لبنان
05 أيلول 2017, 06:45

دير الحرف وفالوغا استقبلتا الأباتي مارون نسيب أبو جوده

تزيّنت بلدة فالوغا يوم الأحد الماضي بأجمل حلّة لاستقبال ابنها الأباتي مارون نسيب أبو جوده.


وقبل وصول موكبه إلى البلدة، كانت للأباتي أبو جوده محطة في بلدة دير الحرف، حيث استقبله كاهن الرعية الخوري مارون شمعون، ونائب رئيس البلدية الأستاذ فيكتور أبو جوده وأعضاء من المجلس البلدي، ورئيس النادي الأستاذ هشام أبو جوده وأخوية العذراء والفرسان والطلائع وجماعة دير راهبات القديس يوسف دي ليون وعدد من المؤمنين.
وفي كلمته التّرحيبيّة، هلّل كاهن الرعية بقدس الأباتي المكنّى بشفيع الكنيسة المارونية وحامل إسكيمه على رأسه وروحانيته في قلبه واعتبر تواضعد سببًا لاختياره من الروح القدس، ثم قدّم له صليبًا باسم الرعية ولجنة الوقف. أما نائب رئيس البلدية الذي تكلّم باسم الرئيس والأعضاء وموظفي البلدية وسكان دير الحرف، فاعتبر أنّ اختياره بنعمة من الروح القدس سببها أنّ حياته الرهبانية كانت علامة قداسة ومحبة. ثم قدّم له مفتاح البلدة وطلب بركته الأبوية. أما رئيس النادي فاعتبر الأباتي رسولاً للمسيح في أصقاع العالم من القارة الأميركية الى لبنان، وشدّد على حاجة المؤمنين إلى شهود قديسين في عالم اليوم والأباتي هو شاهد ليسوع المسيح بامتياز. ثمّ قدّم لقدسه هدية تذكارية من أعمال بيبلوس. وفي الختام شكر قدسه بلدة دير الحرف على حفاوة الاستقبال، معتبرًا أنّ شهادته "مجروحة" "لأنهم عائلة واحدة أعطت الأساقفة والرهبان والراهبات والكهنة. وأضاف ان الرهبنة الأنطونية هي "رهبنة محبة ونسك وصلاة" رهبنة تعمل دومًا بروح الثالوث الأقدس مؤكّدًا بقاء الرهبنة في قلب دير الحرف. 
وقد تابع موكب الأباتي بمؤازرة من عناصر البلدية "مشواره" نحو فالوغا حيث كانت شرطة بلديتها بانتظاره، وكانت له محطة أمام منزل بيار أبوجوده حيث استقبل بالمفرقعات ونثر الورود ثمّ صلّى مع الجموع المستقبلة وبارك تمثال للقديس شربل وضع في حديقة المنزل.
بعدها، كان اللقاء الشعبي الحاشد في ساحة البلدة حيث ارتدى الملابس الليتورجية وسار مع الجموع في شوارع البلدة وصولاً الى ساحة كنيسة السيدة حيث احتفل بالذبيحة الإلهية وعاونه فيها الأباء المدبّرون مارون بو رحّال، ونادر نادر وجوزف بو رعد وأمين السر العام الأب غسان نصر ولفيف من الكهنة تقدّمهم الأباتي داود رعيدي وكاهن الرعية الخوري داني كمال. وقد شارك في القداس وزير الدولة للشؤون الاجتماعية بيار بو عاصي والنائبان حكمت ديب وآلان عون وخدمت الاحتفال جوقة الجامعة الأنطونية بقيادة الأب توفيق معتوق الأنطوني.
وفي عظته قال الأباتي أبو جوده: 
"يا بطرسُ أتحبُّني؟"... سؤالٌ يتردَّدُ في التاريخ منذُ ذلك اللقاء بين يسوع وبطرس، منذ ما بعدَ حدثِ القيامة، حتى يومِنا هذا ! فبطرس، في تلك اللحظات، كان على ثقةٍ بأنَّ يسوع، المعلِّم والرب، قد حقَّقَ الخلاص، والمسيح المتألم والمائت حيٌّ أمامهُ يخاطبُهُ، ويدعوهُ إلى عالمٍ جديدٍ قائمٍ على العطاء الكلي: على المحبة. فمَوتُ المسيح وقيامتُهُ، بالنسبةِ للكنيسة، هو عملُ المحبَّة الأسمى الذي فدى فيه الله الإنسان، لكي يستعيدَ الانسانُ صورةَ الله من خلال العماد والحياة الجديدة، ولم يعُدْ المسيح وحدَهُ "أيقونةَ الآب" بل كلُّ مسيحيٍّ لبسَ العمادَ والحياةَ الجديدة هو "أيقونةُ الله" على الأرض. 
بطرس إذن، أمامَ برهانٍ خَبِرَهُ في كلِّ أحوالهِ، ويسألهُ إذا ما كان يحبُّه، فيبادرُ بطرس بالإيجاب ويعلنُ محبتَهُ للمسيح، ولكنَّ المسيح يعيدُ الكرَّةَ مِراراً حتى تلبَّكَ هامة الرسل في النهاية وقالَ لهُ، "أنت تعرفُ كلَّ شيءٍ"، فاعترفَ بأنَّهُ، كإنسانٍ، ليس خفيًّا على المسيح لا منَ الداخل ولا من الخارج. عندها كلَّفهُ يسوع رعايةَ الخراف، والنعاج، والكباش، كلَّفَهُ رعايةَ البشريَّة بمُجمَلِها، كلَّفهُ نَقْلَ الخلاص لكلِّ إنسانٍ دون استثناء. هي رعايةٌ نابعةٌ مِنْ وعيه لعلاقتهِ بالرب الذي يعطي ذاتَهُ بسخاءٍ.
بطرس إذن مكلَّفٌ بإعلان محبَّته لله، ومحبَّة الله للإنسانيَّة، في عيش المهمة التي أُوكلت له من المسيح. هذا المشهدُ الإنجيلي هو مرجعيَّةٌ لكلِّ علاقةٍ بين الناس، لكلِّ مسؤوليَّةٍ، دينيَّةٍ كانت، أم مدنيَّة، أم سياسيَّة، أم عائليَّة... فلا إمكانيَّةَ للخوض بعد ذلك بالشأن العام، والعناية بأمور الآخرين خارجَ هذه القيمةِ السامية، أي تقديمِ الذات فداءً عنهُم. وكلُّ من ينظرُ اليومَ إلى نفسِهِ ويجدُ بأنَّهُ مسؤولاً، لا بدَّ له من التوقُّفِ أمامَ الله ليُقيِّمَ عمَلَهُ، إذا ما كان نابعًا عن محبَّةٍ في التعاطي مع الآخرين وليس من غاياتٍ شخصيَّةٍ.
هذا المشهدُ الإنجيلي سيَّر حياتي الرهبانية والعائلية والرعوية، وقادني في مسؤولياتي، فلم أرتفع يومًا أعلى من المسيح، وبقيتُ الراعي الذي يستلهمُ الرعايةَ من المعلِّم، ولقد نجحتْ هذه المقاربة، وإذا بالمعلِّم الإلهي يضعُني كلَّ مرَّةٍ في مكانٍ أكثرَ حساسيَّة، يحتاجُ إلى محبَّةٍ أكبر، الى أن صرتُ اليومَ بنعمةِ اختيارهِ رئيسًا عامًا. وأصارحُكُم القول أنَّني لن أُغيِّرَ طريقةَ تعامُلي مع الله ولا مع الإنسان. فأنا راعٍ، مسؤولٌ عن الخراف، وعن كلِّ مَنْ لهُ علاقة بالله، ويريدني طريقًا لله، أنا راعٍ أسيرُ بالقطيع إلى الحياةِ الإلهيَّة إلى ملءِ الحياةِ مع الرب، ولا أعملُ على قيادة المعمَّدين فقط، بل أسيرُ مع كلِّ أبناءِ الله، على مختلفِ انتماءاتِهِمْ، لنصلَ جميعُنا إلى مراعي الحياة.
هذه المقاربة ربما رضعتُها بالحليب، من والديَّ، المرحومين أبو طوني وأم طوني، اللذين كانا لي مثالاً في الرعايةِ والإنفتاح على الجميع، واللذين ربَّيا ثقةً ومحبَّةً مع أبناءِ فالوغا، دروزاً ومسيحيين قلَّ نظيرُها، والأحداثُ اللبنانيَّة التي مرَّت هي خيرُ شاهدٍ على ذلك، فوالدي ووالدتي هم من القلائل الذين آمنوا بالعيشِ المشترَك، عندما كان الخوفُ يجتاحُ الجميع، وبقيا في البلدة طوالَ فترةِ الأحداث، لا يخافون، لأنهما على صخرةِ محبَّة المسيح ومحبَّةِ الآخَر بنوا حياتَهُما. فأبي لم يتحدَّ أحداً بالقوة، بل بالمحبةِ والثقة، التي بادلهُ إيَّاها الإخوة الدروز بشكلٍ لافتٍ، وكانوا يحافظون عليه محافظتَهُم على ذواتِهم.
وأنا اليوم على مثاله، وبإيمانٍ صادقٍ، أمدُّ يدي بثقة للذين يبادلونَنا الثقة في هذا الجبل، وسأقومُ بالرعاية، كما سلَّمني إيَّاها المسيح، وكما قامَ بها والديَّ، فأنا، من جهةٍ، كاهنٌ في الكنيسة، ومن جهةٍ أُخرى، أُمنيتي أن أفتحَ المراعي الخصبة للجميع، لنعيشَ سويَّةً المحبَّةَ والإلفة. وكما أصرَّ يسوعُ على بطرس، أُصرُّ اليوم بأن نكونَ عائلةً واحدةً، ولو نغَّصَ التاريخُ الحديث بعضًا من قِيَمِنا وتعاونِنا، فجميعُنا نسعى للقيمِ عينِها والحياة الكريمة عينِها. وهو ما يؤكِّدُ أنَّ العاميات في التاريخ بين الدروز والمسيحيين وُقِّعت لأنَّهم كانوا مدركين لدورهِمْ الأخويّْ، ولضرورة تكامُلِهم، وقداسي اليوم، بعد أن صرتُ رئيسًا عامًا للرهبانية الأنطونية المارونية، المنتشرة بكثافة في المتنَيْن، هو عاميَّةٌ جديدةٌ، نؤكِّدُ فيها على محبَّتِنا للجميع وتفتيشِنا سويَّةً على ينبوع الحياة الواحد، لنستعيدَ صورةَ الله على وجوهِنا.
باسم رهبانيتنا الأنطونية أودُّ أن أوجِّهَ من بلدتي الحبيبة فالوغا المحروسة من الله، ومن دير مار الياس قرنايل وسائر الأديار الأنطونية المغمورين ببركاتِه تعالى، تحيَّةَ احترامٍ ومودَّةٍ وشكرٍ لإخوانِنا الموحِّدين الدروز، الذين جمَعَتنا بهم علاقاتٌ تاريخيَّةٌ مميَّزة وذلكَ منذُ تأسيس دير مار أشعيا في برمانا سنة ١٧٠٠ إلى اليوم. بحيثُ أنَّ الموحدين الصالحين الطيبين قد وقفوا لأديارِنا الأوقاف الكبيرة وبادلناهُم العطاء بالعطاء الروحي والثقافي والإجتماعي.
إنَّني باسم رهبانيتنا الأنطونية، وبعدَ اتكالنا عليه تعالى وعلى همة رهباننا الأفاضل وعلى إرادتِكُم الطيِّبة نعاهدكُم على تجديد علاقات المودة وتفعيلها بين الدروز والمسيحيين في إطار العيش المشترك الحقيقي، والوحدة الوطنيَّة، وتعزيز العلاقات المسيحية الإسلامية الإيجابية في لبنان والعالم.
وبحُكمِ مسؤوليتي كراعي الخراف، أقودُ خرافي إلى حظيرة المسيح، ولكن، "لي خرافٌ أُخرى" يجب أن أقودَها إلى مراتعِ الحياة، وهذا واجبٌ عليَّ، ودعوة لكلِّ سياسيٍّ، وكلِّ إنسانٍ يتعاطى بالشأن العام. مسؤوليتُنا أن نجمعَ الجميعَ تحتَ سقفٍ واحدٍ بمحبَّةٍ وتبادُلٍ. فإنَّ أصواتَ الحق والتضحيَّة هي التي تبني وطنًا، والمكرَّسون لخدمة المواطن هم علامةُ العطاء والتجرُّد، هكذا فقط نبني لبنان، وهكذا بنيناهُ عبر التاريخ، رافعينَ دومًا رايةَ المحبة في التعامُل، لنبني جُسوراً من الثقة المتبادلة والإيمان بالتكامل.
تغمرُني عاطفةُ فرحٍ غامرٍ اليوم إذ أعود إلى بلدتي فالوغا، حيث ولدتُ وترعرعتُ وكبرتُ، فهنا انطبعتُ في القِيَمِ الإنسانيَّة التي طبعت مسيحيي الجبل ودروزَهُ، تنشَّأتُ على العادات العريقة، وروحانية لبنان اللقاء والمحبة، من هنا خرجتُ منذ ٤٥ سنةً قاصداً الرهبانيَّة الأنطونيَّة، لأتتلمذَ فيها بمدرسةِ المسيح وأكرِّسَ نفسي للرب. وأعود اليوم مُشبعًا من هذه القيم، لأني لم أترك نفسي لمنطقِ الأحداث لأغيِّر رأيي، بل تابعتُ العملَ بإيمانٍ ومحبَّةٍ للرب، وأنا اليوم أكثرَ ثقةً من ذي قبل، بإرادة الرب، وأحقيَّة العيش المشترك، ليس لأننا نعيشُ الواحدَ قربَ الآخر، بل لأننا نعيشُ القيمَ عينَها، ونتشاركُ المحبة والإحترام، ونتنشَّقُ العراقةَ والمسامحةَ والتعاون، التي من دونِها لا تُبنى الأوطان.
تغمرُني هذه العاطفة لأنَّ حبَّةَ القمحِ التي زُرعَت فيَّ، في بلدتي فالوغا، نمَتْ وأعطت سنابلَ محبَّةٍ وإخاءٍ وانفتاحٍ وإيمان. مضت السنون بسرعة، ولكن اذا نظرتُ في وجوهِكُم فأنا أجدُ ذاتي، وأعيدُ قراءةَ تاريخي، وأرى وجهَ أبي وأمي، ونهجَ حياةِ هذه البلدة التي بنَتْ وطنًا، وأستذكرُ معكُم بأنَّ فيها رُفِعَ أوَّلُ علمٍ لبناني، وفيها بقيت المحبة ثابتة، رغم الخوف الذي استوردهُ البعض.
فالشكرُ لله على هذه البلدة، وعلى كنيسة السيِّدة التي ربيتُ فيها، وعلى غيرةِ ومحبَّة سيادة المطران بولس مطر راعي الأبرشيَّة الذي أوجِّهُ له تحيَّةَ احترامٍ وتقديرٍ، وأشكرُ كاهنَ الرعيَّة، الخوري داني كيوان، الذي عُني بهذا اللقاء الروحي والإجتماعي.
أشكرُ أبناءَ البلدة، مسيحيينَ ودروزاً، الذين تعلمتُ منهم فنَّ الحياة المختلطة، والمشاركة في الأفراح والصعوبات.
الشكرُ للرعيَّة والمجلس الرعوي الذي أرادَ أن نقفَ سويًّا عائلةً واحدةً لنمجِّدَ الله، على نعمة اخياري.
الشكرُ لأهل البلدة الذين استقبلوني خيرَ استقبالٍ، الشكر للمجلس البلدي الذي يقومُ بخدمة البلدة.
الشكر لإخوتي الرهبان الحاضرين، والذين نظَّموا هذا الإحتفال مع لجنةٍ من الوقف ومن الأهل...
أشكرُ إخوتي وأخواتي وعيالِهم على الحياة التي عشناها سويَّةً، على إهتمامهم اليوم بهذا القداس...
أشكرُ الجوقةَ التي قامت بخدمة القداس، وكلَّ الذين عمِلوا وقدَّموا وضحُّوا، لتكونَ هذه المناسبة مجالَ لقاءٍ لأبناء بلدة فالوغا، فيستذكروا أيَّامَ المجد والحياة العائليَّة التي كانت تجمعُهُم.
وأرفعُ الصلاةَ لوالديَّ والذين سبقونا إلى ديار الحق، وكل الموتى الراقدين على رجاء القيامة، والذين هم مثالٌ لنا في التضحية والجرأة والعطاء، فليرحمهم الله بصلواتِنا، ويجعلهُم لنا مثالاً في التعاون والمحبة والشهادة الصالحة. وأرفع الصلاةَ أيضًا من أجلِ المرضى والمتألمين، ليهَبَهُم الربُّ الشفاءَ العاجل.
لله المجد وعلينا رحمتُه إلى الأبد."
وفي النهاية، كانت كلمات مرحّبة بقدسه من القاضي سجيع الأعور الذي أشاد بالعلاقات التاريخية في البلدة بين المسيحيين والدروز وتمنّى متابعة هذه العلاقة الى ما لا نهاية. وبدوره ألقى كلمة الأديب بديع أبو جوده ركّز فيها على روابط المودة التي تجمع آل أبو جوده والتي اعطت رجال دنيا ودين للوطن أتحف الحضور من عندياته الوجدانية النابعة من قلب محبّ.