا حقيقيًّا في الإنسانيّة. وفي كلّ مناسبة تُناقش فيها تحدّيات المناخ والبيئة والاحتباس الحراريّ والكوارث الّتي تنتج عن سوء التّعامل مع الطّبيعة باستغلالها عشوائيًّا، تُستحضر شخصيّة فرنسيس الأسيزي كونَها قدوةً في التّعامل مع "أختنا وأمّنا الأرض، الّتي تُساندنا، وتدبّرُنا، وتنتج الثّمار المتنوّعة، مع الأزهار الملوّنة والأعشاب"، كما وصفها هو نفسه في نشيد المخلوقات. يجب احترمِ الأرض والاعتناء بها وحراستها، اعتناءَنا بأخواتنا وأمّهاتنا، لأنّها هبةُ الله لنا، ولا يجب العبثُ بها أو تدميرُها.
فما سرُّ فرنسيس، هذا "العبقريُّ بالقداسة"، كما وصفه القدّيس بونافنتورا؟ وكيف اعتلى أسمى درجات الفضيلة والقداسة والتّقدير عند الله والنّاس؟ وكيف يمكننا اليوم تجسيدَ روحانيّته، هنا والآن، وأن نسيرَ في خطاه؟
يمكن اختزالَ حياة القدّيس فرنسيس في محطّتين اثنتين: قبلَ الاهتداءِ (أو التّوبة)، وبعدَهُ.
قبل لقائه بالمسيح، عاش فرنسيس حياته كسائر الشّباب. حياةُ هرجٍ ومرج. فيها الكثير من الاندفاع والقليلُ من تحمُّل المسؤوليّة. كان يلقّب "بشيخ الشّباب" لأنّ سخاءه على رفاقه كان بلا حدود، لكنْ من تعب أبيه، لا من عرق جبينه. مندفعٌ طموحٌ يرغب في أن يصبح فارسًا مغوارًا، فيرتقي لمرتبة النُّبلاء. ولكي يستطيع تحقيق حلمه هذا، انضمّ إلى المعركة الدّائرة بين أسيزي وبيروجّا. لكنّه وقع أسيرًا وسُجن. وشكّل هذا الحدثُ نقطةَ تحوُّلٍ بالغ الأهمّيّة في حياته. إذ اكتشف حقيقةً سترافقه طيلة حياته، ألا وهي، أنْ لا منتصرَ في الحرب، بل الجميعُ خاسر. وأنّ الطّريق إلى السّلام صعبةٌ، لكنّها ممكنة، بل الأفضل والأسمى وتليق ببني البشر. وأنّ بدائلَ الحروب في متناول اليد، عند ذوي الإرادة الصّالحة، ويمكن للبشرِ العيشُ بسلامٍ وطمأنينةٍ لأنّهم، أوّلاً وآخرًا، "إخوةٌ، أبناء أبٍ واحد".
هذا التّحوُّلُ الّذي بدأت تبدو معالمه في السّجن، تعاقبته محطاتٌ أخرى عزّزت عنده فكرة التّخلّي عن كلّ ما هو زائل أو سطحيّ أو بلا معنى عميق للحياة. وشرع يخدم الفقراء والّذين هم أكثر حاجة، خصوصًا مرضى الجُذام (البُرص). ورأى فيهم، بالرّغم من منظرهم البائس والمقزّز وخطرِ العدوى، رأى فيهم حضورَ اللهِ المتألّم مع المتألّمين والضّعيف بين الضّعفاء والمرذولين. إنّهم جسدُ المسيح المُثخنِ بالأوجاع والعاهات. فكيف لا يُحبُّهم ويخدمهم ويعتني بأمرهم!
لقد اكتشف أنّ كنيسة البشر تحتاج إلى ترميمٍ وإصلاح، لا بالأقوال والشّعارات والوعود، بل بإصلاح الذّات أوّلاً، من خلال الخدمة والعطاء بسخاء وهبة الذّات دونَ مقابل. إنّها المحبّة الرّحيمة والمجّانيّة الّتي وصفها السّيّد المسيح بقوله: "ما من حبّ أعظم من أن يبذل المرء نفسه في سبيل أحبّائه" (يو 15، 13). إنّها محبّة تتخطّى الحدود الضّيّقة للعائلة والقوميّة والانتماء الدّينيّ والطّائفيّ: "إذا أحببتم من يحبّكم فأيّ فضلٍ لكم"، يقول السّيّد المسيح (لو 6، 32). إنّها أخوّةٌ دعانا لاكتشافها البابا فرنسيس وفضيلةِ الإمام أحمد الطّيّب إمام الأزهر الشّريف من خلال وثيقة أبو ظبي (4 شباط 2019)، فجاء نداؤهم: "إنَّنا نحن- المُؤمِنين باللهِ وبلِقائِه وبحِسابِه- ومن مُنطَلَقِ مَسؤُوليَّتِنا الدِّينيَّةِ والأدَبيَّةِ، وعَبْرَ هذه الوثيقةِ، نُطالِبُ أنفُسَنا وقادَةَ العالَمِ، وصُنَّاعَ السِّياساتِ الدَّولِيَّةِ والاقتصادِ العالَمِيِّ، بالعمَلِ جدِّيًّا على نَشْرِ ثقافةِ التَّسامُحِ والتّعايُشِ والسَّلامِ، والتّدخُّلِ فَوْرًا لإيقافِ سَيْلِ الدِّماءِ البَرِيئةِ، ووَقْفِ ما يَشهَدُه العالَمُ حاليًّا من حُرُوبٍ وصِراعاتٍ وتَراجُعٍ مناخِيٍّ وانحِدارٍ ثقافيٍّ وأخلاقيّ". مفهومُ الأخوّة والصّداقة العالميّة هذا عزَّزه البابا فرنسيس من خلال الرّسالة العامّة "جميعنا إخوة" الّتي وقّعها العام الماضي عند قبر القدّيس فرنسيس في 3 تشرين الأوّل 2020.
ما السّرُ، إذًا، الّذي جعل فرنسيس يرتقي أسمى درجات القداسة والتّكريم عند الله والنّاس؟
إنّها بلا شكّ المحبّة الّتي عاشها والتزم بها نهجًا لحياته ونشرها في تعاليمه وأعماله. محبّةٌ لله ومحبّةٌ تجاه القريب. تجلّت محبّته لله في صلاته غير المنقطعة وتأمّله المتواصل بكلام الله. لم يعد فرنسيس رجلاً يتلو الصّلوات، بل أضحت حياتُه بكلّيّتها صلاةً وتقدمةً كاملة واتّحادًا بالرّبّ. أمّا محبّتُه تُجاهَ القريب، فهي نابعةٌ من علاقته الحميمة واليوميّة بالله، فتجسّدت خدمتة للفقراء رعايةً واهتمامًا وعنايةً. فالقريب هو كلُّ إنسان، دون النّظر إلى انتمائه الدّينيّ أو الطّائفيّ أو القوميّ. وكلُّ الإنسان: جسدًا ونفسًا وروحًا.
لقد اقتدى بيسوع وعاش إنجيلِ المحبّة والسّلام، فبدى لأبناء عصره أنّه أكملُ صورة عن السّيّد المسيح فلقبوه بـ"مسيحٍ آخرَ". خصوصًا أنّه نال قبل سنتين من وفاته نعمة جروحات السّيّد المسيح في جبل لافيرنا، فكان هذا الوسم الإلهيُّ قبلةَ الحبّ الّتي طُبعتْ في جسده الفقير الّذي أنهكتْه الإماتات والأسفار.
أبارك للعائلة الفرنسيسيّة في لبنان والعالم بعيد المؤسّس والأب السّاروفيّ القدّيس فرنسيس الأسيزي. أطلب شفاعته للبنان والشّرق الّذي يتلظّى بحُممِ الأزمات والحروب والوباء، أن تصحبنا شفاعته وصلاته كي يوقف سيلانَ الدّماء والنّزاعات وتنعمَ بلدان الشّرق بالسّلام والأمان. وأن ينعم على لبنان بالاستقرار والخلاص والنّجاة من سلسلة الأزمات الّتي تعصف به.
كلّ عام وأنتم بخير."