رسالة راعوية للمطران شليمون وردوني إلى أبناء ابرشية مار بطرس الرسول الكلدانية في سان دييكو- كاليفورنيا
سلام الله معكم جميعاً
"إنّما فلتكن سيرتكم كما يليق ببشارة المسيح حتى إذا أتيت أراكم او كنت غائباً اسمع عنكم إنكم ثابتون في روح واحد ونفس واحدة ومجاهدون جميعاً في إيمان الأنجيل" (فيل1: 27).
إخوتي اخواتي الأعزاء
كم أنا فرح لآتي والتقي بكم ولكي أحمل اليكم تحيات غبطة ابينا البطريرك، والسادة الأساقفة والآباء الكهنة، لنعمل معاً بكل ثقة بالرب وبالأتكال عليه تعالى وعلى ثبات إيمانكم ومحبتكم الفياضة والتي تؤدي بنا إلى الوحدة التامة.
كلنا معاً، أساقفة وكهنة ورهبان وراهبات وكل المؤمنين، نريد أن نفرح برجائنا ونعيش إيماننا لكي نصبح قدوة صالحة للعالم كله…
نحن في عالم تملأه الويلات والانقسامات والصعوبات خاصة في هذه الأيام وفي بلدنا الأم، لذلك بقلب مفتوح ومملوء من المحبة الحقيقية نقبّل بعضنا البعض بعيدين عن كل تزمت أو روح العناد، هكذا فليكن موقفنا موقف الأبطال في المحبة والغفران والتضحية كما هو موقف المسيح تجاهنا.
علينا أن نتأمل في مشاعرنا كيف هي تجاه الأخر، هل هي مشاعر المسيح الذي مات من أجلنا؟ هل نحن مستعدون أن نكون سبب فرح ورجاء للجميع بتعاملنا معهم؟ كم هو جميل ومبهج عندما نشعر بالآخرين ونتعامل معهم بالحوار البنّاء لكي نساعد واحد الآخر ونصبح جميعاً زارعي السلام وبناة الوحدة مهما كلّف الأمر. نريد أن نحب خير الآخر أكثر من خيرنا وأن نساعد قريبنا المحتاج إلى مساعدتنا بدون النظر إلى عرقه وقوميته وعشيرته لكن لأنه محتاج إليَّ فقط، وهذا ما أكّده الرب عندما قال: "كلما فعلتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي فعلتموه". (مت 25: 4).
أيها الأعزاء لنسمع الرب وهو يخاطبنا قائلاً: "كل مملكة تنقسم على نفسها تخرب وكل مدينة أو بيت ينقسم على نفسه لا يثبت" (مت 12: 25).
إذاً لنتحّد بمحبة المسيح ولنزرع هذه الوحدة في قلوب الجميع ونفرح بنجاح الآخرين ونطلب لهم كل الخير ونحن بهذا نكمّل ما يريده الرب يسوع الذي قال: "احبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم، لا يوجد حبّ أعظم من هذا أن يبذل الأنسان نفسه عن أحبّائه" (يو13: 34؛ 15: 13). هذه هي الوصية الجديدة التي أعطاها الرب لتلاميذه قبل أن يترك هذا العالم وهي موجهة لكل واحد منّا وإذا حقاً عملنا بها سنرى العجائب في وحدتنا والعكس بالعكس. فإذا كنّا لا نحب بعضنا بعضاً ستزداد الأنقسامات بيننا وسوف نهبط إلى الحضيض. والعلامة الفارقة لتلاميذ المسيح هي هذه المحبة: "بهذا يعلم الناس انكم تلاميذي إذا كنتم تحبون بعضكم بعضاً" (يو 13: 35).
هذه هي الوحدة التي يريدها الرب لتلاميذه ولأجل ذلك طلب من ابيه قائلاً: "ليكونوا بأجمعهم واحداً" ولا يكتفي بذلك بل يشبّه هذه الوحدة بوحدته مع الآب اي "قمة الوحدة" وبهذا يتحقق خلاص البشرية كما أن فرحنا ونجاحنا هو في هذه الوحدة.
وهذا كله واضح في الفصل السابع عشر من انجيل يوحنا، وما يطلبه يسوع من اجل تلاميذه ليحفظهم الآب في هذا العالم، لأنهم سوف يواجهون صعوبات جمّة والرب يسوع يطلب من الآب: لا ليرفعهم من العالم بل ليحفظهم من الشرير (يو 7: 15). هذه هي وصايا المخلّص وإذا عملنا بها فأننا نحقق الخلاص ونبرهن على محبتنا وامانتنا له.
من أجل ذلك جئنا، أيها الأحباء، لنقول لكم بأن الكنيسة تحبكم وتطلب منكم بأن تحبّوها وتطيعوها لكي تخدمكم وتضحّي من أجلكم، هي امنا جميعاً ولا يغمض لها جفن إلاّ وتفكر بكم لتجد السبل الفُضلى لتقدم لكم كل ما هو خير وصالح لحياتكم الروحية والزمنية.
اعلن قداسة البابا فرنسيس هذه السنة لتكون ينبوعاً للرحمة والغفران. ان سر الرحمة هو مصدر فرح وسكينة وسلام لذلك نحن بحاجة على الدوام أن نتأمل به، إنه شرط لخلاصنا.
الرحمة: هي كلمة تُظهر سر الثالوث الأقدس. هي العمل النهائي والأسمى الذي من خلاله يأتي الله إلى لقائنا. هي الشريعة الأساسية التي تُقيم في قلب كل شخص عندما ينظر بعينين صادقتين إلى الأخ الذي يلتقيه في مسيرة الحياة. هي الطريق الذي يوحّد الله بالأنسان، لأنها تفتح القلب على الرجاء بأننا محبوبون إلى الأبد بالرغم من محدودية خطيئتنا. هناك أوقات نكون فيها مدعوّين بقوة لنثبّت أنظارنا على الرحمة ونصبح بدورنا علامة فعّالة لعمل الآب.
إذ نثبت النظر على يسوع وعلى وجهه الرحيم يُمكننا أن نفهم محبة الثالوث الأقدس. إن الرسالة التي نالها من الآب هي بأن يُظهر سرَّ المحبة الألهية بملئه حيث يؤكد الأنجيلي يوحنا للمرة الأولى والوحيدة في الكتاب المقدس بكامله وهو: "الله محبة" (1يو4: 8-16).
هذه المحبة قد اصبحت مرئية وملموسة في حياة يسوع بأسرها. وشخصه ليس إلاّ محبة، محبة تبذل ذاتها مجاناً، وعلاقاته مع الأشخاص الذين يقتربون منه تُظهر شيئاً فريداً لا يتكرر. الآيات التي يعملها وخاصة تجاه الخطأة والفقراء والمهمّشين، المرضى والمتألمين هي تحت راية الرحمة.
هناك مثل آخر حول كم مرة ينبغي على المرء أن يغفر؟ هذا هو سؤال مار بطرس ليسوع فيجيبه: "اقول لك ليس سبع مرات، بل سبعين مرة سبع مرات" (مت 18: 22) ثم مثل القليل الشفقة الذي اعفاه سيده من الدَّين وهو لم يشفق على العبد الآخر (مت18: 33) وختم يسوع: "هكذا ايضاً يفعل بكم ابي السماوي، إن لم يغفر كلُّ واحد منكم لأخيه من صميم قلبه" (مت18: 35).
يحتوي المثل على تعليم عميق لكل فرد منا. يسوع يؤكّد أن الرحمة ليست فقط تصرف الآب، وانما تصبح ايضاً المعيار لابنائه الحقيقيين. لذلك نحن مدعوون لنعيش من الرحمة، لأننا قد رُحمنا اولاً، فتصبح مغفرة الاساءات التعبير الأوضح للحب الرحيم، وبالنسبة لنا نحن المسيحيين أمراً لا يمكننا تجاهله. كم يبدو لنا احياناً صعباً أن نغفر! ومع ذلك فالمغفرة هي الاداة التي وضعت بين ايدينا الضعيفتين لنبلغ إلى سكينة القلب. ان نترك الحقد والغضب والعنف والانتقام والحسد والغيرة. هذه هي الشروط الضرورية لنعيش سعداء. لنقبل إذاً دعوة الرسول: "لا تغربنَّ الشمس على غضبكم" (افس4: 26). ولنصغ خصوصاً إلى كلمة يسوع الذي وضع الرحمة كمثال حياة ومعيار مصداقية لإيماننا: "طوبى للرحماء فانهم يرحمون" (مت5: 7) إنها الطوبى التي يجب أن تُلهمنا بالتزام خاص خلال هذه السنة المقدسة.
أن السند التي تركتز عليها الكنيسة هي الرحمة. وكل نشاطها الرعوي ينبغي أن يتلّون بالحنان الذي تتوجّه به إلى المؤمنين؛ وينبغي ألا ينقص أي جزء من اعلانها وشهادتها تجاه العالم من الرحمة. إن مصداقية الكنيسة تمر عبر طريق المحبة الرحومة والرؤوفة. الكنيسة تعيش "رغبة لا تنضب في تقديم الرحمة". وقد ننسى لوقت طويل أن نقود على درب الرحمة ونعيشها. هناك تجربة، على الدوام، المطالبة بالعدالة وحسب، وهذا يجعلنا ننسى أن هذه هي الخطوة الأولى، إنها ضرورية لا غنى عنها. لكن الكنيسة عليها أن تذهب إلى أبعد للبلوغ إلى هدف أسمى وأهم. ومن جهة أخرى، إنّه من المحزن أن نرى أن خبرة المغفرة في ثقافة اليوم اصبحت نادرة، ويبدو أن هذه الكلمة نفسها باتت تتلاشى في بعض الأحيان، ولكن يجب أن نعرف بأن الحياة تُصبح عقيمة وتفقد خصوبتها بدون شهادة المغفرة، كما لو كنّا نعيش في صحراء قاحلة. لقد آن الآوان أن تأخذ الكنيسة على عاتقها اعلان المغفرة بفرح. لقد آن الآوان للعودة إلى ما هو جوهري كي نحمل على أكتافنا ضعف الأخوة وصعوباتهم. المغفرة هي قوة تقودنا إلى حياة جديدة وتبعث فينا الشجاعة اللازمة للتطلع نحو المستقبل برجاء لا يُقهر.
رسالة الكنيسة هي اعلان رحمة الله. القلب النابض للأنجيل، والذي من خلاله تبلغ قلب وعقل كل إنسان، أن عروس المسيح تتبنّى تصرّف ابن الله الذي انطلق لملاقات الجميع دون أن يستثني احداً. في زماننا هذا، الذي تلتزم فيه الكنيسة بالكرازة الجديدة بالأنجيل، لابدّ من اعادة اقتراح موضوع الرحمة بحماسة جديدة وبعمل رعوي متجدّد. إنه لأمر ضروري بالنسبة للكنيسة ومصداقية اعلانها أن تعيش الكنيسة الرحمة وتكون في طليعة الشاهدين لها. ينبغي أن يعكس خطابها واعمالها الرحمة كي تدخل في قلوب الأشخاص وتحثهم على إعادة اكتشاف طريق العودة إلى الاب.
نحن بحاجة إلى المغفرة في كنيستنا اليوم ودوماً كيما نستطيع أن نعيش الحياة الروحية عيشاً ملؤه الحوار الذي بدونه لا نستطيع أن نُرضي الله ونرضي بعضنا البعض لكي يعم السلام في قلوبنا ونتهلل بالفرح والسعادة المسيحية.
الحقيقة الأولى للكنيسة هي محبة المسيح. وإزاء البشر تجعل الكنيسة من نفسها خادمة ووسيطة لهذه المحبة التي تصل إلى حد المغفرة واعطاء الذات. لذا حيث توجد الكنيسة يجب أن تتجلّى رحمة الآب بوضوح. لابدّ أن يجد كل شخص واحة من الرحمة في رعايانا وجماعاتنا وجمعياتنا وحركاتنا، أي حيثما يوجد مسيحيون وفي حالاتنا حيثما يوجد مؤمنون ومؤمنات الكلدانية في أبرشية مار بطرس الرسول الكلدانية في سان دييكو.
أخيراً نشكر الله على كل إنعاماته علينا ونطلب منه أن يُعيننا لكي معاً نبني بيتنا ونبدأ حياة جديدة في التضحية والعطاء من أجل كنيستنا الكلدانية بانفتاح ومحبة. اشكر من صميم القلب الأخ العزيز المطران سرهد جمّو على عمله الدؤوب والمثمر ولمدة خمسة عشر سنة في هذه الأبرشية التي خدمها بكل تضحية وأثمرت جهوده ثماراً يانعة في الدعوات الرجالية والنسائية وفي ميادين الثقافة والاصالة. نتمنى له كل الخير مع الصحة والعافية ونأمل أنه سيكمّل في جهوده لأعلاء شأن ابرشيتنا في العمل المستمر لتقدم ونجاح كنيستنا الكلدانية. الرب يبارك الجميع ويقوينا لنعمل بغيرة رسولية لمجد الله وخلاص النفوس.
محبكم بالرب
+المطران شليمون وردوني
المدبر الرسولي لأبرشية مار بطرس الرسول