المونسنيور بيوس قاشا من سيدة البير: "لتكن أقلامكم شاهدة لمسيرة السلام، وليس لإشعال الحروب وتدمير الشعوب"
في البدء، شكراً جزيلاً لمجموعة "تيلي لوميار" لدعوتها إيّاي للمشاركة في هذا المؤتمر _ وللمرة الأولى _ ضمن فقرة "شهادة إعلامي"، كما أقدم الشكر الجزيل للأخ نور الذي إتّصل بي هاتفياً وأرادني أن أكون بينكم كتاباً مفتوحاً تقرأون على صفحاته عناقَ نخلةِ العراق لأرزةِ لبنان، فنتقاسم آلامنا وجراحنا، مع مآسي العراق الجريح، منذ الإحتلال عام 2003 ولحد الساعة.
لقد مرَّ عامان على إقتلاعِ شعبِنا من أرضِ آبائِهِ وأجدادِهِ في قرى ومدنِ سهلِ نينوى، في السادس من أب (أغسطس) عام 2014، بعملٍ إجراميٍّ شنيع، بلغَ درجةَ الإبادةِ العِرقية والدينية، إرتكبَتْه زمرُ داعش الإرهابية الإجرامية، ومثيلاتُه من المنظمات الإرهابية، التي تكفّر الإنسان، وكلَّ كائنٍ لا يَدين بما تَدين ولا يسلم بما تسلم به.
نعم، ونعم وصحيح، حلّ ما حلّ فينا بسبب داعش والإرهاب، ومن عامِنا هذا، حيث الذكرى الثانية للنزوحِ البائس وبدايةُ الكارثةِ بحقٍّ وحقيقة، بمآسيها وتَبِعاتِها، ولا زالت تجرُّ أذيالَ اليأسِ والقنوط حتى الساعة، كما مَلَكَ القَدَرُ الأسودُ على مسيرةِ الحياة، ممّا جعلني أُعيدُ ذكرياتي إلى ما حلَّ بكنيسة سيدة النجاة، وكأنَّ الكارثةَ آنذاك كانت جرسَ إنذارٍ وناقوسَ ميعادٍ لِمَا سيحلّ بالمسيحيين وبالمسكونة (متى26:21)، وأصبحنا أداةً مطيعة، بل خانعة، لصنّاعِ السياسة ولمخطّطي خارطات الطرق الإستعمارية.
نعم، هوذا الإجتياحُ الداعشي يدخل عامَه الثالث في سهلِ نينوى، وفي الوقت نفسه يواصل فيه الإرهابُ المزيدَ من جرائمِهِ البشعة ومحاولاتِه المتوحشة. نعم، طردونا من منازلِنا، وقتلونا أمامَ أنظارِهم، وأَبعدونا عن قُرانا قسراً وكرهاً وحقداً، وعن مدنِنا كفراً وتكفيراً، وعن أحبّائِنا عنوةً، وعن جيرانِنا غدراً، والسبب يعود إليهم وإلينا، فهم سبقونا في الهزيمة ونحن لم نكن مستعدين لها، بل بالأحرى لم يعلّمونا حمايةَ مدنِنا وقُرانا وأملاكِنا، فضاع كلُّ شيءٍ، وأصبحنا تائهين في العَراءِ ليلاً ونهاراً، وفي شوارعِ المدينة وساحاتِها وأرصفتِها وحدائقِها وساحاتِ دور العبادة، والتترُ لَبِسَ حُلّةَ الإرهابِ بداعشِهِ وسوادِ الدواعشِ بإرهابه، وشرّعوا سيوفَهم تخويفاً وتنكيلاً، وعقيدتَهم جبراً أو جزيةً، وكأنَّ الكلمةَ الطيبة لم تُمْسِ صَدَقَةً بل دُفِنَتْ، وأنشودةَ الحياة قد غاب صوتُها ولم يبقَ للإنسانيةِ وجودٌ ولا للحقيقةِ إعلانٌ، بل أصبحت غابةَ أدغالٍ، وما حصل وما يحصل أعادَنا إلى القرون الغابرة، وإلى ما كُتِبَ عن أجدادِنا وهروبِهم وهزيمتِهم أمام السيف الذي شُرِّع عليهم غدراً وقسوةً وكرهاً لأبناء المسيح الحي في الماضي القريب والحاضر الجديد من الجيرةِ والديرة. فكانوا ضحيةَ عنفٍ وإرهابٍ ومصالحَ، لم يكن لهم فيها لا ناقةً ولا جمل، بل حساباتٍ سياسية ومصالحَ دنيوية لتسوية الحسابات وإعادة ترتيب المِنطقة بالمنطق الذي يشاؤه كبارُ الدنيا في مؤامراتِ المخططين.
نقول: إنَّ شرقَنا يشهد إحتلالاً من الأصوليين ومن الإرهاب، كما إنَّ المسيحيين في الشرق يواجهون ما هو أخطر من التحديات، إنهم يواجهون أزمةَ وجودٍ وحضورٍ وضياع، فهل سيصبحون آثاراً أو بقايا أو ذكريات؟... هل تصبح كنائسُهم خرباً وتُهدَم بِمِعْوَلِ داعش والإرهاب؟... فقد أصبحنا أقليّةً وأنتم أردتم ذلك، وإعلامكم ينقل مآسينا ولكن لا يوجد مَن يواسينا، وباتَ الخطرُ مضاعَفاً علينا من خلال تهجيرٍ مبرمجٍ وعِبْرَ فرضِ الشريعةِ والتعاليم الأصولية نعيش أهلَ الذمّة.
ألا يخجل الأصوليون عندما يقولون إنهم مسلمون والإسلام مصدر شريعتهم، والإسلام منهم براء؟... عن أيّةِ شريعةٍ يتكلمون أمامَ جرائمَ داعش؟... أو أيّةَ شريعةٍ يطبّقون وأبناء الوطن مشرَّدون ومهجَّرون ونازحون؟... إرحموا العراقَ الجريحَ وشعبَه، فسبحانه وتعالى منحَ لنا شريعةً لتجمَعَنا وليس حقيقةً لتفرّقَنا... هل أرادنا سيوفاً وحِراباً ثم خراباً ودماراً أم أرادنا غصناً وزيتوناً؟.
من حقّي أنْ أسأل: حتى ما نكونُ أرقاماً هزيلة؟... أفي بلدي أكون نازحاً، لاجئاً مهجَّراً، أنا المسيحي ابنُ هذه الأرض الطيبة التي رويتُها بدمائي وعَرَقي، وعملتُ فيها بسواعدي وفكري، وسرتُ فيها شامخاً متكبِّراً بألوانِ رايتها؟... أليس ذلك من حقي وحق حريتي أنْ أكونَ رايةً وحقيقةً، شاهداً ومؤمناً؟... أليس من حقي أنْ أدافعَ عن وجودي؟، وإلا عبثاً أنا هنا... فأنا لستُ عبداً لكلماتِ دستورٍ ينكر وجودي، ولستُ خانعاً وخاضعاً لإراداتٍ تسلبُ حريتي وأموالي وأطفالي، وأنا لستُ إلا أصلاً وأصالةً، عمقاً وقلباً، فكراً ورسالةً، حضارةً وتراثاً، فمهما باعوا الحقيقةَ من أجل كراسي الزمن ومتاعبِ الدنيا، فالحقيقة علامةٌ وليست بضاعةٌ، وإنْ كانت تُباعُ اليومَ في سوقِ النخاسة ويشتريها مَن يملك مالاً وعبيداً وجاريات ومن الحَسَب والنسب والقربى، أما أنا سأبقى أنشد هويتي واعتزازي ببلدي وبأرضِهِ رسالةَ وجودي وعراقيّتي. فالرافدان شاهدان، وحمورابي وشريعتُهُ قاضٍ يعلن حكم الحقيقة، وسأبقى أحضن ترابي ووطني وأحمل مشعلَ إيماني، وما ذلك إلا رسالةُ الحقيقة، وهذه رايتي ليس إلا!.
يا رؤساء الدنيا والزمن، يا سادة يا أجلاء، يا حاضرين يا كرام،
من خلال شهادتي هذه، أقول لكم وقلبي يعتصر ألماً بل دماً: حينما أرى شعبي يموت ويُباع ويُهجَّر، فاكتبوا تاريخنا ومآسيه، لتكن أقلامكم شاهدة لمسيرة السلام، وليس لإشعال الحروب وتدمير الشعوب. هل تعلمون ما حلّ بنا بسبب حروبِكم وبدواعِشِكم؟، قُتِلَ أبرياؤنا، هُدِمَت أوطانُنا، هُجِّرَ أبناؤنا، ماتوا من الخوفِ والفزعِ والإرهاب، أُصيبوا بأمراضٍ مميتة، وحتى اليوم يعاني شعبُنا من آفاتِ قنابلكم، وتدمير صواريخكم،
طُرِدَت عقولُنا من أوطانِنا، بيع شعبُنا بصفقاتٍ بائسة. فاسمعوا صراخَنا، ولا تتهاونوا في ما يحصل لنا، لا تجعلوا من شعوبنا حطباً لنيرانكم، ولا تُميتوا شعوباً من أجل شعبٍ، لا تجتمعوا لتناقشوا إحتلالنا، بل إجتمعوا من أجل إعمار أوطاننا وحماية شعبنا وأصلائنا، فالأصولية قاتلة ومميتة، غايتُها غزوَ العالم، وتدميرَ الشعوب، وأنتم أدرى بذلك منّا، بل أنتم لها ولمصالحكم، يا مَن حملتم وبلدانكم رايةَ حقوق الإنسان، وشعارَ الدفاع عن الشعوب المضطَهَدة... أنتم تعرفون في بلادكم الحريةَ بأصنافِها، وقبولَ الآخر، وحمايةَ الطفولة وحقوقَ المرأة، فنحن ننتظركم، ونُنشد همَّتَكم وإنسانيَّتَكم لتحرير أراضينا، فنعود إليها وندخلها آمنين، فقد طالت مصيبتُنا، وصُودر صبرُنا، ولا قوةَ لنا إلا بربِّ السماء، ولا أمل َولا رجاءَ لنا إلا به، وبحقيقتِكم ليس إلا!... فلتكن هذه رايتكم، ولتكن هذه مسيرتكم، فانشدوا معنا كي نعود إلى أرضِنا، فأنظارُنا نحو ديارِنا.
فيا رب، إسمع دعاءَنا، واستجب لنا، وارحم شعبنا، نعم وآمين. وشكراً