بازوليني في تأمّل الصّوم الأوّل: إنّ مسيرتنا مأهولة بحضور أكيد: حضور الله
وتابع بازوليني تأمّله وقال بحسب "فاتيكان نيوز": "إنّها صورة مليئة بالرّجاء تلك الّتي قدّمها الأب الأقدس للكنيسة، مذكّرًا إيّانا أنّه من خلال المعموديّة نثبت في المسيح الّذي أدخل إنسانيّتنا في ملاذ السّماء أمام الآب، حيث هو حيّ على الدّوام لكي يشفع لنا. وعلى الرّغم من أنّ هذه الرّؤية تبعث فينا الطّمأنينة، إلّا أنّنا ندرك أنّه لكي نبقى متّحدين به، ليس بالكلام فقط بل بالأفعال والحقّ، يجب علينا أن نفتح قلوبنا لارتداد الإنجيل ونسمح للرّوح القدس أن يعيد تعريف حدود وطبيعة إنسانيّتنا. هذا الثّبات في المسيح، الّذي يتمُّ فيه الاستسلام الطّوعيّ لحركات الرّوح، هو عمليّة نتائجها ليست مضمونة سلفًا. في العهد الجديد، نجد العديد من الإشارات الّتي تحثّ على عدم فقدان القدرة على الثّبات في الرّجاء الوحيد الّذي يقدّمه الإنجيل.
إنّها تجربة مستمرّة داخل الكنيسة أن نبحث عن كلمات أسهل وفوريّة نسبة للإنجيل، فنبتعد عن الأساس الوحيد الّذي هو المسيح. ومع ذلك، فإنّ حياته هي أعظم تجسيد لما يمكن أن تصبح عليه إنسانيّتنا عندما نسمح بأن يقودها منطق الله. وهذا الأمر يتطلّب ارتدادًا مستمرًّا في طريقة تفكيرنا، سواء بشأن ما نحن عليه، أو ما تدعونا النّعمة لنصبح عليه. لهذا السّبب، في تأمّلاتنا هذه خلال الصّوم، سنحاول أن نكون تلاميذ للمسيح، يرغبون في أن يتعلّموا من أسلوبه في الحياة المواقف الأساسيّة لكي يسيروا قدمًا معًا نحو حياة جديدة وأبديّة. إنَّ اللّحظة الأولى من حياة المسيح الّتي نودّ التّأمّل فيها هي معموديّته، وهي الحدث الّذي يحدّد بداية رسالته ويظهر عمق معناها.
تبقى سنوات حياة يسوع الخفيّة في النّاصرة، الّتي سبقت وأعدَّت ليوم معموديّته، إحدى أكثر جوانب حياته الرّائعة والغامضة. وعلى الرّغم من أنّه لا توجد تأكيدات قاطعة، يظهر سؤال جوهريّ: ما هو معنى هذه الفترة الطّويلة من الصّمت فيما يتعلّق برسالة يسوع؟ إنَّ الخبر العظيم للإنجيل هو هذا بالضّبط: قبل أن يقوم بأعمال عظيمة، بدأ ابن الله في خلاص العالم ببساطة من خلال كونه معنا، فشاركنا في خبراتنا، وسمح لأحداث التّاريخ البشريّ بأن تلمسه. إنّ خلاص الله لا يفرض نفسه بتغيير الأمور فورًا، بل يُقدّم نفسه كلقاء يولِّد الرّجاء، ومسيرة صبورة يظهر فيها الحبّ من خلال التّصرّفات البسيطة والملموسة للحياة اليوميّة. والتّأكيد لهذا المنهج، الّذي لا يفرض نفسه، نجده في مشهد معموديّة يسوع، الحدث الّذي يبدأ به بشكل رسميّ واحتفاليّ خدمته العامّة. إنّ فعل معموديّة يسوع يسبقه في جميع الأناجيل الوعظ القويّ والمُقنع ليوحنّا. وإذ يجمع جوهر الأصوات النّبويّة في التّقليد اليهوديّ، يعلن المعمدان عن مجيء المسيح كقدوم نار قادرة على تطهير الشّعب من خطاياهم من خلال القوّة المجدّدة لروح الله.
لا بدّ أن يُدهشنا الأسلوب الّذي اختاره يسوع لتجسيد هذه النّبوات. إذ جاء من النّاصرة إلى نهر الأردنّ حيث كانت تتمّ معموديّة التّوبة، وكان أوّل فعل قام به يسوع هو فعل وُصِف بالفعل المبنيّ للمجهول: "ليعتمد". يبرز إنجيل متّى الدّهشة من هذا السّلوك الغريب من خلال كلمات يوحنّا: "أنا أحتاج إلى الاعتماد عن يدك، أو أنت تأتي إليَّ؟". قد يبدو لنا أنّ هذا التّصرّف غير لائق، بل وحتّى غير مجدٍ، أن يسمح الله بأن تُحدّده أفعالنا. ولكن الله مُقتنع بأنّ أجمل وأهمّ ما يجب فعله هو أن يغوص في مياهنا، لكي يذكّرنا بأنّ واقعنا، بكلّ ما فيه من أنوار وظلال، يمكنه أن يصبح مكانًا للخلاص: "دعني الآن وما أريد، فهكذا يحسُن بنا أن نُتِمَّ كلّ برّ". في هذه السّلبيّة الظّاهرة للمسيح في معموديّته، من الضّروريّ أن نلتقط أيضًا فعلًا إلهيًّا، يظهر فيه أحد أبعاد قدرته الفريدة على الحبّ. نحن عادةً ما نعتقد أنّ الحبّ يعني أن نحبّ الآخر، ونجسّد ذلك من خلال بعض التّصرّفات الرّمزيّة. لكن الحبّ يعني أيضًا– وربّما بشكل أعمق– أن نرغب في خير الآخر. إنّ حياة يسوع المسيح كلّها ستكون مطبوعة بمنطق الانتباه إلى الآخر، ومشغولة بأسلوب يتقدّم فيه وجه الآخر على أيّ قاعدة أو مبدأ مجرّد، لدرجة أنّ الثّمن الّذي يجب دفعه في النّهاية سيكون باهظًا. رغم التزامه الكامل بالطّقوس اليهوديّة، إلّا أنّ يسوع كان يعطي الأولويّة دائمًا لمن يعيش في الضّعف أو الألم أو الخطيئة.
وإذ بدأ خدمته في الشّفاء والخلاص من الأسفل، من مياه إنسانيّتنا الضّعيفة، أراد يسوع أن يضع الشّفقة كجوهر لإنسانيّة جديدة بشكل جذريّ. في حادثة مذكورة في الأناجيل الأربعة، تظهر شفقة يسوع الّتي تضع الآخر دائمًا في المركز بشكل لا لبس فيه. بعد أن ذهب التّلاميذ، اثنين اثنين، لكي يعلنوا ملكوت الله، اجتمعوا حول المعلّم ليخبروه بكلّ ما فعلوه وعلّموا به. فهم الرّبّ أنّ التّلاميذ لا يحتاجون فقط إلى رواية ما حدث، بل يحتاجون أيضًا إلى ألّا يفرّطوا في تحديد هويّتهم بأعمالهم الّتي أنجزوها. لقد كانت الحاجة إلى الرّاحة أمرًا ضروريًّا للتّلاميذ وليسوع، لا بل أمرًا مقدّسًا. لا ينبغي لأحد أن يهمل هذا الانتباه الأوّل والأساسيّ للنّفس. إذا سمحنا للمسؤوليّات والأدوار أن تستنفدنا، فقد نعرّض إنسانيّتنا للخطر، فنخلط بين الحاجة إلى أداء الأعمال بشكل جيّد والرّغبة في فعل الخير الحقيقيّ للآخرين. ومع ذلك، يمكن أن تُوضع هذه الحاجة الأولى في المرتبة الثّانية عندما نجد أنفسنا فجأة أمام شخص قادر على تحريك شفقتنا. إذا اكتشفنا في ذواتنا القوّة للابتعاد عن أنفسنا، ليس من باب الحاجة للشّعور بالفائدة، بل من الرّغبة التّلقائيّة والمحرّرة في مشاركة ما نحن عليه وما نملك، يمكننا عندها أن نختبر سعادة كبيرة. فالأمر لا يتعلّق بأن نشعر بأنّنا جيّدون أو حتّى أفضل من الآخرين، وإنّما بفرح اكتشاف أنّ الله، الأب، يستطيع حقًّا أن يعتني بالجميع، عندما يختار أبناؤه درب التّضامن ومنطق الشّفقة.
لكي نكتشف أنّنا قادرون على إعطاء الأولويّة للآخر، يجب أن نكون قد استوعبنا حبًّا قادرًا على تعريف واقعنا كشيء جميل وجيّد. وهذا ما حدث مع يسوع، ما إن غمر يوحنّا جسده في مياه الأردنّ. مباشرة، وبمجرّد أن قرّر أن يقوم بخطوة حقيقيّة نحو المشاركة في الأرض الّتي يسير عليها إخوتنا وأخواتنا في الإنسانيّة، تحقّقت أيضًا خطوة نحو سماء الله. أمام خيار المسيح، الّذي في المعموديّة يعبّر عن إرادته في "أن يضع نفسه في تصرّفّنا"، ويعطي الأولويّة لإنسانيّتنا، انشقّت السّماء حرفيًّا. إنّ انشقاق السّماء يشهد على أنّه عندما تكتشف إنسانيّتنا قدرتها على الشّفقة، لا يمكن للسّماء إلّا أن تقوم بحركة اقتراب نحو تشابه معنا، نرغب فيه بعمق وأعدنا اكتشافه. لكن هذا العرض مخصّص فقط ليسوع، وليس للحضور، لأنّه ليس تكريمًا علنيًّا، بل خبرة حميمة ولا تُنسى، محفوظة فقط لمن يسمح للحبّ بأن يصوغه. إنّ نزول الرّوح بشكل مرئيّ وملموس، كحمامة، يعني أنّه بعد معموديّته، شعر يسوع بقدرته على قبول وتوليد حياة أكبر منه، حياة الآب وحبّه اللّامتناهي للإنسانيّة. والصّوت الّذي جاء من السّماء يكشف سرّ حياتنا البشريّة: في كلِّ مرّة نعيش جميعنا كإخوة، لا بدّ أن تظهر أيضًا هويّتنا كأبناء محبوبين من الآب.
بعد أن أتمّ يسوع معموديّته، لم يلبث في التّعزية الّتي اختبرها. وفور خروجه من المياه، سمح للرّوح بأن يقوده بكلّ طواعيّة إلى خبرة أخرى غير متوقّعة. بينما كان لوقا ومتّى يهتمّان بوضع رواية مفصّلة لزمن التّجربة في الصّحراء، قدّم مرقس للقارئ تلخيصًا موجزًا وأساسيًّا لتجارب يسوع. يروي متّى ولوقا ثلاثة أنواع من التّجارب الّتي واجهها يسوع في الصّحراء. وعلى الرّغم من اختلافها، إلّا أنّ جميع هذه التّجارب تشترك في تجسيد نوع من التّأليه لاحتياجات الذّات ومشاعرها: الطّعام، والمال، والسّلطة. من خلال جمع المعلومات، يمكننا القول إنّه بعد المعموديّة، دخل يسوع في مرحلة اختبار استمرّت طوال حياته، لكي يأخذ على عاتقه إنسانيّة مستعدّة لكي لا تتراجع أبدًا عن معيار الشّفقة وإعطاء الأولويّة للآخر.
بغضّ النّظر عن الطّريقة الّتي نرغب في فهم النّصّ بها، نكتشف أنّ التّجربة في الصّحراء كانت ضروريّة ليسوع لكي يُنضج تلك القوّة الدّاخليّة اللّازمة لكي يعانق رسالته بدون خوف من الموت. إنذ الزّمن– الّذي يمثّل رمزًا واضحًا في فترة الأربعين يومًا– هو وسيلة للتّعبير عن أنّ يسوع كان بحاجة إلى أن يُدرِّب قلبه على اختيار الخير ورفض الشّرّ طوال أيّام حياته. تروي الأناجيل كيف كان يسوع يعتاد على الخروج من منزله في الصّباح الباكر، ليغوص في صلاة منعزلة وصامتة، رغم احتياجات الجماهير الّتي كانت تبحث عنه. إنّ العادة في تعزيز "صحراء داخليّة" والمحافظة عليها جعلت من يسوع إنسانًا قادرًا على أن يكون في جميع الحالات في سلام عميق، بدون أن يخاف من أيّ شيء أو يشعر بالحرج أمام أحد. وعندما أرسل يسوع تلاميذه لكي يعلنوا ملكوت الله، قدّم لهم تعليمات لكي يجسِّدوا هذه الطّريقة المتواضعة والواثقة في التّواجد في العالم. إنّ التّعليمات الرّسوليّة الّتي قدّمها يسوع تهدف إلى مساعدة تلاميذه في تجنّب الوقوع في فخّ الأبوّة أو الإحسان المُفرط. في الصّحراء، قاوم يسوع كلّ تجربة من أجل الاستقلاليّة وإثبات الذّات، لكي يعانق حياة لا يمكن أن يُعلن فيها الخلاص ويُختبر إلّا كنتيجة لثقة مشتركة في الحبّ بحرّيّة واختيار. لم يكن على التّلاميذ أن يسافروا في العالم متفاخرين بأنّ لديهم فقط وعلى الدّوام ما يُعلّمونه للآخرين، بل بتواضع الّذين لديهم أيضًا الكثير لكي يسمعوه وينالونه. إنَّ الغاية من الإعلان هي أن نُتيح للآخرين الفرصة لكي يُظهروا الكنوز الخفيّة في إنسانيّتنا: الشّفقة، والكرم، والقبول.
قبل أن يعانق خدمة الشّفاء والخلاص لصالحنا، تعلّم يسوع في الصّحراء كيف لا يحصل على ما يحتاجه باستخدام طبيعته الإلهيّة. وفي أمانته لمنطق المعموديّة، فضّل أن يبقى في الإصغاء لاحتياجات إنسانيّتنا، لكي يتعلّم كيف يلبّيها بدون حيلة أو خداع. إنّ كلمة الله قد تجسّد أيضًا لهذا السّبب: لكي يُظهر لنا كم من الكرامة هناك في أن ننال ما نحتاج إليه، فنتخلّى عن وهم القوّة الجبّارة في أنّه علينا أن نكسب أو ننتج هذه الأشياء بقوانا الخاصّة. في جميع الأناجيل، يبدأ يسوع إعلان الملكوت في اللّحظة الّتي يتمّ فيها القبض على يوحنّا بسبب خدمته النّبويّة. لقد قبل يسوع الشّهادة من يد أعظم نبيّ ظهر في إسرائيل. بعد أن تألّم وتمرّن في الصّحراء على الثّقة بعناية الآب، بدأ ابن الله في توضيح نظرته لنا، وللتّاريخ، وللعالم. في إنجيل متّى، نرى يسوع يعلن الطّوبى، أيّ التّفسير الأكثر إشراقًا وتحريرًا لإنسانيّتنا. في رواية لوقا، تُعلن البشارة في مجمع النّاصرة، حيث يعلن المسيح عن بداية "اليوم" الّذي فيه تتحقّق كلّ الآمال الموجودة في الكتب المقدّسة: إذا قبلنا فقرنا الجذريّ، يمكننا أن نشعر بأنّنا أغنياء بالفعل بملكوت الله وأحرار من كلّ عبوديّة. في إنجيل يوحنّا، يتمّ الإعلان عن البشارة من خلال حدث الخمر في عرس قانا، تأكيدًا لما كان الأنبياء يهمسون به: أرضنا لن تُترك بعد الآن، بل ستكون "متزوّجة" إلى الأبد. أمّا في إنجيل مرقس، فإنّ إعلان البشارة موجز ومكثّف. في كلمتين، يتمكّن يسوع من أن يُشعل نورًا شديدًا لدرجة أنّه يطرد أيّ ظلام: لقد تمَّ الزّمان، ولا حاجة للانتظار لوقت أكثر ملاءمة، إنّ ملكوت الله قريب.
في زمن الصّوم هذا في سنة اليوبيل المقدّس، نحن مدعوّون لكي نبقى ثابتين وراسخين في المسيح، واثقين من أن نجد فيه مرجعًا ثابتًا وآمنًا لحياتنا. إنَّ العلامة الملموسة لإيماننا بهذا الرّجاء هي عبور الباب المقدّس، وهو فعل يدعونا للدّخول بشكل أعمق في سرِّ حياة المسيح. إنّ معموديّة المسيح ليست مجرّد حدث في حياته، بل هي علامة تضيء مسيرة كلّ مؤمن، وتُظهر بعض الحركات الوجوديّة الّتي نحن أيضًا مدعوّون للقيام بها. الحركة الأولى هي القدرة على الخروج من محور ذواتنا لكي نترك فسحة للآخر. يُعلّمنا هذا الفعل أنّ الشّركة الحقيقيّة مع الآخرين لا تُبنى فقط عندما تكون خياراتهم مرضية أو مفهومة لنا، بل أيضًا عندما يضعوننا في اختبار ويتحدّوننا. الحركة الثّانية هي الارتداد، الّذي يُقصد به التّمرين المستمرّ على التّحقّق الدّاخليّ. إنّ الارتداد ليس مجرّد تغيير أخلاقيّ، بل هو تحوّل عميق في طريقة رؤيتنا، وحكمنا، ومحبّتنا. وأخيرًا، الحركة الثّالثة هي ربّما الأكثر صعوبة وحسمًا: البقاء داخل الواقع بدون أن نهرب منه أو نؤلِّهه. إنَّ معموديّة المسيح جعلته يغوص في نهر الحياة، بدون أن تُجنّبه التّوتّرات، والاختبارات، والتّناقضات في العالم. نحن أيضًا مدعوّون لكي نثبت في زماننا، بكلّ تعقيداته وتحدّياته، بدون أن نهرب أو أن نبحث عن ملاذات اصطناعيّة. بهذه الطّريقة فقط يمكننا أن ندرك، حتّى بين الصّعوبات، أنّ مسيرتنا مأهولة بحضور أكيد: حضور الله، الّذي لا يتركنا بل يبقى معنا على الد"وام.