لبنان
30 أيار 2018, 10:05

حبيقة في عيد الرّوح القدس: لولا المنسوبُ العالي للحرّيّات الفرديّة والجماعيّة.. لكان لبنانُ فقد فرادتَه

أقامت جامعة الرّوح القدس – الكسليك احتفالها السّنويّ بمناسبة عيد شفيعها، عيد العنصرة، تخلّله قدَاس ترأّسه قدس الأب العامّ نعمة الله الهاشم، الرّئيس العامّ للرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة والرّئيس الأعلى للجامعة، ممثّلاً بالنّائب العامّ الأب كرم رزق، بمعاونة رئيس الجامعة الأب البروفسور جورج حبيقة ورئيس دير الرّوح القدس الأب جورج قزّي، وبمشاركة راعي أبرشيّة صربا المارونيّة المطران بولس روحانا والقائم بأعمال السّفارة البابويّة في لبنان المونسينيور إيفان سانتوس، والأب المدبّر هادي محفوظ، وجمهور آباء دير الرّوح القدس.

 

وبعد القدّاس، ألقى رئيس الجامعة الأب البروفسور جورج حبيقة خطابه السّنويّ الذي حمل عنوان: "الميثاق الوطنيّ اللّبنانيّ والدّيمقراطيّة".

حضر الحفل النّواب نعمت افرام، شوقي الدّكاش، روجيه عازار وعماد واكيم، النّائب السّابق نعمة الله أبي نصر، رئيس مجلس أمناء الجامعة د. جورج التّرس وأعضاء مجلسي أمناء وأعضاء الجامعة، أعضاء الهيئة التّعليميّة والإداريّة وحشد من المدراء العامّين والفعاليّات السّياسيّة والعسكريّة والدّبلوماسيّة والدّينيّة ورؤساء وممثّلي الجامعات والأصدقاء...

الأب رزق

خدمت القدّاس جوقة الجامعة بقيادة عميد كلّيّة الموسيقى الأب بديع الحاج. وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى الأب رزق كلمة باسم الأباتي نعمة الله الهاشم، وقال في مستهلّها: "إنّها العنصرة عيد حلول الرّوح القدس على الرّسل الأطهار في العلّيّة، وهو عيد جامعة الرّوح القدس التي اتّخذت اسم الأقنوم الثّالث من الثّالوث الأقدس عن هدي وحي واشراق إلهام، لتكون عائلة الرّوح القدس في تواصل أجيالها ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا وإلى ما شاء الله، مقرّ الرّوح القدس على صورة العلّيّة في أورشليم الحقيقيّة والمنتظرة". وتوجّه باسم الأب العامّ ومجلس الرّئاسة العامّة للرّهبانيّة إلى رئيس الجامعة وأسرتها بأحرّ التّهاني وأطيب الأماني، سائلاً الرّبّ يسوع أن يملأ الرّوح القدس قلوبنا جميعًا فرحًا وسلامًا وازدهارًا...

الأب حبيقة

وبعد عرض وثائقيّين سلّطا الضّوء على نشاطات الجامعة وانجازاتها خلال العام المنصرم وتضمّنا شهادات حيّة لبعض الطّلاب المتميزّين، ألقى رئيس الجامعة الأب البروفسور جورج حبيقة خطابه السّنويّ احتفاء بالمناسبة، بعنوان: "الميثاق الوطنيّ اللّبنانيّ والدّيمقراطيّة"، واضعًا وجهًا لوجه الميثاق، صيغة فريدة والدّيمقراطيّة كنظام سياسيّ، مقدّمًا إلى حدّ بعيد ديمومة الميثاق اللّبنانيّ على أيّة إيديولوجيا سياسيّة أخرى.

وانطلق الأب الرّئيس في كلمته من مفهوم "الدّيمقراطيّة" الذي التجأت إليه المجتمعات منذ القدم إلى اليوم، اقتناعًا منها أنّه يصون الحرّيّة، ويؤمن للشّعب الكلمة الفصل في اختياره ممثّليه أو في من يديرون الشّؤون السّياسيّة باسمه.

وجاء في الخطاب أيضًا ما مفاده أنّ مفهوم الدّيمقراطيّة التي تعني في لغة الإغريق "قوّة الشّعب وسلطته" لم يلقَ رواجًا في فلسفة أفلاطون السّياسيّة، عملاق الفكر في الأزمنة القديمة؛ لما لمفهوم السّياسة من أهمّيّة قصوى في إدارة المجتمع تحول دون أن تكون من خارج النّخبة التّربويّة والفكريّة.

كما ناقش الأب حبيقة أنماط الدّيمقراطيّة، واستعرض أشكال الأنظمة السّياسيّة الاجتماعيّة الرّائجة، من مستبدّة وديكتاتوريّة وأحادية اللّون وسواها. وانتهى المطاف بالتّوقف عند ميل الإنسانيّة إلى الدّيمقراطيّة.

وقد بدت لها ليّنة العريكة بسبب تلوّنها بلون البيئة الحاضنة لها، إلى أن أصبحت الدّيمقراطيّة، على العلل التي تكتنفها، الأقلَّ سوءًا بين جميع الأنظمة السّياسيّة، نظرًا إلى النّسبة الإنسانويّة التي تحتنضها.

ومن نبذة خاطفة عن الدّيمقراطيّة، انتقل الأب الرّئيس إلى مقاربة الدّيمقراطيّة بالمقارنة مع الدّستور اللّبنانيّ. فتطرّق إلى النّسيج الاجتماعيّ اللّبنانيّ المؤلّف من 18 طائفة دينيّة وثقافيّة مختلفة، تختزن ظاهريًّا كلّ أسباب التّنافر الدّاخليّ والتّصادم، إلّا أنّ الدّستور اللّبنانيّ جسّد في بنوده الصّورة المثلى لتاريخ لبنان الطّويل الضّارب في عمق الزّمن الإنسانيّ، عن طريق احترام خصوصيّات الطّوائف، والتّوفير لها حرّيّة التّربية والتّعليم، وتمثيلها في مراكز الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة الرّسميّة كافة؛ حتّى لا ينتقص أيُّ حقّ من حقوق مكوّنات المجتمع المتنوّع، بهدف إرساء دولة تتقن فنَّ إدارة التّعدديّة وإخصابها عبر مبدأ التّعارض الخلاَّق.

ويكون بذلك الدّستور اللّبنانيّ هو الضّامن القانونيّ لمنظومة العيش معًا، والاحترام المتبادل، والاعتراف، من غير منّة، بالحقّ في الاختلاف، رافعًا الصّيغة الوطنيّة إلى ميثاق قائم على كرامة الإنسان، كلّ الإنسان. وقد يصعب العثور، في العالم، على نمط ديمقراطيّ أفضل من هذه الدّيمقراطيّة التّوافقيّة في إدارة الاختلاف، مع التّأكيد على أنّ الآخر المختلف شريك متساوٍّ في الحقوق والواجبات؛ فلا أقلّويّ يستعطي بقاءه من الآخر الأكثريّ القويّ، ولا من يحتاج إلى استجداء وجوده من أحد أو إلى تسامح الآخرين في حقّه الطّبيعيّ بوجود حرّ وسيّد.

وتدعيمًا لطرحه، أضاف الأب حبيقة، في كلمته، أن الأهمّ من الدّستور المكتوب هو الميثاق الوطنيّ غير المكتوب، والمتطوّر أبدًا جرّاء المستجدّات على صعيد النّسيج الاجتماعيّ اللّبنانيّ.

إنّ الميثاق الوطنيّ اللّبنانيّ هو فعل إرادة اللّبنانيّين، وفعل إيمانهم بلبنان، وطنًا نهائيًّا للمكوّنات اللّبنانيّة جميعها، في تثبيت حقّها اللّامنقوص في وجودها الحرّ، وبالتّالي، في اختلافها، لتتمكّن أنّ تكون كما هي تريد أن تكون، ضمن حدود احترام الآخر في الأمور عينها والمحافظة على السّلّم العامّ.

ورأى الرّئيس في البعد الإنسانيّ الذي ينطوي عليه الميثاق الوطنيّ اللّبنانيّ، إعادة إحياء لـ"ميثاق المدينة" الذي أبرمه النّبيّ محمد في يثرب، المدينة المنوّرة، منذ 14 قرنًا، بينه وبين اليهود والنّصارى والصّابئة، والذي ينشئ بصريح العبارة، مجتمعًا سياسيًّا واحدًا تحت لفظة "أمّة" في تعدديّة دينية وثقافيّة، وفي إدارة متساوية لشؤون المدينة.

وشدّد الرّئيس في كلمته على أمرين مثيرين، من جهة، على القيمة الإنسانيّة المجتمعيّة لميثاق المدينة، وقد اعتبره الباحثون أوَّل نصّ في القانون المدنيّ العربيّ، ومن جهة ثانية، على تراجع مفعول الميثاق على السّاحة السّياسيّة الاجتماعيّة، يوم راح الإسلام يدخل، شيئًا فشيئًا، في ذهنيّة مغايرة، بفرضه الشّريعة الإسلاميّة على الجميع، ولم يُبقِ من مضمون "ميثاق المدينة" إلا بعضًا من حنين متقطّع إلى ما تداعى من روحيّته وفلسفته، قد تجده في تساؤل عمر ابن الخطّاب وتأنيبه الموجّه إلى المسلمين: "متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا".

وتوقّف الأب حبيقة في كلامه عند الميثاق الوطنيّ اللّبنانيّ كنقيض للأنظمة السّياسيّة العربيّة القائمة على مبدأ "الانصهار الوطنيّ"، الذي يطفو كزبد مرضيّ على سطح الخطب السّياسيّة المستنسخة والمجوّفة في بلدان تفتقر إلى خدمات العقل ومفاهيم الإنسانيّة الأساسيّة. واعتبر "الانصهار الوطنيّ" المزعوم مصطلحًا يستعمل، أصلًا وحصرًا، للمعادن التي تدخل متنوّعة إلى الأتون لتخرج منه شكلًا واحدًا وتركيبًا كيميائيًّا واحدًا.

وأشار إلى أنّ نصوص اتفاقيّة الطّائف استفاضت في استخدام مصطلح "الانصهار الوطنيّ"، وشدّدت عليه، بكلّ أسف، وبالتّالي، خالفت روح وفلسفة الميثاق الوطنيّ اللّبنانيّ، الذي إن هو إلّا النّقيض للانصهاريّة المذوّبة لحقّ الآخر في الاختلاف. كما خالفت رسالة لبنان الاجتماعيّة والسّياسيّة التي تسعى إلى مشروع وحدة إنسانيّة ووطنيّة بين عائلات روحيّة ومجموعات إتنيّة وثقافيّة وحضاريّة على شاكلة وحدة الجسد، وقائمة على التّكامل الوظائفيّ بين خلايا وأعضاء لا يجمعها إلّا الاختلاف في التّآلف. 

وركّز الرّئيس مستطردًا على قَدَرية التّعدديّة في لبنان، وقد كانت في صلب "الميثاق الوطنيّ اللّبنانيّ"، برهانًا حيًّا على احترام الغيريّة، وصاحبة دور لا يستهان به في ما عرف بـ "لبننة المسلمين وتعريب المسيحيّين".

وحذّر من انتفاء مواطنيّة صاغتها الطّائفيّة البنّاءة وفلسفة والميثاق الوطنيّ اللّبنانيّ، بحجّة إلغاء الطّائفيّة السّياسيّة لصالح مشروع خبيث مبتغاه المنظور تحقيق توسّع طائفة على حساب الطّوائف الأخرى، والاستئثار بإدارة دفّة الحكم، بعد إغراق المواطنيّة اللّبنانيّة في إشكال هويّتي يسلخها عن جذورها، ويبتر تواصلها مع أصالة تاريخها، لأنّه رأى في مثل هذه الفاجعة – الواقع، تنازلًا عن الصّيغة اللّبنانيّة وضربة قاسية تسدَّد إلى الفرادة اللّبنانيّة في منطقة الشّرق الأوسط.

ورأى أنّ هذا ما لا يمكن أن يحدث إذ إنّ المشرّع اللّبنانيّ الكفوء، الواعي، المسؤول والمستشرف لمستقبل الصّيغة اللّبنانيّة، نصّ في الدّستور اللّبنانيّ على أنّ كلّ تشريع لا يحترم قاعدة العيش المشترك هو غير دستوريّ؛ منقذًا، من جهة، المواطنيّة اللّبنانيّة المتنوِّعة، ومؤكّدًا، من جهة ثانية، أنّه كلما كانت الدّولة حاضنة للفروقات وراعية لها بإخلاص واقتناع، كان المجتمع اللّبنانيّ أكثر تماسكًا، وأشدّ اتّحادًا، وأصلب استمراريّة، وأكثر حضورًا وتعاونًا في الاستحقاقات الحرجة.

واستشهد بعدد من الباحثين، أبرزهم تشارلز تايلور وماري غاي Gaille، ليدعم موقفه من فلسفة النّظام اللّبنانيّ المميّز في منطقة الشّرق الأوسط، كونه، بفضل الميثاق الوطنيّ، نظامًا إشراكيًّا وليس إقصائيًّا، أبى أن يُبقي أحدًا أو جماعة من اللّبنانيّين خارج التّمثيل النّيابيّ وخارج السّلطة، كما حال دون سيطرة طائفة على الآخرين أو تطويعهم أو إلغائهم.

إنّ الفرادة اللّبنانيّة ليست يتيمة، فهي تجد دعمًا قويًّا في ما يسمّيه تشارلز تايلور "سياسة الاختلاف"، القائمة على الحرّيّة المطلقة لأن يكون الإنسان المواطن كما هو يريد أن يكون، وفي ما تسمّيه Gaille "المواطن"، الفريد في شخصه وكيانه ومشاعره وتعبيره [...] وعلى الدّولة الدّيمقراطيّة أن تعترف بالمساواة، وأن توفّر لمواطنيها جميعًا، من دون استثناء، أفضل الظّروف ليطوّر كلّ مواطن في ذاته "الأنا" المثلى.

واعتبر الرّئيس أنّ سياسة الاختلاف المعتمدة في النّظام اللّبنانيّ هي انتصار يوميّ على الفشل، وعلى منظومة كلّ من تخوّل له نفسه التّرويج "لانصهار" يفضي إلى أحاديّة لغويّة ودينيّة وسياسيّة ومجتمعيّة، لا تلبث أن تنضم إلى مصائب الشّرق الأوسط الكبرى، ويكفي برهانًا، ما يجري اليوم، مطلع القرن الواحد والعشرين، من معموديّة دمّ على مساحة هذا الشّرق، بالرّغم من تكدّسات حضاراته وثقافاته. 

كما رأى الأب حبيقة أنّ هناك ديناميةً متجدِّدة يولِّدها اللّااستقرار الإنسانويّ في النّظام السّياسيّ في لبنان. وهذا دليلُ عافية مجتمعيّة، إذ لولا المنسوبُ العاليّ للحرّيّات الفرديّة والجماعيّة، الذي من شأنه المحافظةُ على اللّاإسقرار الإيجابيّ، لكان لبنانُ فقد فرادتَه وشُيِّع في موكب مهيب إلى مثوى البلدان التي تناصبُ العداءَ لثقافة الحياة ومنطق الوجود القائم على مبدأ التّناقض المحيي. إنّ عظمة النّظام اللّبنانيّ ترتكز على اعتبار الآخر المختلف "لا كعدوّ للذّات، أو كخطر على نموّها، بل كشرط أساسيّ لتأطير الذّات ولوجودها، إذ لولا الآخر لما كان من الممكن أن أعي ذاتي في غيريتها [...]" وعليه، بات الآخر دينيًّا، وعرقيًّا، وثقافيًّا، بفضل الصّيغة اللّبنانيّة جزءًا لا يتجزأ من ذات الجميع وشريكًا فاعلًا لا متفرّجًا في رسم السّياسات التي من خلالها تدار شؤون لبنان كافّة، وبالتّالي، نتج من هذا الواقع ديمقراطيّة لبنانيّة قامت ولا تزال تقوم على التّناوب السّلميّ على الحكم، وضمن مهل زمنيّة محدّدة في الدّستور، الأمر الذي يبدو نادرًا في شرقنا العربيّ البائس...". فالشّرق يفتقر إلى حرّيّة الرّأي، وحرّيّة التّعبير، وحرّيّة الصّحافة، وحرّيّة الضّمير، وإلى إرساء نظام سياسيّ يعرف كيف يتكيّف مع المخاطر والأزمات التي تطرأ على أيّ وطن من أوطانه، وكيف ينتصر للعقل ضد اللّاعقل... ليدخل في الحداثة الفكريّة والسّياسيّة ويتحرَّر من هذا التّصلب الوهميّ القائم على قناعات رجعيّة لن تقوى على الوقوف في وجه العولمة السّاحقة.

وفي الختام، ذكّر الرّئيس، في كلمته، أنّ لبنان، بفضل الميثاق الوطنيّ القائم على النّظام الطّائفيّ البنّاء، الإشراكيّ، المنفتح، المتفاعل والمعترف بالآخر المختلف كشريك كامل الحقوق والواجبات، إنّما هو البلد العلمانيّ الوحيد في الشّرق الأوسط، إذ لا دين للدّولة فيه والتّشريع لا ينطلق من الدّين. وخلاصة هذا الكلام أنّ الطّائفيّة، الموصوفة من بعض السّياسيّين اللّبنانيّين بالبغيضة، هي التي تمنعهم في الواقع من بسط سيطرتهم على مفاصل الدّولة كافة. فمطلب إلغاء الطّائفيّة السّياسيّة هو طائفيّ بامتياز. ويتابع الأب حبيقة  أنّ "الاتّهام الموجّه إلينا بأنّنا لا نقيم المسافة الضّروريّة بيننا، وبين واقعنا السّياسيّ الذي نعالجه... فتتعطّل الموضوعيّة وتنتصر الذّاتانيّة، يدفعنا إلى دعوة اللّبنانيّين إلى سماع آراء علميّة في نظامنا وتركيبة مجتمعنا، من أناس اختصاصيّين، يعيشون في بلدان يُشهد لها بالتّقاليد الدّيمقراطيّة العريقة، المبنيّة أساسًا على مبادئ المساواة والعدالة والمواطنة الصّرفة، شأن رأي الخبير الألمانيّ السّابق لدى الأمم المتّحدة، والمسؤول عن ملف لبنان، كلاوس د. هيلليبراند": "إن ّكلّ سعي لإحداث أيّ تغيير جوهريّ في النّظام اللّبنانيّ  إنّما هو محفوف حتميًّا بمخاطر جمّة، لاسيّما في الظّروف الرّاهنة، حيث نرى أنّ الدّول المجاورة والشّرق أوسطيّة، في مجملها، لا ترتدع عن رسم سياسات توسّعيّة جامحة، محَفَّزة في الكثير من الأحيان من حركات إسلاميّة أصوليّة متطرّفة"... ثم يضيف مقارنًا بين الطّائفيّة المقوننة في لبنان، من جهة، والطّائفية غير المكتوبة والمستترة، في ألمانيا، من جهة ثانية، ما مفاده: "إنّ المناصب الأساسيّة في الدّولة والحكومة في ألمانيا، تتوزّع على سياسيّين من طوائف ومناطق متعدّدة، حفاظًا على التّوازن العامّ والمشاركة الواسعة. وهذا الأمر يخفى عن الأجانب".

وانتقل الأب الرّئيس إلى النّظام السّويسري، وقارن بين الميثاق الوطنيّ اللّبنانيّ والصّيغة السّحريّة السّويسريّة، (la formule magique) فوجدهما يتقاطعان بشكل مذهل. "جميعنا يعرف جيّدًا كيف ولدت سويسرا، على مرّ العصور والسّنين، من رحم الأوجاع والصّراعات الدّينيّة واللّغويّة والمناطقيّة، ورست متشرنقة في كانتونات يصل عددها إلى ستة وعشرين. وراء تكوين هذه الكانتونات، كان الحرص الشّديد على الحفاظ على الّذاتيّات المختلفة، واللّغة، والدّين والذّاكرة التّاريخيّة الخاصة. فكان هذا الاتّحاد السّويسريّ أبهى تجسيد لتآلف الاختلاف. وفي التّفتيش العنيد والدّؤوب عن أنجع الأنظمة لإدارة تعقيدات هذا التّنوع، توصل السّويسريّون، في عام 1959، إلى استنباط ما استنسبوا أن يدعوه الصّيغة السّحريّة، التي تعكس في الواقع نظام التّوافق (Le système de concordance). تقوم هذه الصّيغة على توزيع المقاعد السّبعة التي يتألّف منها المجلس الفدراليّ (Le Conseil fédéral)، أيّ السّلطة التّنفيذيّة أو الحكومة، تبعًا للانتماء السّياسيّ والدّينيّ واللّغويّ. فالمجلس الفدراليّ السّويسريّ هو فعلًا حكومة الأضداد كحكومات لبنان. تأخذ هذه السّلطة التّنفيذيّة القرارات الهامّة بالتّوافق، وهي بالتّالي لا تمثل أمام المجلس النّيابيّ للمساءلة، لأنّ كلّ الكتل النّيابيّة الوازنة ممثّلة في المجلس الفدراليّ. في هذا الصّدد، يقول الرّئيس السّابق للمجلس الفدراليّ السّويسريّ، باسكال كوشبان (Pascal Couchepin)، "إنّ مبدأ التّوافق يشكّل مكمن الضّعف في الجهاز التّقريريّ السّويسريّ، لكنّه، ويا للأسف، لا بدّ منه ولا بديل عنه. فالبطء في الوصول إلى القرار الحاسم خير من التّهور وجرّ البلاد إلى ما لا تحمد عقباه. ويقول متأوّهًا: قد نبدأ بطرح الموضوع على بساط البحث اليوم، فلا ننتهي منه إلّا بعد سنوات، حيث يتمّ التّلاقي ويتّخذ أخيرًا القرار". هذا الأمر يحدث طبيعيًّا في سويسرا التي نتغنّى برقيّ نظامها الدّيمقراطيّ وإدارتها للتّنوّع، وعندما يحدث هذا الأمر بالذّات في لبنان، نصرخ بدون تردّد "إنّه جمهوريّة الفشل".

وفي خلاصة مقاربة النّظام اللّبنانيّ، استشهد الأب حبيقة بالقول المأثور لقداسة البابا يوحنّا بولس الثّاني، الذي رفع لبنان إلى مرتبة المرجعيّة على صعيد السّياسة الدّوليّة، في تأدية رسالته النّموذجيّة، عن طريق إرسائه أكبرَ ديمقراطيّةٍ توافقيّة في أصغر مساحة حرّة لبشريّة تسعى على الدّوام إلى المصالحة مع ذاتها في الاختلاف والغيريّة والتّعدّدية، وإلى العيش بسلام العاقلين في أكثر الحواضر أنسنةً وأكملها محبّةً وعدالة ومساواة من خلال الهشاشة المؤنسنة لتآلف الأضداد.