دينيّة
07 شباط 2021, 08:00

خاصّ– الأب أبي عون: "من يقدر أن يخلص؟"

غلوريا بو خليل
"اليوم هو أحد الموتى المؤمنين، ومع أحد الكهنة وأحد الأبرار والصّدّيقين السّابقين، نكون قد وصلنا إلى ختام آحاد التّذكارات الثّلاثة وأسابيعها والتي تدعونا الكنيسة المارونيّة خلالها إلى أن نتذكّر ونصلّي ونستعدّ أيضًا للدّخول بالخشوع والهدوء إلى زمن الصّوم المبارك."

بهذه الكلمات استهلّ رئيس أنطش سيّدة التّلّة - دير القمر وخادمه، الأب جوزف أبي عون الرّاهب المارونيّ المريميّ كلمته الرّوحيّة لموقعنا وأردف قائلًا: "في إنجيل اليوم أحد الموتى المؤمنين، وهو إنجيل الغنيّ ولعازر للقدّيس لوقا (16/ 19 – 31)، دعوةٌ مباشرة لنا نحن المؤمنين المسيحيّين، بأن نقف قليلًا ونقرأ بتمهلّ، وعلى هدي الرّوح، مسار حياتنا على ضوء ما حدث للغنيّ ولعازر ما بعد الممات. فلندخل إلى الغرف الصّامتة في داخلنا ولنسأل أنفسنا: في هذه المرحلة الصّعبة من تاريخ وطننا والعالم أجمع، هل لديّ الجهوزيّة الرّوحيّة والإنسانيّة المناسبة للقيام بما يتطلّب منّي عند الضّرورة لأكون إلى جانب الأكثر حاجة؟

أين أنا من موقف الغنيّ المكتفي بماله والمتّكل عليه غير آبه ولا مكترث بذاك المسكين لعازر الذي كان يأتيه كلّ يوم آملًا أن ينال ولو من الفتات المتساقط عن مائدته؟

لعازر صعد إلى السّماء ونراه سعيدًا في حضن إبراهيم والغنيّ إلى الجّحيم في خضمّ اللّهيب يتألّم عطشًا من عذاب الغربة والانفصال. الغنيّ أخذ نصيبه في هذه الحياة عندما كان يعتقد بأنّ كلّ شيء يكمن في ماله وغناه وينتهي بأفخر ولائمه. لم يكن في حسبانه أنّه سينال هذا المصير المحتّم المؤلم بعد الموت في نار الجحيم: أو أنّه لم يكن يؤمن بالحياة ما بعد الموت على غرار قسمٍ كبير من اليهود آنذاك ومنهم الصّدوقيّون، أو أنّه كان يعتقد كسائر الفريسيّين  بأنّ الغنى هو علامة رضى من الله والفقر قصاص منه، فسيكافأ ولا شكّ بعد مماته. وهذا ما نراه في ردّة فعل التّلاميذ حينما أخذوا يتساءلون فيما بينهم "من يقدر أن يخلص؟"، عند قول يسوع لهم، بعد رجوع الشّاب الغنيّ حزينًا لأنّه كان ذا مالٍ كثير، "ما أصعب دخول الأغنياء المتّكلين على المال إلى ملكوت الله".

كان يسوع واضحًا في أقواله وتعليمه بما يختصّ الغنى والمال. لم يحكم على المال لأنّه مال، أو على الغنيّ لأنّه غنيّ، بل حذّر ودان المال عندما يصبح إلهًا آخر مساويًا لله في العبادة، والغنيّ المنغلق على ماله والمتّكل عليه فقط. هذه النّظرة الجديدة ليسوع تجاه المال والغنى، ومواقفه الواضحة والصّريحة في تسمية الأمور وتحديدها، أنهى حقبةً كان فيها الإنسان عبدًا للسّبت مرتهنًا لحرفيّة شريعة أطفأت فيه الرّوح وقتلت الطّموح، وأسّس لحقبة جديدة قوامها ثورةً تغييريّة في تفكير النّاس ونمط حياتهم، وانقلابًا جذريًّا على شرائع وعادات شوّهت من صورة الله وحرّفت تعليمه واستعبدت خليقته الإنسان المخلوق على صورته ومثاله.

بهذا المثل الذي أعطاه يسوع أمام الفرّيسيّين المحبّين للمال والمحتقرين للفقير والمسكين، واجه ذهنيّة متحكّمة بمصائر النّاس وأحوالهم، وموزّعة الأحكام والأعراف بلا شفقة ولا رحمة، الغنيّ فيها يزداد غنى والفقير فقرًا، وأظهر لهم الله الحقّ، ذاك الأب المحبّ والرّؤوف، معيدًا للإنسان، أيّ إنسانٍ، الذي من أجله أتى العالم متجسّدًا ساكنًا بيننا، قيمته وكرامته.

أعطى يسوع هذا المثل الغنيّ ولعازر أمام الفرّيسيّين، بعد أن "استهزأوا به" لمواقفه التي تقلّل من شأن المال وترفع الإنسان، لا على قدر ما يملك، بل على قيمته كإنسانٍ بحدّ ذاته. حاول من خلال هذا المثل أن يبدّد من أذهانهم ما "فبركوه" لأجيال وأجيال من أفكار وعادات توافقت مع مصالحهم، وزادت من أثقال النّاس وأحمالهم وعبثت بصورة الله الحقّة وبعثرتها.

الغنيّ، كما نلاحظ في الإنجيل، لا إسم له، بينما الفقير إسمه لعازر، ومعناه "الله معين". الغنيّ كان يلبس الكتّان والأرجوان، على مثال الفريسيّين، والفقير كان جسده مغطّى بالقروح لشدّة فقره. ليس لأنّه كان يلبس الكتّان والأرجوان نزل إلى الجحيم، بل لأنّهما منعاه من رؤية الفقير المسكين المتسكّع عند باب بيته والانحناء صوبه وإعانته. حتّى يسوع، كما يذكر الإنجيليّون، كان يلبس رداءً ثمينًا، لأنّ الجنود لم يتمكّنوا من تجزئته لأهميّته، بل اقترعوا عليه، لكنّ هذا لم يمنع يسوع من أن يكون على ما كان عليه بين النّاس، القريب والمحبّ والمنحني عليهم.

في الكتاب المقدّس العهد القديم، فقراء الله نعني بهم هؤلاء النّاس الطّيّبون الذين ينحنون بتواضع تجاه إخوتهم البشر على مثال الله الآب السّماويّ الذي انحنى من أجلنا فأرسل إلينا ابنه الوحيد فاديًا ومخلّصًا. والعذراء مريم هي مثال فقراء الله التي انحنت بتواضع ووضعت ذاتها في خدمة مشروع الله الخلاصيّ.

خطيئة الغنيّ أنّه كان يعرف لعازر جيّدًا، ولم يعطه يومًا انتباهه، إذ أنّه ناداه باسمه متمنيًا على أبينا ابراهيم أن يرسله فيبلّ بطرف إصبعه ماء ويبرّد لسانه. المال أعمى عينيه جاعلًا منه عبدًا له وأسيرًا لرغباته ولغرائزه. كان قريبًا جدًّا منه، كلّ يوم على باب بيته. إنّما كبرياؤه وجشعه منعاه من رؤيته والتّعاطف معه."

وأضاف خادم رعيّة دير القمر متمنيًا على المؤمنين: "إخوتي، الموت محتّم، ولا ندري، كما يقول لنا الرّبّ يسوع، في أيّ ساعة يأتي. فلنكن مستعدّين ولننزع منّا هذا الغنيّ النّهم في الاكتفاء بماله والمتمادي في اللّامبالاة  لحاجة الآخر وأنينه، ولنلبس خوذة الخلاص ودرع الإيمان، فسنجد حينها هذا الـ "لعازر" الذي ينتظرنا ونقوم بإعانته. أمّا هو، لعازر، سيعيننا بالمقابل لنرى الله الحقّ السّاكن فيه، ونشكره هنا وفي اليوم الأخير لأنّه جعلنا نقترب من الله ونلمسه بأيدينا ونحبّه بإخوته هؤلاء الصّغار. فلنحمل معنا، كما نقول دائمًا، أعمالنا التي نتمنّاها صالحة، فيكون سراجنا طافحًا بزيته."

وبصلاة قلبيّة اختتم الأب أبي عون كلمته الرّوحيّة متضرّعًا: "إرحم يا ربّ موتانا الذين صاروا عندك، خاصة أحبّاءنا الذين أسقطتهم جائحة كورونا. لا تعاملهم فقط بحسب عدلك، بل أيضًا بحسب رحمتك. أعطنا أن نضع كلّ شيء في خدمة بعضنا البعض نحن أبناؤك البشر، فنراك في وجوهنا وأسمائنا ونحبّ بعضنا بعضًا كما أنت أحببتنا إلى الأبد. آمين."