الفاتيكان
04 كانون الأول 2020, 14:30

الواعظ الرّسوليّ في التّأمّل الميلاديّ الأولّ: تذكّر أنّك ستموت!

تيلي لوميار/ نورسات
تحت عنوان "إِحْصَاءَ أَيَّامِنَا هَكَذَا عَلِّمْنَا فَنُؤْتَى قَلْبَ حِكْمَةٍ" (مزمور 90، 12)، ألقى الواعظ الرّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا تأمّله الأوّل لزمن المجيء، في قاعة بولس السّادس، بحضور البابا فرنسيس، فتأمّل بالقاعدة الأول من "القواعد الأبديّة": الموت. وقال كانتالاميسا في هذا السّياق بحسب "فاتيكان نيوز":

"يصف أحد شعرائنا، جوزيبيه أونغاريتي، الحالة النّفسيّة للجنود في الخنادق خلال الحرب العالميّة الأولى بقصيدة تتكوّن من سبع كلمات فقط: إنّه مثل أوراق الخريف على الأشجار. واليوم تختبر البشريّة جمعاء هذا الإحساس بزوال الحياة بسبب الوباء. يكتب القدّيس غريغوريوس الكبير "إنّ الرّبّ يرشدنا أحيانًا بالكلمات، وأحيانًا بالأفعال". في العام الّذي شهد "الواقع" العظيم والمخيف لفيروس الكورونا، نسعى جاهدين لجمع الدّروس الّتي يمكن لكلّ منّا أن يستخلصها منه لحياتنا الشّخصيّة والرّوحيّة. والحقائق الأبديّة الّتي نريد أن نتأمّل حولها هي: أوّلاً، إنّنا جميعًا بشر وليس لدينا موطن ثابت على الأرض؛ ثانيًا: إنّ حياة المؤمن لا تنتهي بالموت لأنّ الحياة الأبديّة تنتظرنا. ثالثًا، إنّنا لسنا وحدنا في سفينة كوكبنا الصّغيرة، لأنّ "الكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا". أوّل هذه الحقائق هي موضوع خبرة، أمّا الاثنان الأخريان فهما موضوع الإيمان والرّجاء.

نبدأ اليوم بالتّأمّل في أولى هذه "القواعد الأبديّة": الموت  "Memento mori" : تذكّر أنّك ستموت. وقد اختارها الرّهبان الترابيست شعارًا لرهبنتهم ويكتبونها في أماكن المرور في الدّير. يمكننا أن نتحدّث عن الموت بطريقتين مختلفتين: إمّا باستخدام أسلوب تبشيريّ أو في أسلوب حكميّ. تكمن الطّريقة الأولى في الإعلان بأنّ المسيح قد غلب الموت، وبأنّها لم تعد جدارًا يتحطّم عليه كلّ شيء، وإنّما جسر إلى الحياة الأبديّة. من ناحية أخرى، تتمثّل الطّريقة الحكمية أو الوجوديّة في التّأمّل في حقيقة الموت كما تقدّم نفسها للخبرة البشريّة، من أجل استخلاص الدّروس منها ومن أجل العيش بشكل جيّد. إنّه المنظور الّذي سنضع فيه أنفسنا في هذا التّأمّل.

هذه الأخيرة هي الطّريقة الّتي يتحدّث بها العهد القديم عن الموت ولاسيّما في الكتب الحكميّة: "إِحْصَاءَ أَيَّامِنَا هَكَذَا عَلِّمْنَا فَنُؤْتَى قَلْبَ حِكْمَةٍ" يطلب صاحب المزمور من الله. هذه الطّريقة في النّظر إلى الموت لا تنتهي مع العهد القديم، بل تستمرّ أيضًا في إنجيل المسيح. لنتذكّر تحذيره لنا: "اسهروا لأنّكم لا تعرفون اليوم ولا السّاعة". ولنتذكّر أيضًا خاتمة مَثَل الرّجل الغنيّ الّذي خطط لبناء أهراء أكبر لحصاده: "يا جاهل، في هذه اللّيلة تطلب نفسك منك، فهذا الّذي أعددته لمَن يكون؟ "، وقوله أيضًا: "ماذا ينفع الإنسان إذا ربح العالم كلّه وخسر حياته؟". لقد جعل تقليد الكنيسة هذا التّعليم خاصًّا به. لقد نمّا آباء الصّحراء فكرة الموت حتّى جعلوها ممارسة مستمرّة وأبقوها حيّة بكلّ الوسائل. كان أحدهم، وكان يعمل في غزل الصّوف، قد اعتاد أن يلقي المغزل من وقت لآخر على الأرض ويضع الموت أمام عينيه قبل رفعه مرّة أخرى. ونقرأ في كتاب الاقتداء بالمسيح: "في الصّباح لا تتوقّع أن تصل إلى المساء. وعند حلول المساء، لا تجرؤ على أن تعد نفسك بالصّباح". فيما كتب القدّيس ألفونسو ماريا دي ليغوري أطروحة بعنوان الجهاز عند الموت والّتي شكّله أطروحة كلاسيكيّة للرّوحانيّة الكاثوليكيّة. كذلك ولعدّة قرون، تمّ رسم العديد من القدّيسين، من القرن السّادس عشر فصاعدًا، في وضعيّة تأمّل أمام جمجمة.

إنَّ هذه الطّريقة الحكميّة للتّحدّث عن الموت نجدها في جميع الثّقافات، وليس فقط في الكتاب المقدّس والمسيحيّة. فهي حاضرة ومعلمنة حتّى في الفكر الحديث. هذه الطّريقة في تصوّر الوجود تتجاهل تمامًا حقيقة الموت، وبالتّالي تدحضها حقيقة الوجود الّتي نريد تأكيدها. فماذا يمكن الإنسان أن يخطّط إذا كان لا يعرف حتّى، ولا يعتمد عليه، إن كان سيكون حيًّا غدًا؟ إنّ محاولته تشبه محاولة السّجين الّذي يقضي كلّ وقته في التّخطيط لأفضل طريق عليه اتّباعه لكي يعبر من جدار إلى آخر في زنزانته. وبالتّالي في أعقاب تقدّم التّكنولوجيا وإنجازات العلم، خاطرنا بأن نكون مثل الرّجل في المثل الّذي يقول لنفسه: "يا نفسي لك خيرات كثيرة مدّخرة لسنين كثيرة فاستريحي وكلي واشربي وتنعّمي". فجاءت النّكبة الحاليّة لتذكّرنا بمدى ضآلة الاعتماد على الإنسان في "التّخطيط" لمستقبله وتحديده، خارج الإيمان.

إنّ التّأمّل الحكميِّ في الموت يحفظ، بعد المسيح، الوظيفة عينها الّتي تقوم بها الشّريعة بعد مجيء النّعمة. هي تعمل أيضًا على الحفاظ على المحبّة والنّعمة. إنّ الشّريعة قد أُعطيت للخطأة ونحن لا نزال خطأة، أيّ خاضعين لإغراء العالم والأشياء المرئيّة، ونميل على الدّوام إلى التّشبّه بهذا العالم. وبالتّالي لا توجد نقطة أفضل نضع فيها أنفسنا لكي نرى العالم، وذواتنا وجميع الأحداث، في حقيقتها الّتي هي حقيقة الموت. وعندها سيأخذ كلّ شيء مكانه الصّحيح. لأنّ النّظر إلى الحياة من وجهة نظر الموت يقدّم لنا مساعدة كبيرة لكي نعيش بشكل جيّد. هل أنت منزعج من المشاكل والصّعوبات؟ انطلق، وضع نفسك في المكان الصّحيح: أنظر إلى هذه الأشياء من فراش الموت. كيف كنت تريد أن تكون قد عشت وتصرّفت؟ ما هي الأهمّيّة الّتي ستعطيها لهذه الأشياء؟ هل لديك صراع مع شخص ما؟ أنظر إلى كلّ شيء من فراش الموت. كيف كنت تريد أن تتصرّف في ذلك الوقت: أن تنتصر أم أن تُذلّ؟ الغلبة أم الغفران؟

إنّ فكرة الموت تمنعنا من التّشبّث والتّمسُّك بالأشياء، ومن أن نثبِّت هنا على الأرض مسكن قلوبنا، متناسين أنّه "لَيسَ لَنا هُنا مَدينةٌ باقِيَة" (عبرانيّين 13، 14). يقول أحد المزامير إنّ الإنسان "عِندَ مَوتِهِ كُلَّهُ لَا يَأخُذُ. لَا يَنزِلُ وَرَاءَهُ مَجدُهُ" (مزمور 49، 17). وبالتّالي فإنَّ أختنا الموت هي فعلاً أخت كبيرة جيّدة ومربّية جيّدة، هي تعلّمنا أشياء كثيرة، ولكن فقط إذا عرفنا كيف نصغي إليها بطاعة. لقد حقق السّؤال حول معنى الحياة والموت مهمّة بارزة في إعلان البشارة الأولى لأوروبا، ولا يمكننا أن نستبعد أن يقوم بمهمّة مماثلة في الجهد الحاليّ من أجل إعادة تبشيرها. في الواقع، إذا كان هناك شيء واحد لم يتغيّر منذ ذلك الحين فهو هذا: على البشر الرّجال أن يموتوا. وبالتّالي كان السّؤال الّذي طرحه الموت هو الّذي فتح الطّريق للإنجيل، كفجوة مفتوحة على الدّوام في قلب الإنسان. وفي هذا السّياق كتب عالم نفسيّ معروف ضدّ فرويد أنّ رفض الموت، وليس الغريزة الجنسيّة، هو أساس كلّ عمل بشريّ.

بهذه الطّريقة لا نعيد تنشيط الخوف من الموت. تقول الرّسالة إلى العبرانيّين إنّ يسوع جاء لكي "يُحَرِّرَ الَّذينَ ظَلُّوا طَوالَ حَياتِهِم في العُبودِيَّةِ مَخافَةَ المَوت". لقد جاء ليحرّرنا من الخوف من الموت لا ليزيده. ومع ذلك، يجب أن يكون المرء قد عرف هذا الخوف ليتمكّن من التّحرّر منه. جاء يسوع ليعلّم الخوف من الموت الأبديّ للّذين كانوا يعرفون فقط الخوف من الموت الزّمنيّ. الموت الأبديّ! "الموت الثّاني"، يسمّيه سفر الرّؤيا. إنّه الوحيد الّذي يستحقّ حقًّا اسم الموت، لأنّه ليس عبورًا، أو فصحًا، ولكنّه نهاية رهيبة. ولكي نخلّص الرّجال والنّساء من هذه الكارثة، يجب أن نعظ المسيحيّين مجدّدًا حول الموت. الويل للّذين يموتون في خطايا مميتة! يقول الرّسول "إِنَّ شَوكَةَ المَوتِ هيَ الخَطيئَة" (1 كورنتس 15، 56). إنّ ما يعطي الموت أعظم قوّته لكرب المؤمن وإخافته هو الخطيئة. ويقول يسوع: "لا تَخَافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسَد ثُمَّ لا يَستَطيعونَ أَن يَفعَلوا شَيئًا بَعدَ ذلك. ولكِنَّني سَأُبَيِّنُ لكم مَن تَخافون: خافوا مَن لَه القُدرَةُ بَعدَ القَتْلِ على أَن يُلقِيَ في جَهَنَّم". وبالتّالي انزع الخطيئة وستكون قد سلبتَ الموت شوكته!

بتأسيسه للإفخارستيّا، استبق يسوع موته. ونحن يمكننا أن نفعل الشّيء عينه. في الواقع، ترك لنا يسوع هذه الوسيلة لكي يجعلنا نشارك في موته، ويوحّدنا معه. إنّ المشاركة في الإفخارستيّا هي الطّريقة الأصدق والأكثر فعاليّة لكي نحضِّر أنفسنا للموت. فيها نحتفل أيضًا بموتنا ونقدّمه للآب يومًا بعد يوم. في الإفخارستيّا يمكننا أن نرفع الـ"نعم" الّتي نقولها إلى الآب، إلى ما ينتظرنا، إلى نوع الموت الّذي سيسمح به لنا. وفيها نترك وصيّتنا: نقرّر لمن نترك الحياة، ولمن نموت.

صحيح أنّنا ولدنا لنكون قادرين على الموت. فالموت ليس نهاية الحياة وحسب وإنّما هو هدفها أيضًا. يكتب القدّيس غريغوريوس الن "إنَّ المسيح قد وُلِد ليموت"، أيّ ليقدّم حياته فداء عن الجميع. نحن أيضًا قد نلنا الحياة كعطيّة لكي نحصل على شيء فريد، ثمين، يليق بالله، لنستطيع بدورنا أن نقدّمه كعطيّة وتضحية. لكن مع هذا كلّه، لم ننزع الشّوكة من فكرة الموت– أيّ قدرته على أن يسبّب لنا الألم والغمّ والّتي أراد يسوع أيضًا أن يختبرها في الجتسمانيّ. لكنّنا على الأقلّ أكثر استعدادًا لقبول الرّسالة المعزية الّتي تأتينا من الإيمان والّتي تعلنها اللّيتورجيا في مقدّمة القدّاس من أجل الأموات: "إنّ حياة مؤمنيك، يا ربّ، لا تؤخذ، بل تتغيّر؛ وبينما ينحلّ مسكن هذا المنفى الأرضيّ، يُعد لهم مسكنًا أبديًّا في السّماء".