بين أنطونيوس وشربل ومارون
الصّحراء النّيل والإسكندريّة
توغّل في الصّحراء وحياة الصّمت والتّأمّل والمناجاة للخالق مدّة عشرين سنة، ثمّ نزل إلى ضفاف النّيل وأنشأ الأديار العديدة. وأنا شخصيًّا التقيت براهب من دير مار أنطونيوس في البابويّة المرقسيّة في القاهرة وأخبرني أنّ هذا الدّير يضمّ اليوم أكثر من مئة راهب. وكان أنطونيوس إذا اشتدّ الاضطهاد على الكنيسة ينزل إلى الإسكندريّة يرافق المسيحيّين ويشرّدهم ثمّ كان يعود إلى صومعته عندما يزول الاضطهاد ولقد زار القدّيس جولا أوّل النّسّاك...
حتّى إنّ القدّيس أثناسيوس طلب مساعدته في زمن الهرطقات الإديوسيّة.
وإنّ الملك قسطنطين الكبير كتب إليه يطلب صلاته. ورقد بسلام في 17 ك2 سنة 356 وله من العمر مئة وخمس سنوات.
مارون العائش في الصّحراء
ومار مارون عاش في العزلة والعراء والحرّ والبرد على جبال قورش بالتّقشّف والزّهد والصّمت والصّلاة. إنّه زمن البدايات أو الأيّام الينبوعيّة التّأسيسيّة لتيّار سلوكيّ زهديّ سيطبع تلاميذه والكنيسة المارونيّة الّتي تحمل اسمه. هذه الكنيسة الّتي تأسّست على راهب وليس على مدينة أو بطريرك وعلى العقيدة الخلقيدونيّة القائلة إنّ في المسيح طبيعتين: طبيعة إلهيّة وطبيعة إنسانيّة وأسّست للاهوت التّجسّد وحملت مفاهيمه اللّاهوتيّة واللّيتورجيّة أو الطّقسيّة. فأعطت التّيولوجيا المارونيّة أنتروبولوجيا أو إنسانيّة متميّزة ببعدها الثّنائيّ التّعدّديّ. فإنّها لا تنوجد بجمالها ولا كقوس القزح بلقاء بين المطر والنّور لتنفجر أنوارًا تبهر العين وتسحر القلب.
لبنان وطن المعيّة
لذلك كان لبنان وطن المعيّة من لقاء الشّعوب والحضارات والأديان والنّاس والبحر والجبل والسّهل ووسع الفصول الأربعة في حلقة موت وحياة لا يحتوينا القبر وكفن الموت وتقتدر الغربة والبعاد فنعيد قصّة حفرون الملتصق بالأرض المتشبّث فيها وتعزون الهارب النّافر منها والمشتاق العودة إليها والجبلان في جبال اللّقلوق.
شارل قرم شارل مالك
وكم أبدع شارل قرم في كتابه الجبل الملهم في وصف هذا الغنى في التّراث والشّخصيّة والحضارة اللّبنانيّة والمارونيّة والمحاضرة الهامّة للدّكتور شارل مالك في مجلّة الفصول من الموارنة أو ما كتبه الأبوان ميشال حايك وواكيم مبارك عن الموارنة.
إجلاء الذّات من الذّات
العمليّة الحدث في هذه الاختبارات الثّلاثة بين أنطونيوس وشربل هي عمليّة إجلاء الذّات من الذّات.
فإذا كان أنطونيوس ذهب إلى الصّحراء وما مارون انفرد على جبال قورش وحوله الهضاب والسّهول فإنّ شربل صعد إلى قمّة جبال عنّايا المطلّة على وادي أدونيس الجميل وتظهر قبالها جبال لبنان العالية في اللّقلوق. يمكننا القول إنّ جبال لبنان صحراء شربل.
إنّ صحراء شربل كانت الجبال العالية الجميلة الخضراء المكلّلة بالثّلج والسّنديان هذه الطّبيعة السّاكنة مأهولة بالحضور الإلهيّ صحراء مار أنطونيوس يشعّ فيها وجه الله تلّة قورش ينيرها البهاء الإلهيّ جبال عنّايا يضجّ فيها صوت الله بوقع الثّلج وعجيج الأنهار.
الرّسول هو الرّسالة
الموقف الجذريّ عند الثّلاثة كان موقف التّخلّي الجذريّ، التّخلّي التّأسيسيّ، التّخلّي الينبوعيّ لتلبية نداء المنادي يتحول كلّ منهم من متلقٍّ للرّسالة إلى رسول وحياته رسالة كما يقال Le midium est le message وليس ما يقوله من كلمات أو ثرثرات لا تطابق أحيانًا مع حقيقة الحياة والعيش والسّلوك والتّصرّف أيّ أنّه جسد في حياته حقيقة التّخلّي.
من اللّاشيء إلى كلّ شيء
كما جسد المسيح في حقيقة حياته وتجسّده حقيقة التّخلّي عن الذّات La gueusse «المسيح يسوع مع أنّه في صورة الله، لم يعد مساواته لله غنيمة، بل أخلى ذاته، متّخذًا صورة عبد، لمّا صار في شبه النّاس وظهر في مظهر إنسان» (فل 2:5/7) إنّها هجرة دائمة ورحيل مستمرّ من اللّاشيء إلى كلّ شيء التّخلّي عمّا هو ليصير إلى ما هو الله بطريقة جذريّة لا تنظر إلى الوراء.
أنطونيوس ومارون وشربل من وحدتهم ملأوا الدّنيا من حبّة قمح منفردة ماتت وأتت بثمار كثيرة لا تمرّ ببلد من بلدان العالم شرقًا وغربًا إلّا وتجد ملجأ أو كنيسة أو معبدًا أو أعجوبة شفاء لشربل، ورهبان مار أنطونيوس انتشروا في كلّ أصقاع الدّنيا، والموارنة ملأوا الدّنيا ثقافة وحضارة وذاتاً فولوكلوريّة وطقوسًا جميلة وأدبًا وفكرًا وفنًّا واقتصادًا.
والثّلاثة طبعوا ثيابهم بالبساطة والزّهد والحشمة والأخلاق.
في النّهاية، من صعيد مصر مع أنطونيوس إلى جبال قورش مع مارون فجبال لبنان مع شربل، إنّه البعد الجغرافيّ الّذي يشعل فيه ومعه قلب الإنسان بالعشق الإلهيّ، والحبّ للمطلق الوحيد الأزليّ لتعود السّماء تمطر على الإنسان والجماعة نِعَم الشّفاء. ويتجلّى معنى هذا الخيار الجذريّ في انعكاس إعطاء القدوة والمثال وفيض الخير والنّعم على الضّارعين إلى السّماء.