لبنان
17 نيسان 2025, 05:55

رسالة من البطريرك يونان إلى أساقفة وكهنة كنيسته في خميس الأسرار، ومضمونها؟

تيلي لوميار/ نورسات
في خميس الأسرار، في عيد تأسيس سرّ الكهنوت، خصّص بطريرك السّريان الكاثوليك مار إغناطيوس يوسف الثّالث يونان أساقفة كنيسته وكهنتها برسالة عنوانها "كلّ مبتغاي أن أكون لكَ وحدكَ"، كتب في سطورها:

"أيّها الإخوة والأبناء الرّوحيّون الأعزّاء، 

يطيب لي أن أكتب إليكم بهذه المناسبة المباركة، عيد تأسيس سرّ الكهنوت المقدّس، يوم خميس الأسرار، فنتبادل التّهاني، ونتأمّل بنعمة دعوتنا، ونتشارك فرح خدمتنا وشجونها، ونعزّز الوحدة الرّوحيّة والمحبّة الّتي تجمعنا بربّنا يسوع المسيح، الرّاعي الصّالح.

أحبّائي،

في يوم خميس الأسرار، نحتفل مع جميع المدعوّين إلى الخدمة الكهنوتيّة، بذكرى سيامتنا، حيث التزمنا، بصدق وعزم وقناعة ناضجة، أن نتبع الرّبّ يسوع، حاملين صليبه، وواثقين بنعمته، لنشاركه في خلاص النّفوس الّتي سيوكلها إلينا. لقد تعهَّدنا في تلك اللّحظة التّاريخيّة أمام المذبح المقدّس وبين يدَي الأسقف ممثِّل الرّبّ: "نعم، يا ربّ، إنّي أكرّس لكَ ذاتي". وهكذا نكون بكلّيّتنا للرّبّ، ويكون الرّبّ مُنيةَ قلبنا وقمّةَ رجائنا: «ܟܽܠܶܗܨܶܒܝܳܢܝ̱ܗܳܢܰܘܒܰܠܚܽܘܕܕܶܐܗܘܶܐܕܺܝܠܳܟ»، "كلّ مبتغاي أن أكون لكَ وحدكَ" (مار يعقوب السّروجيّ). ومنذ تلك اللّحظة، بدأت رحلتنا مع يسوع وفي كنيسته، رحلة الإنتماء الكامل والتّكريس دون تردُّد ولا شروط.

نعم، إنّ الكهنوت نهجَ حياةٍ يستمرّ يومًا بعد يوم. إنّه نداء قلبٍ لا يسمح لنفسه أن ينقسم، ولا يَقبَل أن تَفْتُرَ فيه نار المحبّة. من هنا، فالكاهن، بحكم الدّعوة الإلهيّة الّتي إليها دعاه الرّبّ، يُعتبَر نموذجًا حيًّا للإلتزام والإستقامة، وتغدو حياته انعكاسًا للأمانة في العمل الرّوحيّ، حيث تكون كلماته وأفعاله شهادة حيّة للمحبّة الإلهيّة. الكهنوت ليس مجرَّد منصب أو مهمَّة، بل هو عهد شخصيّ بين الله والكاهن، عهد يُلزِمُ الكاهنَ بالعيش وفق مقتضيات القِيَم المسيحيّة بأمانة وفرح ومحبّة صافية تجاه الآخرين. ليست دعوتنا وظيفة، بل هي سرّ الحبّ العميق الّذي يوحّدنا بالمسيح الّذي يحيا فينا، وينادي كلًّا منّا شخصيًّا: "اتبعني" (مت9: 9).

فلنتذكَّر ذلك الفرح العميق الّذي غمر قلوبنا عندما نطقنا للمرّة الأولى الكلمات عينها الّتي فاه بها الرّبّ يسوع في ذلك العشاء السّرّيّ المملوء رموزًا وأسرارًا: "خذوا كلوا هذا هو جسدي… اشربوا منها كلُّكم، هذا هو دمي" (مت26: 26-28). في وسط عالم يضجّ بالتّحدّيات، وفي زخم الخدمة وصخب المهام اليوميّة، نتأمّل ونسأل أنفسنا: هل حافظْنا على العهد أن نكون للرّبّ وحده؟ أم أرهقَنا فتور الرّتابة وأنهكَتْنا مشاغل الحياة؟ 

"دعوتُكُم أحبّائي!... أنا اخترتُكُم وأقمتُكُم لتذهبوا فتثمروا ويبقى ثمركم" (يو15: 15- 16). بكلام الرّبّ العذب هذا، نكتشف دعوة إلهيّة مقدّسة تعكس العلاقة الفريدة بين الله وخدّامه الّذين اختارهم لحمل رسالته. تُعتبَر هذه الدّعوة المقدّسة "وزنة" وَهَبَها الله لنا لنخدم كنيسته ونقدِّس المؤمنين بمحبّة تشمل الجميع ولا تُميِّز.

يذكِّرنا قداسة البابا فرنسيس بأنّ العلاقة مع شعب الله المقدّس "ليسَت واجبًا علينا بل نعمة. محبّة النّاس قوّة روحيّة تساعدنا على بلوغ مِلءِ اللّقاء مع الله. لهذا، فإنَّ مكان كلّ كاهن هو أن يكون مع الشّعب، وفي علاقة قُرْبٍ من الشّعب" (من كلمة قداسته في المؤتمر حول الكهنوت، والّذي نظَّمَه مجمع الأساقفة، 17 شباط 2022).

إخوتي الأعزّاء، 

إنّنا نمثّل صورة المسيح الحيّ بالنّسبة للآخرين، فلا ندع حرارة الدّعوة الأولى تتدنّى أو يخفّ وهجُها. لقد دعانا يسوع "أحبَّاءَه" (را. يو15: 15)، إذ أنّه أحبّنا "حتّى الغاية" (يو13: 1)، وبذل ذاته عنّا، وهو يريد منّا أن ننشر محبّته. وهذا يتطلَّب منّا التّضحية والعطاء بتواضع ووداعة، فنكرّس حياتنا لخدمة المؤمنين بأمانة وإخلاص، حتّى "تفوح منّا رائحة القطيع"، على حدّ تعبير قداسة البابا فرنسيس.

الكهنوت يقتضي منّا أن نكرّس حياتنا لنكون قلبًا نابضًا بمحبّة الرّبّ، ولسانًا ناطقًا بحكمته، ويدًا ممدودة للبركة والشّفاء والعطف. "لدى الكنيسة حاجة هائلة إلى الكهنة... يسوع لا يريد كنيسةً دون كهنة. إذا غابَ الكهنة غابَ يسوع عن العالم، وغابت إفخارستيَّتُه وغاب غفرانُه (من رسالة البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني بمناسبة اليوم العالميّ الثّالث والعشرين للصّلاة من أجل الدّعوات، 1986).

دعوتنا الكهنوتيّة مسيرة من النّموّ الرّوحيّ والتّفاني في الخدمة. فلنجدِّد العهد، ليس بالكلمات فقط، بل بالأعمال الباذلة والمحبَّة الصّادقة، ولنجعل من كلّ قدّاس نحتفل به وكلّ سرّ نتمّمه تجسيدًا لهذا العهد. فليكن الرّبّ يسوع، الكاهن الأعظم ورئيس أحبار إيماننا، مثالنا الأوحد، هو الّذي اختارنا وسكب فينا نعمته، لنخدم شعبه بمحبّة ووفاء!

وها هو القدّيس مار يعقوب السّروجيّ الملفان يؤكّد أنّ الغاية العظمى للكاهن هي الامتلاء من الرّبّ بقلب نقيّ وفكر صافٍ، إذ يقول: «ܗܰܒܠܺܝܡܳܪܰܢܕܰܒܥܺܝܬܡܶܢܳܟܠܶܒܳܐܕܰܟܝܳܐ܆ܘܰܐܫܪܳܐܒܡܰܕܰܥܝ̱ܚܶܟܡܰܬ݀ܚܰܝ̈ܶܐܡܶܢܡܰܠܝܽܘܬܳܟ»،وترجمتها: "هبني يا ربّ إذ قد طلبتُ منكَ قلبًا نقيًّا، وأحلَّ في عقلي حكمة الحياة من مِلئِكَ".

أيّها الأحبّاء، 

تعبيرًا عن تقديري لخدمتكم الجليلة في خضمّ التّحدّيات الّتي تواجهكم، سواء في أرض المنشأ في الشّرق أو في بلاد الانتشار، أتوجّه إليكم بالكلمات ذاتها الّتي جاءت على لسان البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني: "نلتفت إليكم، بملء الشّكر والإعجاب، إنّكم تحملون عبء الخدمة الكهنوتيّة، ولَكُم مع المؤمنين صلة مباشرة. أنتم خدّام الإفخارستيّا وموزِّعو الرّحمة الإلهيّة في سرّ التّوبة، ومُعَزُّو النّفوس، ودليلو المؤمنين كلّهم في دوّامة المصاعب الحياتيّة المعاصرة... نحيّيكم من صميم القلب، ونعرب لكم عن امتناننا، ونحضُّكم على المثابرة في هذا الطّريق بفرحٍ ونشاط. لا تستسلموا لليأس، فرسالتنا ليست منّا بل من الله. إنَّ الله الّذي دعانا ويرسلنا باقٍ معنا كلّ أيّام حياتنا" (الإرشاد الرّسوليّ، أعطيكم رعاة، 1992).

أختم بتجديد التّهنئة لكم جميعًا، وأمنحكم البركة، داعيًا لكم بأسبوع آلام خلاصيّ يقودنا إلى الفرح والسّلام في عيد القيامة المجيدة. المسيح قام، حقًّا قام. والنّعمة معكم.

ودمتم للمحبّ."