أوروبا
14 أيلول 2021, 07:50

بعد استقباله الرّسميّ، ما كانت أبرز محطّات البابا فرنسيس في براتيسلافا؟

تيلي لوميار/ نورسات
في محطّته الثّانية ليوم الإثنين في سلوفاكيا، التقى البابا فرنسيس صباحًا الأساقفة والكهنة والرّهبان والرّاهبات والإكليريكيّين وأساتذة التّعليم المسيحيّ في كاتدرائيّة القدّيس مارتينُس في براتيسلافا. وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

"أنا هنا لأشارككم مسيرتكم وأسئلتكم، إنتظاراتكم وآمالكم في هذه الكنيسة وهذا البلد. لقد كان هذا أسلوب الجماعة المسيحيّة الأولى: كانوا مثابرين ومتّفقين ويسيرون معًا.

هذا أوّل ما نحتاج إليه: كنيسة تسير معًا، تسلك دروب الحياة حاملة شعلة الإنجيل متّقدة. الكنيسة ليست قلعة، أو حصنًا على الجبل ينظر إلى العالم من بعيد وباكتفاء. الكنيسة هي الجماعة الّتي ترغب في أن يجتذبها المسيح بفرح الإنجيل، إنّها الخميرة الّتي تخمِّر ملكوت الحبّ والسّلام في عجينة العالم. من فضلكم لا نستسلمنَّ لتجربة العظمة الدّنيويّة! على الكنيسة أن تكون متواضعة مثل يسوع، الّذي أخلى ذاته وصار فقيرًا لكي يغنينا: هكذا جاء ليقيم بيننا ويشفي بشريّتنا الجريحة.

لنخرج من قلقنا المفرط على أنفسنا وهيكليّاتنا ولننغمس في حياة النّاس الحقيقيّة ولنسأل أنفسنا: ما هي الاحتياجات والانتظارات الرّوحيّة لشعبنا؟ ماذا ينتظر النّاس من الكنيسة؟ يبدو لي أنّه من المهمّ أن أحاول أن أجيب على هذه الأسئلة، وتأتي إلى ذهني ثلاث كلمات. الأولى هي الحرّيّة. بدون حرّيّة لا توجد بشريّة حقيقيّة، لأنّ الكائن البشريّ خُلق حرًّا ليكون حرًّا. إنّ الفترات المأساويّة في تاريخ بلدكم هي درس كبير: عندما جُرحت الحرّيّة وانتُهِكت وقُتِلت، انحطّت البشريّة وعصفت بها عواصف العنف والإكراه والحرمان من الحقوق. كذلك في الوقت عينه ليست الحرّيّة "فتحًا أو غزوًا" آليًّا، يبقى كذلك إلى الأبد. الحرّيّة هي على الدّوام مسيرة، متعبة أحيانًا، وينبغي تجديدها باستمرار. إنَّ الحرّيّة تطلب من الشّخص أن يكون مسؤولًا عن خياراته، وأن يميِّز، ويسير قدمًا بمشاريع الحياة. وهذا أمر متعب ويخيفنا.

أيّها الأعزّاء، لا تخافوا من تنشئة الأشخاص على علاقة ناضجة وحرّة مع الله. قد يعطينا هذا الأمر انطباعًا بعدم قدرتنا على التّحكّم بكلّ شيء، أو بأنّنا فقدنا القوّة والسّلطة. لكن كنيسة المسيح لا تريد أن تسيطر على الضّمائر ولا أن تحتّل الأماكن، وإنّما تريد أن تكون "ينبوع" رجاء في حياة الأشخاص. أقول هذا خصوصًا للرّعاة: أنتم تمارسون خدمتكم في بلد تغيّرت فيه أشياء كثيرة بسرعة، وتمّ إطلاق العديد من العمليّات الدّيمقراطيّة، لكن الحرّيّة لا تزال هشّة. هي كذلك بشكل خاصّ في قلوب وأذهان الأشخاص. لهذا أشجّعكم على أن تجعلوهم ينموا أحرارًا من تديِّن مُتشدِّد، وأن يتمكّن كلّ فرد أن يكتشف حرّيّة الإنجيل، فيدخل تدريجيًّا في العلاقة مع الله، بثقة العارف بأنّه أمام الله يمكنه أن يحمل تاريخه وجراحه دون خوف ودون ادّعاءات، ودون قلق الدّفاع عن صورته. ليكن إعلان الإنجيل مُحرِّرًا، ولتكن الكنيسة علامة للحرّيّة والقبول!

الكلمة الثّانية، هي الإبداع. أنتم أبناء تقليد عريق. إنَّ خبرتكم الدّينيّة تجد أصولها في وعظ وخدمة صورتين منيرتين هما القدّيسان كيرلّس وميتوديوس. هما يعلّماننا أنّ البشارة ليست مجرّد تكرار للماضي. فرح الإنجيل هو المسيح على الدّوام، لكن السّبل لكي تشقَّ هذه البشرى السّارّة طريقها عبر الزّمن والتّاريخ هي متعدّدة. عبر كيرلس وميتوديوس معًا هذا الجزء من القارّة الأوروبيّة، وإذ كانا يتّقدان بشغف إعلان الإنجيل، توصّلا إلى ابتكار أبجديّة جديدة لترجمة الكتاب المقدّس والنّصوص اللّيتورجيّة والعقيدة المسيحيّة. وهكذا أصبحا رسولَيْ انثقاف الإيمان بينكم. إخترعا لغات جديدة لنقل الإنجيل، وكانا مبدعَين في ترجمة الرّسالة المسيحيّة. ألا تحتاج سلوفاكيا إلى هذا اليوم أيضًا؟ أليست هذه المهمّة الأكثر إلحاحًا للكنيسة بين شعوب أوروبا: إيجاد "أبجديّات" جديدة لإعلان الإيمان؟ إزاء ضياع معنى الله وفرح الإيمان، لا يفيدنا أن نشتكي أو أن ننغلق في موقف دفاع كاثوليكيّ ونحكم على العالم ونتّهمه، وإنّما نحن بحاجة إلى إبداع الإنجيل. لنتذكّر ما فعله هؤلاء الرّجال الّذين أرادوا أن يحملوا رجلًا كسيحًا أمام يسوع، ولم يتمكّنوا من المرور من الباب الأماميّ. ففتحوا فتحة في السّطح ودلوُّه من فوق. لقد كانوا مبدعين! ما أجمل أن نجد طرقًا ووسائل ولغات جديدة لإعلان الإنجيل! إنَّ كيرلس وميتوديوس قد فعلا ذلك، ويقولان لنا: لا يمكن للإنجيل أن ينمو ما لم يكن متجذّرًا في ثقافة شعب ما، أي في رموزه، وفي أسئلته، وفي كلماته، وفي طريقة كيانه.

وأخيرًا الحوار. إنَّ الكنيسة الّتي تربّي على الحرّيّة الدّاخليّة والمسؤولة، وتعرف أن تكون مبدعة من خلال الانغماس في التّاريخ والثّقافة، هي أيضًا كنيسة تعرف أن تتحاور مع العالم، مع الّذين يعترفون بالمسيح بدون أن يكونوا منّا، ومع الّذين يتعبون في البحث الدّينيّ، وكذلك مع الّذين لا يؤمنون. إنّها كنيسة، على مثال كيرلّس وميتوديوس، توحّد وتجمع بين الشّرق والغرب، بين التّقاليد والحساسيّات المختلفة. جماعة تعلن إنجيل المحبّة فتنبت الشّركة والصّداقة والحوار بين المؤمنين، وبين مختلف الطّوائف المسيحيّة وبين الشّعوب. إنَّ الوَحدة والشّركة والحوار هي على الدّوام أمور هشّة، لاسيّما عندما يكون هناك في الماضي قصّة ألم قد تركت ندوبًا. يمكن لذكرى الجراح أن تجعلنا ننزلق في الاستياء وعدم الثّقة وحتّى الازدراء، وأن تحملنا على بناء الأسوار أمام الّذين يختلفون عنّا. ومع ذلك، يمكن للجراح أن تكون ثغرات، وفتحات، على مثال جراح الرّبّ يسوع، تسمح بمرور رحمة الله، ونعمته الّتي تغيّر الحياة وتحوّلنا إلى صانعي سلام ومصالحة.

أعزّائي، أشكر الله على تواجدي بينكم، وأشكركم من كلّ قلبي على ما تقومون به وما أنتم عليه! أتمنّى لكم أن تكملوا مسيرتكم في حرّيّة الإنجيل، وفي إبداع الإيمان، وفي الحوار المتدفّق من رحمة الله الّذي جعلنا إخوة وأخوات، ويدعونا لنكون صانعي سلام ووئام. أبارككم من كلّ قلبي. ومن فضلكم، صلّوا من أجلي."

وبعد ظهر الإثنين، توقّف البابا فرنسيس في مركز "بيت لحم" الّذي يستضيف ويساعد الأشخاص المعوزين في العاصمة براتيسلافا، والّذي تشرف عليه مرسلات المحبّة للأمّ تريزا. خلال الزّيارة، أكّد الأب الأقدس أنّ الله يرافقنا في مسيرة الحياة، هو "لا يتركنا أبدًا وهو قريب منّا دائمًا".

كما التقى الأب الأقدس في ساحة ريبني الجماعة اليهوديّة الّتي "كانت لقرون جزءًا من الحيّ اليهوديّ وكان هناك كنيس بجوار كاتدرائيّة ما عبَّر عن العيش معًا في سلام بين الجماعتين. إلّا أنّه تمّ هنا لاحقًا إهانة اسم الله في جنون كراهيّة خلال الحرب العالميّة الثّانية" حسب ما ذكر البابا فرنسيس مذكّرًا بمقتل أكثر من 100 ألف يهوديّ سلوفاكيّ، ثمّ بتدمير الكنيس لمحو آثار الجماعة في وقت لاحق. وذكَّر الأب الأقدس يعد ذلك بوصيّة "لا تَلفُظِ اسمَ الرَّبِّ إِلهِكَ باطِلاً"، وقال إنّ "الاسم الإلهيّ، أيّ ذات الله، يُلفظ باطلاً عندما تُنتهك كرامة الإنسان الفريدة والّتي لا مثيل لها، والّذي خُلق على صورة الله. هنا أهين اسم الله، لأنّ أسوأ تجديف يمكن أن يوجَّه إليه هو أن يتمّ استخدام اسمه لأغراض خاصّة، بدلاً من احترام الآخرين ومحبّتهم. كم مرّة استُخدم اسم الله العليّ الّذي يفوق الوصف لأعمال لا إنسانيّة لا توصف! كم من الظّالمين الّذين أعلنوا: "الله معنا" وهم لم يكونوا مع الله.

وواصل الأب الأقدس قائلاً لممثّلي الجماعة اليهوديّة: "تاريخكم هو تاريخنا وآلامكم هي آلامنا". ثمّ توقّف عند النُّصب التّذكاريّ للمحرقة والّذي كُتب عليه بالعبريّة "تَذكَّر"، وقال في هذا السّياق: " الذّاكرة لا يمكنها ويجب ألّا تفسح المجال للنّسيان، لأنّه لن يكون هناك فجر دائم للأخوّة من  دون المشاركة أوّلاً في تبديد ظلام اللّيل. سؤال النّبيّ يتردّد أيضًا علينا: "يا حارِس، ما الوَقتُ مِنَ اللَّيل؟" (أشعياء 21، 11). هذا هو الوقت لنا الّذي لم يعد من الممكن فيه إخفاء صورة الله الّتي تتألّق في الإنسان. لنساعد بعضنا بعضًا في هذا لأنّه حتّى اليوم لا تنقص الأصنام الباطلة والزّائفة الّتي تهين اسم الله العليّ. هي أصنام السّلطة والمال الّتي تغلب على كرامة الإنسان، واللّامبالاة الّتي تحوّل النّظر إلى الاتّجاه الآخر، والمؤامرات الّتي تستغلّ الدّين وتجعله مسألة سيطرة أو تجعله أمرًا لا أهمّيّة له. ومرّة أخرى، نسيان الماضي، والجهل يبرّران كلّ شيء، والغضب والكراهيّة. إنّي أكرّر: نحن متّحدون في إدانة كلّ أشكال العنف وكلّ أشكال اللّاساميّة، وفي التزامنا لضمان عدم تدنيس صورة الله في الإنسان.

إلّا أنّ هذه السّاحة هي أيضًا مكان "يضيء فيه نور الأمل حيث يأتي المؤمنون كلّ عام لإضاءة شمعة، وهكذا في الظّلام تظهر الرّسالة أنّ الكلمة الأخيرة ليست للدّمار والموت، بل للتّجديد والحياة. هُدِم الكنيس الّذي كان في هذا الموقع، وأمّا الجماعة فما زالت موجودة. إنّها حيّة ومنفتحة على الحوار. هنا تلتقي رواياتنا من جديد. هنا معًا نؤكّد أمام الله إرادتنا لمواصلة مسيرة التّقارب والصّداقة".

أراد الأب الأقدس بعد ذلك تأكيد تذكّره اللّقاء الّذي عُقد في روما سنة 2017 مع ممثّلي الجماعتين اليهوديّة والمسيحيّة، وأضاف أنّه يسعده أن تمّ لاحقًا إنشاء لجنة للحوار مع الكنيسة الكاثوليكيّة وأيضًا نشر وثائق هامّة معًا. وأضاف: "حسنٌ أن نشارك وأن نوصل ما يوحّدنا. وحسن أن نستمرّ، بصدق وإخلاص، في المسار الأخويّ لتنقية الذّاكرة من أجل مداواة جروح الماضي، وكذلك أن نستمرّ في ذكرى الخير الّذي نلناه أو قدّمناه. بحسب التّلمود مَن أهلك إنسانًا واحدًا أهلك العالم كلّه، ومن خلص إنسانًا واحدًا خلص العالم كلّه. كلّ واحد مهمّ، ومهمّ جدًّا ما تفعلونه من خلال مشاركتكم الثّمينة. أشكركم لأنّكم فتحتم الأبواب في الاتّجاهين".

وفي الختام، أكّد البابا فرنسيس حاجة العالم إلى أبواب مفتوحة واصفًا إيّاها بعلامات بركة للبشريّة. وأعرب عن الرّجاء في أن تستمرّ عائلة بني إسرائيل في سلوفاكيا في تلبية دعوة الله أن تكون علامة بركة لجميع عشائر الأرض. وأنهى: "بركة الله العليّ تنزل علينا عندما يرى الله عائلة من إخوة يحترمون ويحبّون بعضهم بعضًا ويتعاونون. بارككم الله حتّى تكونوا دائمًا شهودًا للسّلام معًا في وسط الخلافات الكثيرة الّتي تلوّث عالمنا."