لبنان
19 أيار 2019, 13:15

بو جوده: القيادة في الكنيسة والرّئاسة هي قضيّة محبّة وخدمة وتواضع اقتداءً بالمسيح

ترأّس رئيس أساقفة أبرشيّة طرابلس المارونيّة المطران جورج بو جوده قدّاسًا وجنّازًا لراحة نفس المثلّث الرّحمة المطران رولان أبو جودة، عاونه فيه نائبه العامّ الخوراسقف أنطوان مخائيل، خادم رعيّة مار مارون المونسنيور نبيه معوّض، أمين سرّ المطرانيّة الخوري جوزاف فرح، مسوؤل الشّؤون القانونيّة في الأبرشيّة الأب راشد شويري. وشارك أيضًا في القدّاس المونسنيور الياس جرجس والأب جوزاف غبش، وعدد من كهنة الأبرشيّة، وبحضور عائلة المطران الرّاحل وحشد من المؤمنين. وألقى بو جوده بعد الإنجيل المقدّس عظة جاء فيها:

 

"بطرس اتحبّني، ثلاثّ مرّات طرح المسيح السّؤال على بطرس قبل أن يسلّمه مقاليد الكنيسة، ثلاثّ مرّات أجاب بطرس، وقال نعم أنا أحبّك، وأضاف في المرّة الثّالثة: أنت تعرف يا ربّ كلّ شيء أنت تعرف أنّي أحبّك. لم يرد يسوع من خلال ذلك أن يعاتب بطرس ويلومه على نكرانه ثلاثّ مرّات بأنّه يعرفه، وهو في قصّر بيلاطسّ عند محاكمة يسوع، فالأمر قد يكون طبيعيًّا في ظرف كهذا، لكنّه أراد أن يفهمه أنّ القضيّة ليست قضيّة مرحليّة وادّعاء الشّجاعة والقوّة، بل القضيّة هي قضيّة حبّ وتضحية حتّى بذل الذّات، إذ أنهى كلامه معه قائلًا: لما كنت شابًّا كنت تشدّ الزّنّار بنفسك وتسير إلى حيث تشاء، فإذا صرت شيخًا بسطت يديك ويشدّ غيرك لك الزّنّار، ويمضي بك إلى حيث لا تشاء، مشيرًا بذلك إلى الميتة الّتي سيمجد بها الله. 
أراد المسيح أن يفهم بطرس أنّ القيادة ليست قضيّة سلطة ومركز اجتماعيّ، وفرض الرّأي على الآخر، بل هي على عكس ذلك، قضيّة محبّة وتضحية، على ما سبق وقال: ليس من حبّ أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبّائه. القيادة، في الكنيسة والرّئاسة، هي قضيّة محبّة وخدمة وتواضع، اقتداء بالمسيح الّذي لم يعد مساواته لله غنيمة، فمع أنّه صورة الله، تجرّد من ذاته متّخذًا صورة العبد، وصار على مثال البشر، فوضع نفسه وأطاع حتّى الموت، موت الصّليب، ولذلك رفعه الله إلى العلى، ووهب له الإسم الّذي يفوق جميع الأسماء، وهو لم يعد مساواته لله غنيمة، بل حوّل من نفسه خادمًا للجميع، فلم يرد أن يخدم، بل حوّل نفسه خادمًا، إلى درجة أنّه تصرّف كما العبيد عندما غسل أرجل تلاميذه ودعاهم للاقتداء به".
وأضاف بو جوده: "المطران رولان شفيق أبو جوده، فهم ذلك وتقيّد به، وعاشه منذ طفولته، فهو بعدما فقد والده وهو ما زال طفلًا، مع أخيه رياض، تربّى على يد والدته وخاله المحاميّ اللّامع، الّذي كان يحتلّ مركزًا مرموقًا في المجتمع والعائلة، فأبدع في دراسته، من خلال تخصّصه بالحقوق، وتدرّبه على الخدمة في الحركة الكشفيّة، وبعدما مارس المحاماة لفترة من الزّمن، سمع صوت الرّبّ يقول له اتبعني وتبعه مكرّسًا حياته للخدمة في سرّ الكهنوت، فأمضى حياته الكهنوتيّة والأسقفيّة كلّها في الخدمة، ولم يسع للحصول على المراكز المرموقة، كما حصل مع إبني زبده اللّذين توسّطا والدتهما لتقول ليسوع، أريد أن تجعل من ولدي هذين مكانا عن يمينك ويسارك.

عاش الطّاعة والخدمة طوال حياته، بروح تواضع مميّزة، ترك دروسه واختصاصاته في أميركا، عندما استدعاه راعي الأبرشيّة المطران الياس فرح، ليؤسّس ويدير مدرسة مار يوسف في قرنة شهوان، فيجعل منها مثالًا للكثير من المدارس، بمستواها العلميّ والثّقافيّ. وبعدما انتخب مطرانًا نائبًا بطريركيًّا، بقي طوال حياته في خدمة الكنيسة معاونًا ونائبًا عامًّا لمثلّث الرّحمة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، وقد سبقه إلى الملكوت السّماويّ ببضعة أيّام. وكان على مثال يوحنّا المعمدان يقول: عليّ أن اصغر، ليكبر هو في خدمته، وينجح في خدمة الكنيسة في ظروف قاسية جدًّا، كالّتي عاشاها معًا أثناء الحرب، وكان بالقرّب منه بخاصّة في تلك اللّحظات الرّهيبة الّتي عاشها عندما تعرّض للإهانة الجسديّة من قبل عدد من أبنائه. 
بالرّغم من كلّ ما عاناه ولاقاه من صعوبات وتحدّيات فإنّه سعى مع غبطته إلى تطّوير الكنيسة وتنميتها، إنسانيًّا واجتماعيًّا من خلال المؤسّسات الّتي أسهم في تأّسيسها: محطّة تيلي لوميور الّتي كان يترأّس مجلس إدارتها طوال سنين عديدة، المركز الكاثوليكيّ للإعلام، الصّندوق الاجتماعيّ المارونيّ، المركز المارونيّ للإنماء الشّامل، وغيرها من المؤسّسات الّتي لا مجال لتعدادها اليوم. أمّا الّذي ميّزه في كلّ هذه الظّروف هي الأعمال والخدمات الّتي قام بها، فكان حبّه للإنسان، الخليقة الوحيدة، الّتي أرادها الله لذاتها، والّذي كان الكثيرون يعانون فيه من الفقر المدقع بسبب الظّروف الأمنيّة والاجتماعيّة، فقد بقي مكتبه مفتوحًا كما قلبه لجميع قاصديه، يوزّع المساعدات دون حساب متدخّلًا مع كلّ مرجع أو سلطة من أجل مساعدة أي طالب مساعدة، كي يستطيعوا أن يؤمّنوا لهم ولعائلاتهم الحياة اللّائقة والكريمة. تحمّل آخر سنوات حياته المرض الّذي أصابه، لكنّه لم يستسلم له، بل بقي يمارس الرّياضة الجسديّة الّتي تربّى عليها، في الحركة الكشفيّة يحمل عصاه كلّ يوم، ويمشي وهو يصلّي المسبحة، ثمّ يعود إلى عمله الإداريّ والفكريّ والرّوحيّ". 
وأنهى بو جوده عظته قائلًا: "إنّنا في احتفالنا اليوم، بالصّلاة لراحة نفسه، أردنا أن نعبّر له عن مشاعر المحبّة والتّقدير والشّكر، لكلّ ما قام به من خدمات لأبرشيّتنا الّتي كان مدبّرًا بطريركيًّا عليها مرّتين، الأولى على إثر عودة المطران جبرائيل طوبيّا إلى بيت الله، والثّانية على إثر وفاة المطران يوحنّا فؤاد الحاجّ، وقد أعطى لكهنة الأبرشيّة ولجميع أبنائها كلّ ما أمكنه من خدمات معاملًا إيّاهم معاملة الأب الحنون المتميّز بروحه الطّيّبة والمرحة الّتي كان يعرف بها. فإلى روحه الطّاهرة نرفع الصّلاة اليوم طالبين من الرّبّ المكافاة الّتي يستحقّها في الملكوت السّماويّ، ونتقدّم بالتّعزية القلبيّة لبنات أخيه وعيالهم وأبناء خاله وجميع ذويه".