العراق
30 تشرين الأول 2023, 11:20

ساكو: لا تخافوا، ولا تخوِّفوا!

تيلي لوميار/ نورسات
في زمن الحروب، دعا بطريرك الكلدان مار لويس روفائيل ساكو إلى العودة إلى الإيمان والرّجاء المتجذّر في كلمة الله، وعدم الخوف.

فكان له في هذا السّياق مقال جديد كتبه خلال تواجده في روما، جاء فيه بحسب موقع البطريركيّة الرّسميّ:

"في تجاويف قلوبنا، حيث يعشعش الخوف، ينبت أيضًا الأمل- الرّجاء. في هذا الوقت الصّعب والحرب مستعِرة منذ أكثر من سنة بين روسيا وأوكرانيا، وكذا الحال في الأراضي المقدّسة، والتّهديد بتوسّعها، يتعيّن علينا العودة إلى إيماننا ورجائنا المتجذّر في كلمة الله، من بداية الكتاب المقدّس إلى نهايته.

لا تخافوا، لا تخافوا كلمة الله تكرّر، وتحثّ على التّمسُّك بالرّجاء وتعزّي. لنتذكّر كلام يسوع المتكرّر في الإنجيل: "لا تخافوا" (مرقس 6/ 50)، أيّ واظبوا على العيش في جوّ من الصّلاة والسّلام الدّاخليّ. هذا الكلام من يسوع نفسه يقوّي عزيمتنا.

في اللّيتورجيا الكلدانيّة ينادي الشّمّاس مرّات عديدة لنصلِّ السّلامُ معَنا، إنّه جزء من الإفخارستيّا!

لماذا تخافون إذن؟

الخَوْف هو الشّعور النّاجم عن الخطر أو تهديد البشر لبعضهم البعض، أو سوء استعمال السّلطة، أو هشاشة الطّبيعة البشريّة. من المؤسف أنّ تاريخ البشر يحكي سلسلة محطّات من الخوف بسبب شرّ البشر في العنف والانتقام والصّراعات والحروب، فضلاً عن كوارث الطّبيعة كالزّلازل والأعاصير والفيضانات والحرائق والأمراض والأوبئة، لكن هناك دائمًا قَبَس من الأمل- الرّجاء يلوح في الاُفق، ويستمرّ في التّقدّم. هذا الرّجاء كما يقول القدّيس توما الأكوينيّ هو الحاضر في المستقبل: "فلمَّا كانَ لَنا هذا الرَّجاء، فإِنَّنا نَتَصرَّفُ بِرِباطَةِ جَأشٍ عَظيمة" (2قورنثية 3/ 12).

يعود الخوف إلى بداية الخليقة. الخاطئ يخاف كما نرى عند آدم وحوّاء: "فسَمِعا وَقْعَ خُطى الرَّبِّ الإِلهِ وهو يَتَمَشَّى في الجَنَّةِ عِندَ نَسيم النّهار، فاختبأ الإِنسانُ وامرَأَتُه مِن وَجهِ الرَّبِّ الإِلهِ فيما بَينَ أَشْجَارِ الجَنَّة. فنادى الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ وقالَ له: أَينَ أَنْتَ؟ قال: إِنِّي سَمِعتُ وَقْعَ خُطاكَ في الجَنَّة فخِفْتُ لأَنِّي عُرْيانٌ فاَختبأتُ" (تكوين 3/ 8-10). آدم وحوّاء فقدا الثّقة بالله! كذلك نقرأ في هذه البداية الأخ يقتل أخاه: فغَضِبَ قايِينُ وأَطرَقَ رأسَه" (تكوين 4/ 5) أيّ أخيه هابيل، لكن نجد في الكتاب المقدّس شخصيّات واستراتيجيّات ضدّ الخوف مفعمة بالرّجاء، وصولاً إلى يسوع وإعلانه لمستقبل جديد لمن يقبلون أن يكونوا بنات وأبناء الله.

على المسيحيّ أن يرفع رأسه وينظر إلى الأبعد، لأنّ الواقع ليس فقط ما يراه: هناك محرّر، خبير في الأمل، يسير على كل دروب الإنسان. على المسيحيّ أن يتوجّه إليه، إنّه يسوع ينبوع الرّجاء. هذا الرّجاء هو الثّقة: "لاَ تَخَافُوا وَلاَ تَرْهَبُوا وُجُوهَهُمْ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ سَائِرٌ مَعَكَ. لاَ يُهْمِلُكَ وَلاَ يَتْرُكُكَ" (تثنية الاشتراع 31/ 6). الأشرار يعتمدون على المال والسّلاح والمقاتلين، أمّا نحنُ الضّعفاء فثقتنا بالله وحده، وهو قوّتنا وهو يرسّخ قناعتنا بأنّ الظّلم لن يدوم ولا يصحّ إلّا الصّحيح، وأنّ المستقبل سوف يكون بقيام نظام ديمقراطيّ يحترم القانون وحقوق المواطنين على حدّ سواء ويضمن حرّيّتهم وكرامتهم.

ينطق الكتاب المقدّس بكلمات الحياة الكاملة، بحيث يتردّد صدى كلمة الرّجاء بشكل أوسع وأعمق، وأكثر ثراءً بمختلف الألوان، وتتحرّر من أيّ خوف، ويبدأ سيل الحياة يتدفّق من جديد: "ورَأَيتُ سَماءً جَديدةً وأَرضًا جَديدة" (الرّؤيا 21/ 1). إذًا، هذا الرّجاء هو على الصّعيد الطّبيعيّ والرّوحيّ.

لذلك على المسيحيّ أن يكون في العالم وكأنّه ينتظر الولادة، ويشعر بالحاضر كزمن حامل يحتوي في داخله شيئًا آخر "حامِلٌ تَصرُخُ مِن أَلَمِ المَخاض" (الرّؤيا 12/ 2) إنّه جنين الآن، لكنّه سينمو وسيولد.

من المؤكّد أنّ للمجتمع الّذي نعيش فيه والبيئة أثر عميق علينا، لكن كمؤمنين مسيحيّين، علينا أن نعمّق قوّة إيماننا ورجائنا وسط الأزمات للتّغلّب على الضّيقات والخوف... فالرّجاء أقوى من الخوف. في المِحن علينا أن نلجأ إلى الصّلاة والتّضامن الإنسانيّ لحماية ومساعدة بعضنا البعض. يدعونا المسيح وسط معاناتنا الى تطبيق قيَم المحبّة والرّحمة والحوار المتجذّرة في الإنجيل لمعالجة المشاكل والخوف. قوّتنا للتّغلّب على المصاعب تكمن في الأمل والصّمود والالتزام العميق بالإيمان "أَستَطيعُ كُلَّ شيَءٍ بِذاكَ الَّذي يُقوِّيني" (فيلبّي 4/ 13). نحن ننتظر خلاصنا بقلب كبير، ونعلم دائمًا أنّ الرّجاء المسيحيّ هو أقوى رجاء على الإطلاق، وأنّ الله سينقذنا: "عالِمينَ أَنَّ الَّذي أَقامَ الرَّبَّ يَسوع سيُقيمُنا نَحنُ أَيضًا معه وَيجعَلُنا وإِيَّاكُم لَدَيه" (1قورنثية 6/ 14).

هذا لا يعني أنّنا لا يجب أن نتّخذ الحذر والحيطة والوقاية والحماية، لكن من دون خوف وفزع، وقلق وارتباك…

في هذه المرحلة لنخرج من مصالحنا الضّيّقة ولنتَّحد ولنسِر معًا بثقة، مشاركين مخاوفنا وآمالنا. الله معنا، والكنيسة معنا، وصلوات شهداء الموصل وبغداد وكركوك والبصرة: المطران بولس فرج رحّو، والآباء رغيد كني، وبولس إسكندر، ويوسف عادل، والشّمامسة، والأخت سيسيل موشي، وشهداء كنيسة سيّدة النّجاة وشهداء محرقة قره قوش ترافقنا. فلنكن أقوياء، ولا نسمح للخوف أن يستولي علينا.

لنصلّ مع هؤلاء الشّهداء من أجل كلّ الّذين يعانون من العنف والظّلم والإقصاء والتّهميش لكي يتحقق أملهم بحياة كريمة وسعيدة."