لبنان
15 تشرين الثاني 2017, 09:39

خمسون سنة من الكهنوت

​"حسبي أن اكون خادمًا في بيتك جميع أيّام حياتي"

أشكرك يا إلهي لأنّك اخترتني للخدمة الكهنوتيّة وللدعوة للتكرّس الرّهبانيّ، اشكر أهلي وجميع من سهر ومن تعب عليّ وعلّمني وخدمني وخدم من أجلي وأنار دربي وعقلي وشجّعني وساندني في أحزاني وفرحي وفشلي ونجاحي.

أشكر أمّي الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة الّتي تكرّمني بشخص قدس الآب العام نعمة الله الهاشم السّامي الاحترام ومجلس الرّئاسة العامّة الموقر وحضور إخوتي ورفاقي وطلّابي وأحبّائي الرّهبان الأفاضل أشكر الجامعة جامعة الرّوح القدس الكسليك بشخص رئيسها الأب الحبيب جورج حبيقه وجميع عمدائها ومدرائها وطلّابها وموظّفيها، هذه الجامعة الحبيبة الّتي لها الفضل الكبير عليّ طالبًا فيها واستاذًا وعميدًا ورئيسًا، وضّمتني إلى أحضانها حجرًا علميًّا وثقافيًّا إلى حجارتها الصّفراء المنوّرة.

بماذا أكافئ الله على كل هذه النّعم، الّتي أنعم عليّ بها فأمسك بيدي طوال عمري وحملني في معطوبيتي وشفاني من جراحي وانكسار جسدي. آخذ كأس الخلاص وقربان الفداء وارفع بهما يدي شكراً إلى السماء وإلى الرّبّ على كل ما أعطاني ووهبني إيّاه من نعم ومن حياة. ومن أمانة لتعليم كنيستي الكاثوليكيّة وحبّ وفخر وانتماء لكنيستي المارونيّة ولمشرقيّتي الانطاكيّة المتوسطيّة وللبنانيّتي المحترمة والمحبّة لسبع عشرة طائفة تكوّن المجتمع اللّبنانيّ وعيشه المشترك الفريد والمميّز والمنفتح على المجتمع الإسلاميّ والعربيّ المحيط به.

أشكر أبي وأمّي وإخوتي وأخواتي وأهل الشّبانيّة قريتي الحلوة الّتي افتخر بها وأحبّها.

أشكر السّيّدة العذراء مريم سيّدة الشّبانيّة منمّشة الوجه الّتي طبعت صورتها الراّئعة حياتي وصرت مريميّ العبادة ومن هناك من جبال المتن الصّنوبريّة الجميلة تبقى صورة الخيال البطل مار جرجس يضرب برمحه التّنين وأخاف أن تدخل حوافره شدق التّنين الوحش فيبتلعها.

ومن هناك في مدرستي الأولى في الشّبانيّة في الغابة الصّنوبريّة مدرسة مار تقلا وكنت أصرخ بالقدّيسة تقلا أن تبعد قدميها من أمام شدقي السّباع لئلّا تفترسهما وأخاف أن يخطئ مار الياس بكنيسته الجميلة على درب المدرسة فيجرحني بضربة سيفه فأسرع الخطى لأبتعد عن ضربة السّيف القاطعة.

ليلة الميلاد أنام على الثّلج في الميدان لأرسم مع رفاقي طريقًا ليسوع القادم إلى مغارة كنيسة السّيّدة كي لا يخطئ دربه في ذلك اللّيل الّذي يكسر فيه الثّلج أغصان الصّنوبر ويجعل الأنهار والينابيع تتدفّق بلون أحمر بسبب جرف التّراب، فصار الاسم نهر الدّمّ والمياه تهدر كأصوات هديل الحمام فصار الاسم بير الحمام.

وأتت أيّام الكسليك ونهم القراءة والكتابة والمعرفة واللّقاء مع أساتذة كبار أثّروا فيّ وأشعلوا في قلبي وعقلي وحياتي حبّ الثّقافة والحضارة مع ممارسة الرّياضة خاصّة في لعبة كرة السّلّة وتأسيس فرقة الكسليك المسرحيّة وتقديم أجمل المسرحيّات بمناسبة الاعياد. ثمّ السّفر إلى أوروبا إلى جامعة ستراسبورغ والتّخصّص والحصول على شهادة الدّكتوراه بعلم الأنتربولوجيا وعلم الاجتماع الدّينيّ والفلسفة وعودة إلى لبنان للإدارة والعمادة وتأسيس الكلّيّات ورئاسة جامعة الكسليك وتفريعها ونقلها إلى نظام الوحدات.

وكان التّدريس الجامعيّ بين الجامعة اللّبنانيّة وجامعة الرّوح القدس في الكسليك الهمّ الأوّل في حياتي مع العمل في الإعلام في أمانة سرّ اللّجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام الجوّ الفكريّ والفلسفيّ والسّياسيّ توصف به إيديولوجيّات الجدليّة المادّيّة وعاصفة الأحاديّة العربيّة والانصهاريّة الإتنيّة والأنتربولوجيّة والفكريّة والفلسفيّة والحضاريّة وكنت أنا متأثّرًا بميشال شيحا ورينه حبشي وكمال الحاج وجواد بولس والشّخصانيّة الوجوديّة المسيحيّة مع أمانويل مونييه، وجنكيلوفتش ولوسن وغابريل مارسل وبول ريكور وموريس ندوسيل.

أطرح نظريّة التّعدّد الثّقافيّ والتّنوّع الدّينيّ والحضاريّ وكنت أرفض أن يبعد الأرمن أو الدّروز أو الشّيعة وأيّ مكوّن من مكوّنات الوجود اللّبنانيّ، وطمس شخصيّته ومسح ومحو تراثه وغناه الحضاريّ ضمن أحاديّة عربيّة كانت في أساسها متنوّعة ومتعدّدة مع الغساسنة والمناذرة في عمق الجزيرة العربيّة. في البداية رفضت هذه النّظريّة وهوجمت وأرادوا تدميرها، وها هي اليوم أساس مسألة لبنان التّنوّع والتّعدّد واحترام وحبّ الاغتناء بالآخر المختلف، المغاير، المميّز.

وتأثّرت كثيراً بمار بولس وأغوسطينوس وآباء الكنيسة والشّعر الملحميّ الميثولوجيّ، وطبعت أسرار الفصول وتحوّلات الطّبيعة ومرور الطّيور المهاجرة ورحيل النّاس والأيّام واشتريت الأراضي حول الجامعة وأطلقتها إلى العالم الأوروبّيّ والعربيّ.

ويوم تركت الجامعة ذهبت لأعيش في أنطش مار يوحنّا مرقس جبيل حيث رحّب بي صديق العمر الدّائم حضرة الأب الرّئيس يوحنّا وهبه الحبيب الّذي أكرم وجودي مع بقيّة إخوتي الرّهبان هناك حيث انصرفت إلى الخدمة الكهنوتيّة الرّعويّة في كاتدرائيّة مار يوحنّا مرقس الرّائعة ورعيّتها الحيّة وأهلها الأحبّاء.

وبقيت أزاول عملي في مكتب في جلّ الدّيب في المركز الكاثوليكيّ كأمين سرّ للّجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام متابعًا أيضًا برامجي التّلفزيونيّة في تلفزيون لبنان وتيلي لوميار خاصّة البرنامج الّذي أسّسته: "يوم الرّبّ".

ثمّ انتقلت للسّكن في الأشرفيّة في بيروت في دير مار أنطونيوس الكبير ورعيّته الرّائعة حيث يأتي إليها أولادها عبر شوارع الأشرفيّة حاملين مسابحهم بأيديهم يصلّونها في وسط بيروت وفي شوارعها.

وبين جرس دير ورعيّة كنيسة مار أنطونيوس الكبير في السّوديكو ومأذنة جامع بيضون وأجراس بقيّة الكنائس المحيطة بنا سكرت بجوّ من الصّلاة والحضور الإلهيّ في قلب بيروت عاصمة وطني لبنان بسحرها وتنوّعها وجمالها الّذي لا تجده في أيّة حاضرة من حواضر المتوسّط. ويوم كان الرّئيس سركيس في رئاسة الجمهوريّة رافقته كما رافقت الشّهيد الرّئيس الشّيخ بشير الجميّل والجبهة اللّبنانيّة ولجنة البحوث في الكسليك.

وفي النّهاية تمّمت سعيي وخدمتي، وحان وقت رحيلي إليك؛ فيا إلهي أشكرك وأباركك لأنّك باركتني وأغدقت عليّ مواهبك ونعمك، فبماذا أكافئك عن كلّ ما وهبتني وأعطيتني إلّا أن أقول لك أشكرك، وأرفع قلبي ويدي بخورًا وقربانًا لتسبيح نعمك الكثيرة عليّ. وها أنا يا إلهي حاضر لأعبر إلى قربك إلى الجهة الأخرى.

أدعني وها أنذا آتي إليك والسّكن قربك وحسبي أن أجلس على أعتابك ويحترق قلبي وأعرف أنّك قريب، قريب منّي كما كنت معي طوال سنين هجرتي على هذه الأرض، أحمل معطوبيّتي وجراحي وشفائي بنعمة منك وبشفاعة مار شربل.