خطأ غيّر تاريخ الطب إلى الأبد
ولحل هذا اللغز، لجأ بفايفر لفحص بلغم 31 مريضًا توفوا خلال جائحة الإنفلونزا في عام 1889 و 1890. أدت هذه الجائحة إلى وفاة حوالى مليون إنسان حول العالم. حينها اكتشف بفايفر نوعًا جديدًا من الجراثيم، وكتب في "المجلة الطبية البريطانية" عام 1892: "تبدو عصيات الإنفلونزا على شكل قوارض صغيرة". وقد وجدها في ضحايا الجائحة فقط. لذا قال: "في ضوء هذه النتائج، أعتقد أن لدي الحق في الإعلان عن أن هذه العصيات التي وصفتها هي مسبب الإنفلونزا". وأصبحت تعرف باسم "عُصيّات بفايفر". كان بفائفر رئيس القسم العلمي لدى "معهد برلين للأمراض المعدية"، وخليفة "روبرت كوخ"، رائد علم الأحياء الدقيقة. لذا فإن مكانته العلمية الرفيعة أسهمت في تصديق نتائجه بسرعة. واستمر ذلك لمدة 26 عامًا حتى بدأ الناس يتساقطون بأعداد مروعة من مرض تنفسي معدٍ.
نعرف الآن أن مسبب ذلك المرض كان فيروس الإنفلونزا وليس البكتيريا. لكن الفيروسات لم تكن معروفة في عام 1918. لذا نسب علماء تلك الحقبة المرض إلى عُصيّات بفايفر. وبدأت محاولات فاشلة لتطوير لقاح. بحلول صيف عام 1919 كان البشر يموتون بعشرات الملايين حول العالم، ولم يتفق العلماء على هوية القاتل.
انتقل المرض عبر المحيط الأطلسي مع الجنود وانتشر المرض في الخنادق والمعسكرات، ،بحلول الصيف كان المرض متفشيًا في كل أرجاء العالم.
لكن هذا الخطأ وتبعاته أثمر عن تأثيرات مهمة في العلم والطب وإيجاد معايير جديدة لتطوير الأدوية، بعضها لا يزال ساريًا إلى اليوم. يقول "جفري توبينبيرغر"، رئيس قسم مسببات الأمراض الفيروسية وتطورها في "المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية" في الولايات المتحدة: "كان العلماء العاملون في تلك الفترة أذكياء ويعملون باجتهاد. وقد استخدموا قواعدهم المعرفية والتقنية المتاحة". وقد أنتج عملهم علاجات لأمراض أخرى، وسرّع بتشكيل منظمات الصحة الدولية والوطنية، وساعدنا أيضًا في الاستعداد للأمراض المتفشية المستقبلية منها، جائحة "كوفيد-19".
تُعرف جائحة عام 1918 الآن باسم "الإنفلونزا الإسبانية"، وسُجل ظهورها للمرة الأولى في قاعدة للجيش الأميركي في كانساس. من هذه القاعدة توجه 56 ألف جندي إلى خنادق الحرب العالمية الأولى في أوروبا. انتقل المرض عبر المحيط الأطلسي مع الجنود وانتشر المرض في الخنادق والمعسكرات، ،بحلول الصيف كان المرض متفشيًا في كل أرجاء العالم. وتضافرت الجهود لتطوير لقاح لعُصيّات بفايفر. لكن الوفيات تواصلت وبلغ عددها في أكتوبر عام 1918 وحده 200 ألف في الولايات المتحدة فقط، وكثير منهم حاصلون على اللقاحات المنتجة آنذاك. ولاكتشاف سبب فشل تلك اللقاحات، جمع الأطباء عينات من رئات الضحايا الأحياء والأموات لتحليلها. ووجدوا مستعمرات لأنواع أخرى من البكتيريا، بأعداد تفوق بكثير عُصيّات بفايفر. كما وجدوا عُصيّات بفايفر في أشخاص أصحاء أيضًا. عندها، تم إجراء تجارب على متطوعين ورش وجوههم برذاذ يحتوي على عُصيّات بفايفر، ولم يصب أي منهم بالإنفلونزا. بدأت هذه التجارب تقود إلى الاعتقاد بأننا لم نكن نعرف الكثير عن هذه الجائحة.
أصرّ القائمون على اللقاحات بنجاحها، وقالوا بأنها تمنع 90 بالمئة من الوفيات. وأنها قللت من الأعراض المصاحبة للإنفلونزا ومنها، الالتهاب الرئوي. عادت أرقام الوفيات إلى الوضع السابق لما قبل الجائحة بحلول 1921. وخلال الأعوام التسعة التالية، واصل العلماء محاولاتهم لتأكيد انعدام الصلة بين عُصيّات بفايفر والإنفلونزا. فقد واصلت الإنفلونزا الموسمية دورتها المعتادة بالتفشي دون علاج ناجع. وأخيرًا نجح عالم الفيروسات "ريتشارد شوب" بعزل أول فيروس إنفلونزا معروف من خنازير مريضة. وأكدت الأبحاث التالية في المملكة المتحدة، أُجريت على الحيوانات، الصلة بين الفيروس المعزول والإصابة بالإنفلونزا. وكتب الباحثون الإنجليز في عام 1933: "نعتقد أن الدليل قاطع على أن هناك عنصرًا فيروسيًا في جائحة الإنفلونزا". استغرق هذا الدليل 40 عامًا وآلاف الأبحاث وعشرات الملايين من الضحايا للوصول إلى المسبب الحقيقي للمرض. تذكرنا قصة بفايفر بالتحديات التي يواجهها العلماء عند ظهور تهديد جديد من الأحياء الدقيقة.
المصدر: National Geographic