الفاتيكان
22 حزيران 2021, 13:50

رسالة من البابا فرنسيس للأجداد والمسنّين!

تيلي لوميار/ نورسات
تحت عنوان "هاءنذا معَك طَوالَ الأَيَّامِ"، كتب البابا فرنسيس رسالته للأجداد والمسنّين لمناسبة يومهم العالميّ الأوّل الّذي يُحتفل به في الخامس والعشرين من تمّوز/ يوليو المقبل، وجاء فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

"أعزّائي الأجداد وعزيزاتي الجدّات! "هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ" هذا هو الوعد الّذي تركه الرّبّ يسوع لتلاميذه قبل أن يصعد إلى السّماء والّذي يكرّره لك اليوم أيضًا، عزيزي الجدّ، وعزيزتي الجدّة. "هاءنذا معَك طَوالَ الأَيَّامِ": هي أيضًا الكلمات الّتي أريد كأسقف روما، ومسنّ مثلكم، أن أوجّها إليكم بمناسبة اليوم العالميّ الأوّل للأجداد والمسنّين: الكنيسة كلّها قريبة منكم، أو بعبارة أفضل: قريبة منّا، وتهتمّ بكم، وتحبّكم ولا تريد أن تترككم وحدكم!

أعلَم جيّدًا أنّ هذه الرّسالة تصل إليكم في مرحلة صعبة: لقد شكّلت الجائحة عاصفة شديدة وغير متوقّعة، اختبارًا قاسيًا عصف على حياة كلّ واحد منّا، ولكن وقعها كان علينا نحن المسنّين خاصًّا، كان أشدَّ وأقسى. لقد أُصيب الكثيرون منّا بالمرض، وَفَقَدَ الكثيرون حياتهم أو رأوا حياة أزواجهم أو أحبّائهم تنطفئ، واضطُرّ الكثيرون أن يعيشوا معزولين في وحدة لفترة طويلة. إنَّ الرّبّ يعرف جميع الآلام الّتي عشناها في هذه المرحلة. هو قريب من الّذين يعيشون هذه الخبرة الأليمة بأن يكونوا مهمّشين؛ وإزاء وحدتنا- الّتي زادتها الجائحة قساوة– هو لا يقف غير مبال. يروي التّقليد بأنّ القدّيس يواكيم أيضًا، جِدّ يسوع، قد أُبعِد عن جماعته لأنّه لم يكن لديه أبناء، واعتُبرت حياته- وكذلك حياة زوجته حنّة- عديمة الفائدة. لكنّ الرّبّ أرسل إليه ملاكًا ليعزّيه. وبينما كان يقيم حزينًا خارج أبواب المدينة، ظهر له مرسل من عند الله قال له: "يواكيم، يواكيم! لقد استجاب الرّبّ صلاتك المُلِحّة". يبدو أنّ جيوتو، في إحدى لوحاته الفنّيّة الشّهيرة، قد وضع المشهد في اللّيل، في إحدى ليالي الأرق، والمليئة بالذّكريات والمخاوف والرّغبات، الّتي قد اعتاد عليها الكثير منّا.

ولكن حتّى عندما يبدو كلّ شيء مظلمًا، كما هو الحال في أشهر الجائحة هذه، يستمرّ الرّبّ في إرسال الملائكة لكي يعزّوا وحدتنا ويكرّروا لنا: "هاءنذا معَك طَوالَ الأَيَّامِ". يقولها لك، ويقولها لي، وللجميع. هذا هو معنى هذا اليوم الّذي أردت أن يُحتفل به لأوّل مرّة في هذا العام، بعد عزلة طويلة واستئناف، ولو بطيء، للحياة الاجتماعيّة: ليحظى كلّ جد، ومسنّ، وكلّ جدَّة، ومسنّة– لاسيّما الّذين يعيشون في وحدة كبيرة– بزيارة ملاك! سيكون للملائكة أحيانًا وجه أحفادنا، وأحيانًا أخرى وجه أحد أفراد العائلة، أو أحد أصدقائنا القدامى أو الّذين التقينا بهم في هذه المرحلة الصّعبة. لقد تَعلّمنا في هذه الفترة أن نفهم كم هو ثمين لكلّ واحد منّا العناق والزّيارات، وكم يحزنني أنّ يكون هذا الأمر غير ممكن بعد في بعض الأماكن. لكن الرّبّ يرسل لنا أيضًا رسله من خلال كلمة الله الّتي لا يجعلها تغيب أبدًا عن حياتنا. لنقرأ كلّ يوم صفحة من الإنجيل، ولنصلِّ مع المزامير، ولنقرأ أسفار الأنبياء! وسوف نتأثّر بأمانة الله. سيساعدنا الكتاب المقدّس أيضًا لكي نفهم ما يطلبه الرّبّ منّا اليوم في حياتنا. في الواقع، هو يرسل العمّال إلى كرمه في كلّ ساعة من النّهار وفي كلّ مرحلة من الحياة. يمكنني أن أشهد بنفسي أنّني قد تلقّيت الدعوة لأصبح أسقف روما، عندما بلغت سنّ التّقاعد، إذا جاز التّعبير، وفيما كنت أتخيّل أنه لم يعد بإمكاني أن أقوم بأمور جديدة. إنَّ الرّبّ قريب منّا على الدّوام بدعوات جديدة، وكلمات جديدة وبتعزيته، ولكنّه قريب منّا على الدّوام. أنتم تعلمون أنّ الرّبّ هو أزليّ، ولا يتقاعد أبدًا.

في إنجيل متّى قال يسوع للرّسل: "اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحِ القُدُس، وعَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به". هذه الكلمات موجّهة إلينا أيضًا اليوم وتساعدنا لكي نفهم بشكل أفضل أنّ دعوتنا هي حماية الجذور، ونقل الإيمان إلى الشّباب والعناية بالصّغار. أصغوا جيّدًا: ما هي دعوتنا اليوم، في عمرنا هذا؟ حماية الجذور، ونقل الإيمان إلى الشّباب والعناية الصّغار. لا تنسوا هذا. لا يهمّ كم عمرك، وإذا كنت لا تزال تعمل أم لا، وإذا بقيت وحدك أو لديك عائلة، وإذا أصبحت جدًّا أو جدّة عندما كنت شابًّا أو في وقت لاحق من حياتك، وإذا كنت لا تزال قادرًا على خدمة نفسك أو إذا كنت تحتاج إلى من يساعدك، لأنّه لا يوجد عمر للتّقاعد من مهمّة إعلان الإنجيل، ومن مهمّة نقل التّقاليد إلى الأحفاد. هناك حاجة لأن ننطلق في المسيرة ولاسيّما لأن نخرج من ذواتنا لكي نبدأ شيئًا جديدًا. هناك إذًا دعوة متجدّدة لكم أيضًا في لحظة حاسمة من التّاريخ. قد تسألون أنفسكم: ولكن كيف يُعقل؟ إنَّ طاقاتي قد نفدت ولا أعتقد أنّه بإمكاني فعل الكثير. كيف يمكنني أن أبدأ بالتّصرّف بشكل مختلف بعدما أصبحت العادة قاعدة حياتي؟ كيف يمكنني أن أكرّس نفسي لمن هو أشدَّ فقرًا منّي فيما أنا مُهتمٌّ بعائلتي؟ كيف يمكنني أن أوسِّع نظري إن لم يكن مسموحًا لي بأن أخرج من مكان إقامتي؟ أليست وحدتي صخرة ثقيلة جدًّا؟ كم منكم يسأل هذا السّؤال: أليست وحدتي صخرة ثقيلة جدًّا؟ لقد سمع يسوع نفسه سؤالًا كهذا وجّهه إليه نيقوديموس الّذي سأله: "كَيفَ يُمكِنُ الإِنسانَ أَن يُولَدَ وهوَ شَيخٌ كَبير؟". فأجابه الرّبّ إنّ هذا الأمر ممكن عندما يفتح المرء قلبه لعمل الرّوح القدس الّذي يهُبُّ حيثما يشاء. إنَّ الرّوح القدس، بهذه الحرّيّة الّتي يتمتّع بها، يذهب إلى كلّ مكان ويفعل ما يشاء.

وكما كرّرت مرارًا، من الأزمة الّتي يمرّ بها العالم، لن نخرج كما كنّا، سنخرج إمّا أفضل أو أسوأ. ولا يسمحنَّ الله بأن يكون هذا مجرّد حدث تاريخيّ آخر خطير لم نتعلّم منه شيئًا، لأنّنا عنيدين. لا يجب أن ننسى أبدًا المسنّين الّذين ماتوا بسبب نقص أجهزة التّنفّس. ولا يجب أن يكون هذا الألم الكبير بدون فائدة، لنقُم إذًا بقفزة نحو أسلوب حياة جديد فنكتشف بشكل حاسم أنّنا محتاجون ومدينون لبعضنا البعض، لكي تولد البشريّة من جديد. لا أحد يخلص بمفرده. نحن مدينون لبعضنا البعض، وجميعنا إخوة. وفي هذا المنظار أودّ أن أقول لكم إنّنا بحاجة إليكم لكي نبني، في الأخوّة والصّداقة الاجتماعيّة، عالم الغد: العالم الّذي سنعيش فيه- مع أبنائنا وأحفادنا- عندما ستهدأ العاصفة. علينا جميعًا أن نكون جزءًا ناشطًا في إعادة تأهيل المجتمعات الجريحة ودعمها. فمن بين مختلف الرّكائز الّتي يجب أن تدعم هذا البناء الجديد، هناك ثلاثة يمكنكم أنتم أن تساعدوا في توطيدها أفضل من غيركم. ثلاث ركائز وهي: الأحلام والذّاكرة والصّلاة. إنَّ قربُ الرّبّ سيمنح القوّة حتّى للأشخاص الأكثر هشاشة بيننا، لكي ننطلق في مسيرة جديدة على دروب الأحلام والذّاكرة والصّلاة.

لقد أعلن النّبيّ يوئيل مرّةً هذا الوعد: "يَحلُمُ شُيوخُكم أَحْلامًا ويَرى شُّبانُكم رُؤًى". إنَّ مستقبل العالم حاضر في هذا العهد بين الشّباب والشّيوخ. مَنْ غير الشّباب يستطيع أن يأخذ أحلام الشّيوخ ويسير بها إلى الأمام؟ لكن من أجل هذا، من الضّروريّ أن نواصل الحلم: لأنّه في أحلام العدالة والسّلام والتّضامن يمكن لشبابنا أن يروا رؤى جديدة ويمكننا أن نبني المستقبل معًا. ولذلك من الضّروريّ أن تشهدوا أنتم أيضًا بأنّه يمكننا أن نخرج متجدّدين من خبرة محنة ما. وأنا متأكّد من أنّها لن تكون الوحيدة، لأنّكم قد اختبرتُم العديدَ منها في حياتِكم وتمكّنتم من الخروج. وبالتّالي تعلّموا أيضًا أن تخرجوا الآن من تلك الشّدّة. لذلك تتشابك الأحلام مع الذّكرى. أفكر في كم هي ثمينة ذكرى الحرب الأليمة، وكم يمكن للأجيال الجديدة أن تتعلّم منها قيمة السّلام. وأنتم الّذين سوف تنقلون هذا، أنتم الّذين عشتم آلام الحروب، لأنّ الذّكرى هي رسالة حقيقيّة وخاصّة لكلّ مُسنّ: الذّكرى، وحمل الذّكرى إلى الآخرين. قالت إيديث بروك، الّتي نجت من مأساة المحرقة "إنّ إنارة ضمير واحد فقط تستحقّ الجهد والألم للحفاظ على ذكرى الأمور الّتي حدثت- وأضافت- إنّ الذّكرى بالنّسبة لي، هي الحياة". أفكّر أيضًا في أجدادي وفي جميع الّذين أُجبروا على الهجرة وعرفوا كم هو شاقٌّ وصعب أن تترك بيتك، كما يفعل الكثيرون اليوم أيضًا بحثًا عن مستقبل لهم. قد يكون بعضهم بجانبنا ويعتنون بنا. يمكن لهذه الذّكرى أن تساعد في بناء عالم أكثر إنسانيّة وأكثر ضيافة. ولكن من دون الذّكرى لا يمكننا أن نبني؛ بدون الأساسات لا يمكنك أبدًا أن تبني بيتًا. وأساسات الحياة هي الذّكرى.

وأخيرا الصّلاة، كما قال مرّة سلفي البابا بندكتس السّادس عشر، وهو قدّيس مسنّ، ما زال يصلّي ويعمل من أجل الكنيسة، إذ قال: "يمكن لصلاة المسنّين أن تحمي العالم، وأن تساعده ربّما بطريقة أكثر فعاليّة من جهود الكثيرين". قال هذا في نهاية فترة حبريّته تقريبًا، في عام 2012. إنّه أمر جميل. صلاتكم هي مصدر ثمين جدًّا: إنّها رئة لا يمكن للكنيسة والعالم أن يستغنيا عنها. لاسيّما في هذه المرحلة الصّعبة للبشريّة، بينما نعبر، جميعًا على القارب عينه، بحر الجائحة العاصف، فإنّ شفاعتكم من أجل العالم والكنيسة ليست عبثًا، بل هي تشير إلى الجميع بثقة وهدوء أن بَرّ الأمان قريب.

عزيزتي الجدّة، وعزيزي الجدّ، في ختام رسالتي هذه، أودّ أن أقدّم لك أيضًا مثال الطّوباويّ- وقريبًا القدّيس- شارل دي فوكو. لقد عاش ناسكًا في الجزائر وفي ذلك الإطار شهد لرغبته في أن يشعر بأنّ أي كائن بشريّ هو أخ له. تُظهر لنا قصّة حياته كيف يمكن لكلّ إنسان حتّى في عزلة صحرائه، أن يشفع بفقراء العالم بأسره وأن يصبح حقًّا أخًا وأختًا للعالم أجمع. أسأل الرّبّ، وبفضل مثاله أيضًا، أن يوسّع قلب كلِّ فرد منّا ويجعله حسّاسًا إزاء آلام الأخيرين وقادرًا على أن يتشفّع بهم. وليتعلّم كلّ منّا أن يكرّر للجميع، ولاسيّما للشّباب، كلمات العزاء الّتي سمعناها اليوم موجّهة إلينا: "هاءنذا معَك طَوالَ الأَيَّامِ"! تشجّعوا وإلى الأمام! ليبارككم الرّبّ."