بيتسابالا في عيد البشارة من النّاصرة: لنتعلّم من من مريم العذراء كيف نعيش وسط هذه الأوضاع
وللمناسبة، ألقى بيتسابالا عظة قال فيها بحسب إعلام البطريركيّة: "نبلُغ هذا العام أيضًا أقدام العذراء، أمّ الله، أمّنا وأمّ الكنيسة.وكما نفعل مع كلّ أمّ، نحمل إليها تطلّعاتنا ومخاوفنا وحاجتنا إلى العزاء. نحن نعلم أنّ الله هو مصدر العزاء، وأنّه وحده من يجب أن نوجّه إليه أنظارنا، وفقط فيه يمكننا أن نرسّخ ثقتنا، لاسيّما في هذه الأوقات العصيبة الّتي نمرّ بها، نحن والعالم بأسره.
بدلًا من السّير نحو أفق اللّقاء، والبحث عن طرق وحلول للتّعايش السّلميّ، نرى من حولنا حواجز الخوف، وانعدام الثّقة، والكراهيّة، والحقد. وهنا، في أرضنا المقدّسة، ما زلنا نبكي موتانا، والجراح الكثيرة تمزّق قلوبنا، وأسرنا، ومجتمعنا. لقد سئمنا من تكرار هذا الواقع الأليم، لكن من المستحيل ألّا نفكّر فيما يجري من حولنا.
لقد أتينا إلى هنا، إذن، لكي نسمح لمريم العذراء بأن تقودنا مرّة أخرى. لكي نتعلّم منها، مجدّدًا، كيف نعيش وسط هذه الأوضاع.
تذكّرنا مريم اليوم أنّ الله غيّر هنا، في هذا المكان، تاريخ العالم. فمن خلال قولها "هاءنذا"، سكن الله تاريخنا وزماننا وواقعنا البشري. بهذا "هاءنذا"، تحقّقت النّبوءات، وانفتحت السّماء، وتجدّد الرّجاء لكلّ إنسان. ونحن نؤمن أنّ الله لا يزال يقود الزّمن والتّاريخ حتّى يومنا هذا. وهو يفعل ذلك بنفس الأسلوب الّذي اتّبعه في النّاصرة، أسلوب الوداعة. وكما دخل التّاريخ من خلالنعم" العذراء، فإنّه اليوم أيضًا يدخل التّاريخ من خلال "نعم" الكنيسة، من خلال"نعم"كلّ واحد منّا، من خلال قبولنا لكلمته الحيّة. إنّ الله يدخل التّاريخ بتواضع، باحثًا عن القلوب الوديعة، الحرّة، المتواضعة والمنفتحة. إنّ الله يريد "هاءنذا"خاصّتنا، يريد أشخاصًا ودعاء يعرفون كيف يقولون ويكونون في العالم كلمة مختلفة، كلمة حياة ورجاء.
لا ينبغي أن نربط الرّجاء بمجرّد انتظار أزمنة أفضل. نعم، نتوق إلى مستقبل يسوده العدل والطّمأنينة، لكنّنا ندرك أيضًا أنّ حاضرنا مثقل بالألم والوحدة، زمنٌ تهيمن عليه الانقسامات والعنف. ونعي، بكلّ أسف، أنّ الأوقات الأفضل لن تحلّ قريبًا.
لكن "الرّجاء لا يخيّب" (رو 5:5). فهو لا يعتمد على أفعال البشر، ولا يرتبط بقرارات الأقوياء، ولا هو ثمرة عمل إنسانيّ. "ملعونٌ من يتّكل على الإنسان، ويجعل من الجسد سندًا له، فيبتعد قلبه عن الرّبّ" (إر 17 :5).إنّ رجاءنا ينبع من اللّقاء مع الرّبّ يسوع، مولود العذراء مريم الّتي قبلت بحرّيّة مشيئة الله. ففي لقائنا معه يتشكل رجاؤنا. نحن بحاجة إلى لقائه مجدّدًا، إلى الانطلاق من المسيح من جديد. فقط من خلال اتّباعه المستمرّ، يمكننا أن نحيا هذا الزّمن دون أن نسمح لمشاعر الكراهيّة والحقد والخوف بأن تسلب قلوبنا. نحن هنا اليوم لنطلب من العذراء أن تقودنا إليه مجدّدًا، وأن تفتح قلوبنا لكلمته الحيّة.
لكنّنا بحاجة أيضًا إلى أن نلتقي به في الأشخاص الّذين، من خلال حياتهم والتزامهم وشهادتهم، يفتحون قلوبنا على الثّقة. نحن بحاجة إلى رجال ونساء يملؤهم الرّوح، قادرين على تقديم ذواتهم، على الالتزام من أجل القريب، من أجل العدالة، ومن أجل بناء علاقات قائمة على الكرامة والاحترام. هؤلاء الأشخاص موجودون، وهم كُثُر، وهم بيننا. ما دام هناك أشخاص يعرفون كيف يبذلون أنفسهم بمحبّة وسط هذا الظّلام الدّامس، وسط هذا البحر من الألم والعنف، فسيبقى الرّجاء حيًّا. فالشّيطان لا سلطان له على من يبذل نفسه بمحبّة. فلنرفع أنظارنا إذن متخطّين آلامنا، ولنسمح لمريم العذراء بأن تقودنا، ولنستقبل بثقة كلمة الرّجاء الّتي زرعها الله فينا.
في هذا الزّمن الّذي تُبنى فيه روايات العنف والقوّة، حيث يبدو أنّ التّاريخ الّذي يكتبه العظماء هو تاريخ الحرب والقهر، نحن نريد أن نكون أولئك الّذين يكتبون قصّة مختلفة، من خلال أسلوب حياتهم، ومن خلال لقاءاتهم، ومن خلال الكلمة والشّهادة. نريد أن نقول "نعم"لله، وأن نكون بُناة مدينة مختلفة، مليئة بالنّور والحياة، بروح الوداعة، ولكن أيضًا بقوّة الكلمة والشّهادة.
"لا تخافي يا مريم، لأنّك قد نلتِ نعمةً عند الله". لا تخافي. لا تخافوا. لا ينبغي لنا أن نخاف، لأنّ الخوف هو لغة الشّيطان، الّتي تحكم قبضتها على قلب الإنسان. أمّا نحن، إذ نتبع مريم العذراء، فنريد أن نتبع كلمة الله، الكلمة الّتي تصنع المستقبل، الّتي تفتح أبواب اللّقاء، والّتي تعطي الحياة.
نريد أن نعود من النّاصرة، وقد تعزّزت عزيمتنا بنظرة مريم الأموميّة، الّتي تدعونا لرفع أنظارنا، لئلّا نستسلم للمخاوف الّتي تشلّنا، ولرؤية عمل الله الّذي لا يزال يتحقّق من خلال العديد من الرّجال والنّساء الّذين يجعلون رجاءنا ملموسًا. بل نريد أن نكون نحن من بين هؤلاء.
لتتشفّع مريم بنت النّاصرة فينا جميعًا، في عائلاتنا، وفي شعبنا في الأرض المقدّسة. لتُعزِّ المتألّمين والحزانى، ولتمنح القوّة لمن يعملون من أجل العدل والسّلام. آمين."
ثمّ طاف موكب الكاردينال حول الفتحة العلويّة لبيت العذراء، وقد تليت على مسامع المؤمنين أناجيل التّجسّد بلغات مختلفة، ومن ثمّ تليت صلاة التّبشير الملائكيّ مع قرع أجراس الكنيسة في تمام السّاعة 12:00 ظهرًا وقد منح البطريرك بيتسابالا البركة مع الغفران الكامل لكلّ الّذين استوفوا الشّروط.