خيرالله: كفى حروبًا وحقدًا وانتقامًا دعونا نبني معًا السّلام
وفي عظة العيد، قال خيرالله:"في ملء الأزمنة وقُربِ تحقيق مواعيد الخلاص، "قرّر الله أن يدخل تاريخ البشر بطريقة جديدة ونهائيّة كي يوطّد السّلام ويؤسّس مجتمعَ الأخوّة بين البشر الّذين هم خطأة، فأرسل ابنه في الجسد، جسدنا، لينتشل به النّاس من سلطان الظّلمة والشّيطان ويصالح به العالم". (المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، قرار في نشاط الكنيسة الإرساليّ، عدد 3). وفي الزّمن المحدّد في التّدبير الخلاصيّ، دخل الله التّاريخ والجغرافيا، واختار لابنه زمنًا (زمن الحكم الرّومانيّ في عهد القيصر أوغسطس في روما وقيرينيوس في سوريا، لوقا 2/1-2)، وأرضًا (مدينة دواد الّتي يقال لها بيت لحم في اليهوديّة، لوقا 2/4)، ونسلًا (بيت داود وعشيرته، لوقا 2/4)، وعائلة (يوسف ومريم، لوقا 2/4-5). وكانت ولادته في ظروف إنسانيّة واجتماعيّة قاسية، إذ كانت مريم أمّه "حاملًا وحان وقت ولادتها، فولدت ابنها فقمّطته وأضجعته في مذود لأنّه لم يكن لهما موضع في بيت الضّيافة". (لوقا 2/6-7). وأكثر من ذلك، لم يعترف أهلُ بيته وعشيرته وشعبه بأنّه "يسوع، وابن العليّ يدعى، ويوليه الرّبّ الإله عرش أبيه داود، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولن يكون لملكه نهاية"، كما قال الملاك لمريم (لوقا 1/31-33)، وبأنّه "المخلّص والمسيح الرّبّ"، كما قال الملاك للرّعاة (لوقا 2/11)، وبأنّه "ملك اليهود"، كما سأل عنه المجوس القادمون من المشرق (متّى 2/2).
بعد الولادة، اضطُّرَّ والده أن يهرب به ومريم إلى مصر ليلًا ويقيم هناك لاجئًا (متّى 2/14)، لأنّ هيرودس الملك "يبحث عن الطّفل ليهلكه" (متّى 2/13)؛ "فاستشاط غضبًا وأرسل فقتل كلّ طفل في بيت لحم وجميع أراضيها، من ابن سنتين وما دون" (متّى 2/16). فكان أطفال بيت لحم أولى ضحايا ظلم الحكّام الطّغاة، وصار اليوم أطفال لبنان وغزّة آخرَها، نتيجة "فظاعة وعمل وحشيّ"، كما قال قداسة البابا فرنسيس منذ ثلاثة أيّام.ثمّ في رسالته الخلاصيّة بين البشر، جال يسوع في اليهوديّة والسّامرة والجليل ونواحي صور وصيدا، مبشّرًا بملكوت الله، ملكوت المحبّة والعدالة والسّلام؛ داعيًا الخطأة إلى التّوبة وغافرًا لهم؛ حاضنًا الفقراء والعشّارين والمرضى؛ واضعًا نيره الخفيف على المتعبين والمثقلين بالأحمال؛ مُطوِّبًا فقراء الرّوح والودعاء والمحزونين والجياع والعطاش إلى البرّ والرّحماء وأنقياء القلوب والمضطهَدين من أجل البرّ والسّاعين إلى السّلام؛ واعدًا الّذين يحملون معه الصّليب بالحياة الأبديّة. وانتهى به المطاف البشريّ محكومًا بالموت على الصّليب. لكنّه انتصر على الموت بالقيامة. كلّ ذلك لأنّ يسوع المسيح ابن الله تمّم إرادة الله الآب وصار إنسانًا، وتبنّى البشريّة الضّعيفة من أدنى درجاتها إلى أرفعها لكي يحملها بفقرائها ومستضعفيها ومظلوميها ومهجَّريها وضحاياها وسلاطينها وأغنيائها وحكّامها، ويرفعها إلى مستوى الألوهة. إنّه سرّ الحبّ المطلق، سرّ الله الّذي أراد، من فيض محبّته للانسان، أن يتأنسن الله الابن ليتألّه به الإنسان. إنه سرّ ابن الله الّذي صار ابنَ الإنسان لكي يتسنّى لكلّ إنسان أن يصبح إبنًا لله.
هذا في التّاريخ، أمّا اليوم، وفيما نحتفل بميلاد يسوع سنة 2024، فنحن مدعوّون إلى التّأمّل في إرادة الله الخلاصيّة والاتّعاظ من التّاريخ، وما أشبه اليوم بالأمس القريب والبعيد. وصلنا اليوم إلى شفير الهاوية، بعد خمسين سنة من مخاض حروب فُرضت علينا ودارت على أرضنا وجعلتنا نتقاتل في ما بيننا نتيجة الحقد والعنف والانتقام. لكنّنا لن نيأس ولن نستسلم للقنوط والإحباط. وإيماننا بالله ورجاؤنا بالمسيح هما أقوى من اليأس. نحن في لبنان شعب يريد السّلام ويصرّ على العيش معًا في الاحترام المتبادل. في ميلاد 2024 نقول للقادة السّياسيّين في لبنان وفي العالم: كفى حروبًا وحقدًا وانتقامًا. دعونا نبني معًا السّلام، على الأقلّ من أجل أولادنا وأجيالنا الطّالعة الّذين يحقّ لهم أن يعيشوا بحرّيّة وكرامة، فيكونوا رسل سلام وشهود رجاء في لبنان وفي هذه المنطقة، أرض الدّيانات الثّلاث الّتي تؤمن بالإله الواحد، والأرض الّتي اختارها سيّدنا يسوع المسيح ابنُ الله ليصير إنسانًا ويخلّص الإنسانيّة.
نريد أن يكون ميلاد يسوع المسيح في سنة 2024 ميلاد الرّجاء، فيعيد البهجة إلى أطفالنا، والإرادة بالبقاء إلى شبابنا، والقوّة للصّمود إلى عائلاتنا. وأن يكون ميلاد الرّجاء هذا مقدّمة لإطلاق السّنة اليوبيلة 2025 الّتي أعلنها قداسة البابا فرنسيس "سنة الرّجاء"، ونحن فيها "حجّاج الرّجاء". وُلد المسيح رجاؤنا. هلّلويا".