خيرالله في عيد مار يوحنّا مارون: تعالوا نعطي لشبابنا رجاءً جديدًا ببناء دولة تليق بهم
وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس، ألقى المطران خيرالله عظة قال فيها: "في إنجيل هذا اليوم المميّز، يدعو الرّبّ يسوع المسيح رسله وتلاميذه إلى أن يكونوا ملح الأرض ونور العالم. وينبّههم ألّا يفسد ملحهم فلا شيء يملّحه بعد ذلك، وألّا يتحوّل نورهم ظلامًا فيغرق العالم في العتمة، بل أن يضيء نورُهم للنّاس ليروا أعمالهم الصّالحة فيمجّدوا أباهم الّذي في السّماوات. هكذا فهم الموارنة دعوتهم ورسالتهم في العالم والتزموا بهما على مدى خمسة عشر قرنًا بهدي أبيهم الرّوحيّ مار مارون النّاسك ومؤسّس كنيستهم مار يوحنّا مارون. ونحن هنا اليوم لنجدّد التزامنا بحمل هذه الرّسالة بعودةٍ إلى الينابيع الرّوحانيّة والتّاريخيّة والكنسيّة في الدّير الّذي منه انطلقت، في نهاية القرن السّابع، كنيسةُ المسيح الأنطاكِيّة على إسم مارون مع البطريرك المؤسّس يوحنّا مارون. ومن هنا انتشرت في العالم حاملةً الرّسالة الإنجيليّة بنكهة مارونيّة في طاعة للرّبّ يسوع المسيح. والنّكهة المارونيّة هي طعم السّماء على الأرض في عيش روحانيّة نسكيّة وضَعَها القدّيس مارون النّاسك نهجًا لحمل الصّليب مع المسيح، صليب الموت والقيامة. وتتميّز هذه الرّوحانيّة، في بُعدها النّسكيّ، بعِلاقة مع الله عيشًا في العراء على قمم الجبال أو في قعر الوديان وفي الصّوم والسّهر والصّلاة والوقوف المستمرّ والعمل في الأرض. وتتميّز، في بُعدها الرّساليّ، في العِلاقة مع النّاس في الانفتاح الرّسوليّ والثّقافيّ والإنسانيّ على جميع الشّعوب.
تبنّى تلاميذ مار مارون هذه الرّوحانيّة وانطلقوا من قمم جبال قورش وأتُوا إلى جبال لبنان، مُرسَلين لا فاتحين. فسكنوها وبنوا الكنائس والأديار وجمعوا حولهم شعبًا دُعي باسم مارون. وانتظموا مع مار يوحنّا مارون في كنيسةٍ بطريركيّة متّخذين جبالَ لبنان ووديانَه، في جرود جبيل والبترون وجبّة بشرّي وفي وادي قنّوبين، معقلًا لعيش مقوّمات روحانيّتهم النّسكيّة في الحرّيّة.
ثمّ بدأوا انتشارهم جنوبًا وشمالًا وشرقًا وغربًا. وانفتحوا على العالم.
لم يَخافوا من أن يندمجوا مع شعوب العالم ولا أن يذوبوا فيها، بل تبنّوا لغاتِها وثقافاتها وحضاراتها؛ وكانوا روّاد نهضة في الشّرق كما في الغرب بقيادة بطاركتهم العظام، لاسيّما منهم الطّوباويّ البطريرك اسطفان الدّويهيّ، وأسهموا مع إخوانهم المسيحيّين والمسلمين والدّروز بتأسيس الكيان اللّبنانيّ بدءًا من القرن السّادس عشر، الّذي أصبح مع البطريرك الياس الحويّك دولة لبنان الكبير سنة 1920، وقد أراده وطنًا لجميع أبنائه في الحرّيّة والكرامة والمساواة في المواطنة والأفضليّة للكفاءة. قال عنه القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني بعد سبعين سنة أنّه "وطن رسالة: رسالة في الحرّيّة والدّيمقراطيّة والعيش معًا في احترام التّعدّديّة، للشّرق كما للغرب. كان سرُّ نجاحهم، في سعيهم الدّائم نحو القداسة والعلم والثّقافة والإبداع، أنّهم لم يطلبوا من هذه الدّنيا مالًا ولا ممتلكات ولا سلطة، لأنّهم كانوا "أمّة الفلّاحين"، بل واجهوا السّلطنات والامبراطوريّات على أنواعها، بصلابتهم وتمسّكهم بالحرّيّة، حرّيّة أبناء الله، الّتي سمحت لهم بالحفاظ على ثوابتهم الأربعة. وهي:
1- إيمانُهم الرّاسخ بالله ورجاؤهم بالابن الّذي لا يخيّب، وقد تجسّد على أرضهم وصلب ومات وقام ليخلّص بني البشر.
2- تعلُّقهم بأرضهم المقدّسة، الّتي اختارها الله وقفًا له، والعمل فيها والعيش منها بكرامة.
3- انفتاحُهم على العالم بالعلم والثّقافة.
4- تكوكُبهم حول البطريرك، رأسِ كنيستهم وأبيهم وقائدهم ورمز وحدتهم وضمانة وجودهم.
وكلَّ مرةٍ كانوا يحيدون عن هذه الثّوابت كانوا يفشلون ويتراجعون.
في عيد مار يوحنّا مارون وفي بدء مسيرة الصّوم الكبير وفي السّنة اليوبيليّة المقدّسة الّتي أعلنها قداسة البابا فرنسيس "سنة الرّجاء"، نحن مدعوّون إلى وقفة وجدانيّة، أمام ذواتنا وأمام الله وأمام العالم وأمام التّاريخ، لنفحص الضّمير ونقوم بفعل توبة صادق. فنتساءل: أين نحن من ثوابت تاريخنا الرّوحيّ والكنسيّ والأخلاقيّ والثّقافيّ والوطنيّ بعد خمسين سنة من الحروب على أرضنا الّتي خلّفت قتلًا ودمارًا وانحطاطًا أخلاقيًّا وقِيَميًّا وتدنّيًا ثقافيًّا وتراجعًا ديمغرافيًّا وهجرة متزايدة؟ ونطلب المغفرة من الله ومن بعضنا البعض عن كلّ الانتهاكات الّتي ارتكبناها بحق الله والقريب وبحقّ وطننا لبنان.
نحن مدعوّون إلى أن نتجدّد في استعادة قيمنا وفي تضامننا ووحدتنا وترفّعنا عن مغريات الدّنيا وعن المصالح الشّخصيّة الضّيّقة لنحمل إلى إخوتنا في الوطن، ومعهم، رسالة الحرّيّة والمحبّة والانفتاح والحوار والرّيادة.
تعالوا نعطي لشبابنا وأجيالنا الطّالعة رجاءً جديدًا، ونحن في سنة الرّجاء، ببناء دولة تليق بهم وبمستقبلهم، دولةِ القانون والمواطنة، مع فخامة رئيس الجمهوريّة ورئيس مجلس الوزراء والوزراء الجدد وجميع أصحاب النّوايا الطّيّبة.
تعالوا نحمل مع بطريركنا مار بشاره بطرس الرّاعي، خليفة مار يوحنّا مارون السّابع والسّبعين وعلى خطى البطريرك الياس الحويّك، مشروع لبنان الغد، الوطن الرّسالة في القرن الحادي والعشرين، لبنان المحايد في دولة حديثة، دولة المواطنة الّتي تساوي بين اللّبنانيّين في ولائهم للوطن قبل الولاء للطّائفة أو للحزب أو لأيّ انتماء آخر.
أعطنا يا ربّ في عيد مار يوحنّا مارون أن نعود إليك تائبين، فنتحاور ونتصالح ونبني معًا من جديد ما هدّمته الحروب، ونكونَ رسلَ رجاءٍ لا يخيّب في المسيح يسوع وبهدي الرّوح القدس لتتميم إرادة الله الآب، ونحن جميعًا أبناؤه. آمين".