ثلاثة مسارات على الإعلام سلكها، ما هي؟
وفي هذا السّياق قال البابا بحسب "فاتيكان نيوز": "أودّ أن أعرب عن تقديري لعملكم اليوميّ في عالم الاتّصالات. أنتم تهتمّون بالصّحافة والتّلفزيون والرّاديو والتّكنولوجيّات الحديثة، مع الالتزام بتثقيف القرّاء والمستخدمين حول وسائل الإعلام. إنّ تجذّركم الشّعَريّ يشهد على الرّغبة في بلوغ الأشخاص باهتمام وقرب وإنسانيّة. لا بل يمكنني أن أقول إنّكم تمثّلون بشكل جيّد "الجغرافيا البشريّة" الّتي تحيي الأراضي الإيطاليّة. فالتّواصل، في نهاية المطاف، هو هذا: المشاركة، ونسج خيوط الشّركة، وبناء الجسور بدون رفع الجدران. خلال السّنوات الأخيرة، أثارت ابتكارات مختلفة اهتمام قطاعكم، ولهذا السّبب من الضّروريّ تجديد الالتزام من أجل تعزيز كرامة الأشخاص، من أجل العدالة والحقيقة، من أجل الشّرعيّة والمسؤوليّة التّربويّة المشتركة. ولذلك أودّ أن أدعوكم لكي لا تغيب عن أنظاركم، في سياق طرق الاتّصالات السّريعة العظيمة اليوم، والّتي أصبحت أسرع وأكثر ازدحامًا، ثلاثة مسارات يجب اتّباعها على الدّوام.
الأوّل هو مسار التّنشئة. إنّها ليست مهمّة بسيطة، ولكنّها مسألة حيويّة. في الواقع، هناك مستقبل المجتمع على المحكّ. إنّ التّنشئة هي السّبيل لربط الأجيال، وتشجيع الحوار بين الشّباب والمسنّين، إنّها ذلك العهد بين الأجيال الّذي أصبح اليوم أكثر من أيّ وقت مضى أساسيًّا. ولكن كيف يمكننا أن نربّي لاسيّما الأجيال الشّابّة المنغمسة بشكل أكبر في سياق رقميّ؟ هناك مقطع من الإنجيل يمكنه أن يلهم بمقاربة جيّدة، عندما يطلب منّا يسوع أن نكون "حكماء كالحيّات وبسطاء كالحمام". إنّ الحكمة والبساطة هما عنصران تربويّان أساسيّان للتّعامل مع تعقيدات اليوم، ولاسيّما على شبكة الإنترنت، حيث من الضّروريّ ألّا نكون ساذجين، وفي الوقت عينه، ألّا نستسلم لتجربة زرع الغضب والكراهيّة. إنّ الحكمة، الّتي تُعاش ببساطة روح، هي تلك الفضيلة الّتي تساعدنا لكي ننظر لبعيد، وتقودنا لكي نتصرّف ببصيرة.
إنَّ الصّحف الأسبوعيّة الكاثوليكيّة تحمل هذه النّظرة الحكيمة إلى بيوت النّاس: فهي لا تكتفي بنقل أخبار اللّحظة الّتي تحترق بسهولة، بل تنقل رؤية إنسانيّة ومسيحيّة تهدف إلى تنشئة العقول والقلوب، لكي لا تسمح بأن تشوِّهها الكلمات الصّاخبة أو الوقائع الّتي تنتقل بفضول مَرَضيّ من الأسود إلى الورديّ، وتهمل وضوح اللّون الأبيض. لذلك أشجّعكم على تعزيز "إيكولوجية التّواصل" في المناطق، وفي المدارس وفي العائلات وفيما بينكم. أنتم لديكم الدّعوة لكي تذكّروا، بأسلوب بسيط ومفهوم، أنّه، بعيدًا عن الأخبار والسّبق الصّحفيّ، هناك على الدّوام مشاعر وقصص وأشخاص حقيقيّون يجب احترامهم كما لو كانوا أهلنا. ونحن نرى من الأخبار المحزنة للغاية في هذه الأيّام، ومن الأخبار الرّهيبة عن العنف ضدّ المرأة، كم هي مُلحَّة التّربية على الاحترام والرّعاية: تنشئة أشخاص قادرين على إقامة علاقات سليمة. التّواصل هو تنشئة الإنسان. التّواصل هو تنشئة المجتمع. لا تتخلّوا عن درب التّنشئة لأنّه هو الّذي سيقودكم بعيدًا!
أمّا الدّرب الثّاني فهو درب الحماية. "في الاتّصالات الرّقميّة، نحن نريد أن نظهر كلّ شيء، ويصبح كلّ فرد موضوعًا للنّظرات الّتي تنقّب وتُعرّي وتنشر، غالبًا بشكل مجهول. فينهار الاحترام تجاه الآخر، وبهذه الطّريقة، وفي نفس الوقت الّذي أنقله فيه، أتجاهله وأبقيه على مسافة، وبدون أيّ خجل، يمكنني أن أتطفّل على حياته إلى أقصى الحدود. ولهذا السّبب من الضّروريّ تعزيز الأدوات الّتي تحمي الجميع، ولاسيّما الفئات الأشدَّ ضعفًا والقاصرين والمسنّين والأشخاص ذوي الإعاقة، من تطفّل التّكنولوجيا الرّقميّة وإغراءات تواصل استفزازيّ وجدليّ. ولذلك يمكن لوقائعكم العاملة في هذا القطاع أن تساعد في تنمية مواطنة إعلاميّة محميّة، كما ويمكنها أن تعضد ضمانات حرّيّة المعلومات وتعزيز الضّمير المدنيّ، لكي يتمّ الاعتراف بالحقوق والواجبات في هذا المجال أيضًا. إنّها مسألة ديمقراطيّة تواصليّة. ومن فضلكم افعلوا ذلك دون خوف، كما فعل داود ضدّ جليات: بمقلاع صغير أسقط العملاق. لا تلعبوا دور الدّفاع فحسب، بل ابقوا "صغيرين في الدّاخل"، وفكّروا على نطاق واسع، لأنّكم مدعوّون للقيام بمهمّة عظيمة: أن تحموا، من خلال الكلمات والصّور، كرامة الأشخاص ولاسيّما الصّغار والفقراء، أحبّاء الله.
أمّا الدّرب الثّالث فهو درب الشّهادة. أودّ أن أدلّكم على مثال الطّوباويّ كارلو أكوتيس: لقد كان يعلم جيّدًا أنّ آليّات الاتّصال والإعلان والشّبكات الاجتماعيّة هذه يمكن استخدامها لكي تجعلنا نصبح أشخاصًا نائمين، يعتمدون على الاستهلاك والأشياء الجديدة الّتي يمكننا شراؤها، ومهووسين بوقت الفراغ، ومنغلقين في السّلبيّة. إلّا أنّه عرف كيف يستخدم تقنيّات الاتّصال الجديدة لنقل الإنجيل، ولنقل القيم والجمال. ذلك الشّابّ لم يقع في الفخّ، بل أصبح شاهدًا لوسائل التّواصل. الشّهادة هي نبوءة، وهي إبداع يحرّرنا ويدفعنا لكي نُشمِّر عن سواعدنا، ونخرج من مناطق الهدوء الخاصّة بنا لكي نخاطر. نعم، إنّ الأمانة للإنجيل تفترض القدرة على المخاطرة من أجل الخير، والسّير بعكس التّيّار: فنتحدّث عن الأخوَّة في عالم فرديّ؛ وعن السّلام في عالم في حالة حرب؛ وعن الاهتمام بالفقراء في عالم غير صبور وغير مبال. ولكن لا يمكننا أن نفعل ذلك بمصداقيّة إلّا إذا شهدنا أوّلاً على ما نتحدّث عنه.
أيّها الأصدقاء الأعزّاء، أشكركم على زيارتكم وأدعوكم إلى المضيِّ قدمًا. أوكل التزامكم إلى القدّيس فرنسيس دي سال والطّوباويّ كارلو أكوتيس، لكي يرشدا خطواتكم على دروب التّنشئة والحماية والشّهادة. أبارككم من كلّ قلبي مع أحبّائكم. ومن فضلكم لا تنسوا أن تصلّوا من أجلي."