لبنان
10 شباط 2022, 08:50

خيرالله في عيد مار مارون: فشلنا في السّياسة ونجحنا في القداسة!

تيلي لوميار/ نورسات
إحتفل راعي أبرشيّة البترون المارونيّة المطران منير خيرالله، بقدّاس عيد مار مارون في الكرسيّ الأسقفيّ في كفرحي، عاونه فيه نائبه العامّ المونسنيور بيار طانيوس ولفيف من كهنة الأبرشيّة.

بعد الإنجيل المقدّس، ألقى المطران خيرالله عظة قال فيها: "يطلّ علينا عيد مار مارون هذه السّنة بينما نعاني كلبنانيّين من انهيار الدّولة وتفكّك مؤسّساتها وفساد حكّامها وتردّي الوضع المعيشيّ لمواطنيها جرّاء أزمة سياسيّة واقتصاديّة وماليّة واجتماعيّة وصحّيّة لا سابق لها.

ولكنّنا نشعر أنّنا مدعوّون اليوم، ومن هذا الدّير بالذّات، إلى وقفة ضمير تكون حافزًا لتوعيةٍ روحيّة وكنسيّة ووطنيّة ومدعاةَ تأمّل نعود فيها إلى أصالة دعوتنا في النّسكيّة على خطى مار مارون.

الرّوحانيّة النّسكيّة الّتي وضع أُسُسَها القدّيس النّاسك مار مارون على جبال قورش في أواخر القرن الرّابع تتميّز ببُعدَيْن متكاملين: البُعد العموديّ في العلاقة مع الله، والبعد الأفقيّ في العلاقة مع البشر.

في بُعدها العموديّ، إنّها روحانيّة الزّهد في العالم والتّماهي بالمسيح المعلّق على الصّليب بين الأرض والسّماء ليرفع البشريّة إلى الله الآب ويصالحها معه بالرّوح القدس ويفتديها بموته وقيامته.

وفي بُعدها الأفقيّ، إنّها روحانيّة الانفتاح على الإنسان، كلّ إنسان، إلى أيّ دينٍ أو عرقٍ أو ثقافةٍ انتمى، لعيش المحبّة معه في التّضحية حتّى بذل الذّات.

إنّها روحانيّة الصّليب، كما يقول العلّامة الأب يواكيم مبارك، الّتي يصمد معتنقوها في صعود درب الجلجلة ويبقون واقفين مع مريم تحت أقدام الصّليب ويقبلون الموت من دون خوف لأنّهم يرجون القيامة.  

تبنّى أبناء مارون هذه الرّوحانيّة والتزموا بعيشها والشّهادة لها في انتشارهم المستمرّ من جبال قورش إلى جبال لبنان حيث تنظّموا وأسّسوا كنيستهم البطريركيّة مع مار يوحنّا مارون.

واجهوا الاضطهادات والحروب والنّزوحات وقدّموا الشّهداء في سبيل الحفاظ على ثوابتهم، أيّ إيمانهم بالله وتعلّقهم بأرضهم التي اعتبروها هبةً من الله وعاشوا فيها ومنها بحرّيّة وكرامة، وانفتاحهم على الشّرق والغرب، وارتباطهم بشخص البطريرك رأسهم الأوحد وأبيهم وراعيهم ومرجعهم ورمز وحدتهم. وأنعمت عليهم السّماء بالقدّيسين الّذين كانوا يقودون مسيرتهم نحو القداسة والارتقاء إلى الله.  

أمّا على المستوى الوطنيّ والثّقافيّ، فقد باشر أبناء مارون مع إخوانهم المسيحيّين والمسلمين والدّروز بتأسيس الكيان اللّبنانيّ والذّاتيّة اللّبنانيّة منذ بداية القرن السّادس عشر وحتّى منتصف القرن التّاسع عشر في عهد الإمارتين المعنيّة والشّهابيّة. وكانوا روّاد الاستشراق في الغرب والاستغراب في الشّرق بفضل تلامذة المدرسة المارونيّة في روما، وروّاد النّهضّة العربيّة بفضل تلامذة مدرسة عين ورقة، وذلك بقيادة بطاركتهم، لاسيّما اسطفان الدّويهيّ (1670-1704)، وبدفع من الإصلاح الّذي قرّره المجمع اللّبنانيّ (1736).  

وكلّل هذه المسيرة البطريرك الياس الحويّك الّذي طالب الحلفاء المنتصرين في الحرب العالميّة الأولى بإعلان دولة لبنان الكبير، سنة 1919، مقدِّمًا إليهم "مشروع لبنان الكبير ولافتًا انتباههم إلى أنّ العيش المشترك الّذي يشهد له جميع اللّبنانيّين هو ميزة تكشف عن تطوّر عميق عظيم التّبعات، وهي الأولى في الشّرق، الّتي تُحلّ الوطنيّة السّياسيّة محلّ الوطنيّة الدّينيّة. وبحكم هذا الواقع، ينعم لبنان بطابع خاصّ وبشخصيّة يحرص على الحفاظ عليها قبل كلّ شيء."  

إعترف بهذه الخصوصيّة كثيرون من قادة العالم. وثبّتها بعد سبعين سنة القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني في دعوته إلى سينودس خاصّ بلبنان سنة 1991، وفي إرشاده الرّسوليّ رجاء جديد للبنان سنة 1997، ونحن نحضّر للاحتفال بيوبيله الفضّيّ، إذ قال:

"لبنان هو أكثر من وطن. إنّه رسالة حرّيّة ونموذج تعدّديّة للشّرق كما للغرب."

ويحرص اليوم قداسة البابا فرنسيس للحفاظ عليه وطنًا رسالة وعلى هوّيته ودوره. ويقول: "إنّ لبنان هو، ويجب أن يبقى، مشروع سلام. دعوته تكمن في أن يكون أرض التّسامح والتّعدّديّة وواحة أخوّةٍ حيث الدّيانات والطّوائف تتلاقى، وحيث الجماعات المتنوّعة تعيش معًا واضعةً الخير العامّ قبل المصالح الشّخصيّة" (1 تمّوز 2021).

في وقفتنا الوجدانيّة اليوم، نحن أبناء مارون، تعالوا نعود إلى ذواتنا وإلى ربّنا وإلى أصالة دعوتنا إلى القداسة في الرّوحانيّة النّسكيّة. تعالوا نستصرخ ضمائرنا ونتساءل بصراحة متجرّدة:

ماذا فعلنا بثوابت تاريخنا الرّوحيّة والأخلاقيّة والثّقافيّة والوطنيّة؟  

هل تركنا أنفسنا ننجرّ في التّنكّر لالتزاماتنا الكنسيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة والوطنيّة؟ ولدولة لبنان الكبير؟  

أين نحن من وضع رؤية مستقبليّة للبنان دولة الحقّ والقانون ودولة المواطنة الّتي تُحلُّ الوطنيّة السّياسيّة محلّ الوطنيّة الدّينيّة والطّائفيّة؟  

أين نحن اليوم من دورنا الرّائد في إقامة الحوار بين اللّبنانيّين، حوار المحبّة المبنيّ على الصّدق والصّراحة والاحترام والّذي يفترض تنقية الذّاكرة ويفتح الطّريق أمام المصالحة الشّاملة؟  

هل نحن مستعدّون للاعتراف بأنّنا فشلنا في السّياسة ونجحنا في القداسة؟

ولا نخجل من ذلك، لأنّ دعوتنا في المارونيّة هي دعوة إلى القداسة في حياة نسكيّة متجرّدة تتجلّى في "فلسفة حياة العراء، إذ لا بيت لصاحبها إلّا الهواء ولا سقف له إلّا السّماء"، منذ تأسيسها مع القدّيس مارون النّاسك وحتّى آخر القدّيسين فيها والطّوباويّين والمكرّمين والنّسّاك. لأنّه "في القداسة بدايتها، وفي القداسة ضمانتها، وفي القداسة استمراريّتها، وبدون قداسة نهايتها"، كما يقول العلّامة الأب ميشال الحايك."