دينيّة
04 تشرين الأول 2012, 21:00

ثمار زيارة البابا والإرشاد الرسولي

(الاب كميل مبارك) تأتي زيارة الحبر الاعظم لبنان، حاملا معه الارشاد الرسولي لمسيحيي الشرق الاوسط، في زمن تجتاح الثورات العالم العربي، ومعظمها يطالب بالتغيير سعياً الى الديموقراطية، ما اطاح الانظمة حيث نشبت هذه الثورات وكانت نتيجة بعضها موت القادة او هربهم او سجنهم، وما زالت نتائجها غير معروفة في بلدان اخرى، وإن كانت اهداف الثائرين متشابهة. في هذه الفوضى التي وصفت بأنها \"خلاقة\"، كان المسيحيون يعيشون حالا من القلق والخوف، انتهت بتهجير العديد منهم وبهجرة مئات الآلاف خصوصا في العراق وسوريا. وارتفعت اصوات تطالب بترحيهلم، وكأن وجودهم يزعج الاصوليات، مما حدا البعض الى رفضهم وتكفيرهم وهدر دمهم. ومن ناحية اخرى يأتي قداسة البابا حاملا رسالة تختلف في جوهرها واهدافها عن الكثير مما يصيب ابناء الشرق الاوسط عموما والمسيحيين خصوصاً...

إن الارشاد الرسولي الذي سيهدى جميع ابناء الشرق الاوسط يعبر عن مدى اهتمام قداسته بالسلام بين ابناء هذه المنطقة مسيحيين كانوا أم غير مسيحيين. غير اننا يمكن ان نرى في زيارة قداسته عبراً كثيرة منها:

 
أ – الوجود المسيحي ضرورة للسلام في العالم قاطبة ولا سيما في المجتمعات التعددية. وما هذا إلا لاننا نؤمن أولاً بوحدة الطبع البشري الذي يوحّد بين جميع الناس بصرف النظر عن دينهم ولونهم وعرقهم وثقافتهم. وقد وهب الله هذا الطبع العقل والحكمة والنطق لكي يستطيع الناس، كل الناس، ان يتفاهموا وان يبتعدوا عن كل ما يؤذي هذا الطبع المبارك من الله، ويحط من كرامة الانسان. وثانيا لأننا نؤمن بالمحبة وبقدرتها على التغلب على كل شرور الكون لأن الله محبة. ولاننا اذا عشنا روح الانجيل وكانت فينا المحبة يعرف العالم كله اننا ابناء الله وان رسالتنا العمل من اجل ملكوته وليس من اجل ملكوت سلاطين هذا العالم.
 
ب – نرى فيها تقديساً لحق الاختلاف والتنوع الثقافي وقبول الآخر ضمن حدود كرامة الشخص البشري التي منها تنبع جميع حقوقه، وان السلطات المدنية مسؤولة عن حماية هذه الحقوق وصون هذه الكرامة، انطلاقا من سهرها على الخير العام الذي ينعكس ايجابا على خيرات الافراد الخاصة.
 
ج – سوف توقظ هذه الزيارة ضمير العالم الغارق في الحسابات المادية والمصالح والنفوذ، وتجعله يعي ان قيمة الانسان اولى بالاهتمام، وان جميع النظم والشرائع وما يرافقها من تقدم تقني لا قيمة لها اذا لم تخدم الانسان فردا وجماعات.
كما ستلفت الزيارة انتباه قادة العالم الى دور لبنان الرسالة، لأنه يشكل نموذجا مشعا لتلاقي الحضارات والمذاهب والاديان، ولعله النموذج الفريد في عالم غلبت عليه الاصوليات، فكرية عقائدية كانت أم دينية. ففي لبنان تتعايش الاديان والمذاهب بحرية مكرسة في الدستور ومصانة بالقوانين والاعراف.
 
د – تظهر الزيارة العلاقة الراسخة بين رأس الكنيسة والكنائس المحلية في لبنان والشرق الاوسط. وإن دلت هذه العلاقة على شيء غير وحدة الايمان، فتدل على قدرة العقل اللبناني، اذا شاء، على استيعاب الثقافات وجعلها تحتك ببعضها البعض لتخلق نموذجاً فكريا واسع الانفتاح، مع الحفاظ على خصوصية كل مجموعة واحترام معتقداتها وشعائرها. يعلن المجتمع اللبناني بأسره، من خلال التفافه حول قداسة الحبر الاعظم في لقاءاته الخاصة وفي القداس، انه مجتمع متفاعل وفاعل مع حضارة المحبة التي دعا الى العمل من اجلها احبار عظماء كبولس السادس ويوحنا بولس الثاني وبينيديكتوس السادس عشر، وان جميع اللبنانيين، الى اي دين او مذهب انتموا، انما يكبرون في قداسته محبته المميزة للشرق الاوسط مهبط الاديان ولابناء لبنان عموما، وذلك عبر دعوته المتكررة في الفاتيكان ومن المحافل الدولية الى العمل من اجل احقاق السلام بين شعوب المنطقة، والى ايجاد حلول عادلة لجميع قضاياها العالقة.
 
هـ – لا بد من ان تساعد هذه الزيارة، مع ما يرافقها من إعلام عالمي وعربي ولبناني، على محو صورة الارهاب عن وجه المجتمع اللبناني، وقد شوه على مدى سنوات صورة اللبنانيين في ذهن العالم، مما اثر في اقتصادنا وحضارتنا وسمعة مجتمعنا. ومن خلال لقاءات قداسته القادة الروحيين والسياسيين الذين ينتمون الى المذاهب كافة، والى التيارات السياسية المتخاصمة حينا والمتضامنة احيانا، سوف يرى العالم، قادة ومواطنين، ان لبنان بلد الحضارة التي تزيد على ستة آلاف سنة، ما زال قادراً على ان يظهر مخزون هذه الحضارة اذا ما اعطي الفرصة لذلك.
 
و – تظهر الزيارة مدى التزام الشباب اللبناني عامة والمسيحي خاصة بالقيم والمبادئ الاخلاقية التي يعلّمها قداسة البابا ويناشد شباب العالم كله التشبث بها والعمل على نشرها، ومنها كرامة الحياة وقيمة الجسد وقدسيته، وفعل المحبة في حينه وفي غير حينه، والالتزام بمشروع الله لكل واحد من الناس، والسعي الى تلاقي ارادة الانسان الحرة مع ارادة الله التي ترغب في سعادة كل واحد من الناس. هؤلاء الشباب الذين جمعهم حبهم لقداسته حوله في مقر البطريركية المارونية هم ربيع الكنيسة ومستقبلها الواعد.
 
وختاما نسأل قداسته ان يبارك وطننا وشرقنا واطفالنا وشبابنا وشيوخنا وكنائسنا وكهنتنا ورهباننا لكي يكونوا حقولا خصبة لفعل الروح.