لبنان
02 كانون الثاني 2019, 08:47

المطران مطر إلى اللّبنانيّين: نحن عائلة وطنيّة واحدة، ومصيرنا مشترك

رفع رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس مطر الصّلاة في بداية العام، على نيّة السّلام العالميّ، في قدّاس إلهيّ ترأّسه في كنيسة سيّدة الورديّة في رأس بيروت، عاونه فيه كاهن الرّعيّة النّائب الأسقفيّ المونسنيور أنطوان عسّاف، والمونسنيور نعمة الله شمعون، ورئيس مدرسة الحكمة في كليمنصو الخوري روجيه سركيس، والخوري ريمون قسّيس، بحضور رئيس المجلس العامّ المارونيّ الوزير السّابق وديع الخازن على رأس وفد من الهيئة التّنفيذيّة، وممثّلي هيئات راعويّة واجتماعيّة.

 

بعد الإنجيل المقدّس، ألقى المطران مطر عظة قال فيها بحسب "الوكالة الوطنيّة للإعلام": "بمحبّة المسيح نحيّيكم جميعًا أيهّا الأخوة والأخوات الأعزّاء، ونتمنّى لكم من صميم القلب سنة مباركة جديدة تهدى إليكم نعمة من العلاء، وأن يتدفّق معها الخير ويحلّ فيها السّلام الّذي يريد الله أن يزيّن به الأرض، لو أنّ هذه الأرض تتقبّل أكثر ممّا تفعل، سلام السّماء. وإنّنا في هذه المناسبة الجميلة ننقل إليكم تحيّة قداسة البابا فرنسيس الّذي وجّه اليوم إلى المؤمنين في العالم، وإلى جميع النّاس من ذوي الإرادات الصّالحة نداء من أجل السّلام، والعمل على إحلاله في النّفوس كما في الرّبوع. وقد تمنّى قداسته أن يدخل سلامه لا إلى بيوت دون بيوت ولا إلى أمّة دون سواها، بل إلى البيت الواحد الّذي نسكنه جميعًا ألا وهو كوكب الأرض الّذي أهداه الله لجنس بشريّ مدعوّ إلى أن يكون موحّدًا بنعمة الأخوة لا ممزّقًا بفعل العداوة والبغض، إلى أشلاء إنسانيّة وشتات شعوب. وإنّ قداسة البابا يدعو كلّ واحد منّا، إلى العمل من أجل السّلام، وإلى نشره من حولنا وإلى أقاصي الأرض. وهو بذلك يرجع كلمة الرّبّ يسوع القائل في إنجيله الطّاهر طوبى لفاعلي السّلام فإنّهم أبناء الله يدعون. فإنّ دورنا لا يتوقّف عند تقبّل السّلام وكأنّه هديّة خارجة عن ذاتنا، بل هو فعل إيجابيّ يرتكز في داخلنا على المحبّة الّتي نحبّ بها إخوتنا، وعلى الغفران الّذي نمارسه نحوهم، وعلى المثل الصّالح في رفض التّناحر والتّخاصم معهم، فيتسنّى لهذه المواقف أن تخلق فينا أجواء سلاميّة ننعم فيها بفرح العيش معًا وبالتّعاون على تأمين سبل الحياة بكرامة للجميع. إنّ أهل السّلام هم المتصالحون أوّلاً مع الله، وهم المتصالحون أيضًا مع ذواتهم، الّذين يقبلون كلّ نعمة من ربّهم بشكر وامتنان فلا حقد عندهم ولا حسد ولا كبرياء. وهم كذلك المتصالحون مع الآخرين فلا يريدون السّيطرة عليهم ولا استغلال أشخاصهم ولا أموالهم، بل يكتفون معهم بفعل الأخذ والعطاء، ضمن حدود العدل والمساواة. هذا هو السّلام الاجتماعيّ الّذي يمكننا أن نسعى إلى تثبيته بالإرادات الطّيّبة وبالتّربية على القناعة واحترام الآخر. لكن الأمر يصبح أكثر صعوبة وأشدّ تعقيدًا عندما نصل إلى السّلام السّياسيّ الّتي تتعاطاه السّلطات العامّة في نسجها للعلاقات بين الدّول والشّعوب.
في هذا المجال يتوسّع البابا ضمن رسالته مسلّطًا الضّوء على دور أهل السّياسة وعلى مسؤوليّتهم الكبرى في عمليّة إرساء السّلام والحفاظ عليه. فيقول قداسته وبكلّ بساطة ووضوح أنّ العالم يعرف نوعين من السّياسة، هما السّياسة الجيّدة والمباركة والسّياسة الفاسدة والمفسدة للعلاقات بين البشر. أما السّياسة الجيّدة فهي تشكّل تحدّيًا إيجابيًّا للّذين يتلقّون التّفويض من شعوبهم للخدمة العامّة. فيقع عليهم واجب حماية بلادهم والحفاظ على مواطنيهم وتهيئة الظّروف لمستقبل كريم وعادل لكلّ منهم. كلّ هذه الأمور لها ضرورتها القصوى في حياة الشّعوب. والسّياسيّ الّذي يقبل مثل هذا التّحدّي ويواجهه بنجاح يصبح منقذًا لوطنه وسندًا حقيقيًّا لشعبه. لذلك يشرح البابا أنّ هذه السّياسة الجيّدة تقدّر أن تصبح بالحقيقة شكلاً ساميًا من أشكال المحبّة، إذا ما تمّ تطبيقها في إطار الاحترام الأساسيّ للحياة والحرّيّة وكرامة النّاس. وفي هذا السّياق يكبر البابا العمل في الشّأن العامّ فيؤكّد أنّ الإنسان إذا ما استلهم المحبّة في السّياسة وأسس عليها فإنّه يسهم حقًّا في بناء مدينة الله الشّاملة، الّتي يسير نحوها مجمل تاريخ الأسرة البشريّة. ولقد أشار أيضًا في رسالته إلى التّطويبات الّتي سبق وأطلقها رجل دين كبير على كلّ رئيس مؤمن يدرك دوره إدراكًا عاليًا، فيعكس في شخصه صدقيّته، ويعمل من أجل الخير العامّ وليس لمصلحته الشّخصيّة، ويعرف كيف يصغي للنّاس ولا يخاف أن يتّخذ مواقف جريئة. بهذا المعنى قال أيضًا مفكّر كبير من لبنان أنّ الفرق بين رجل السّياسة ورجل الدّولة، هو في أنّ رجل السّياسة يعمل من أجل ذاته أمّا رجل الدّولة فإنّه يعمل من أجل وطنه وشعبه.
من هذا التّمييز بالذّات نستطيع الانتقال من عرض السّياسة البنّاءة إلى موضوع السّياسة السّلبيّة والهدّامة. هذه السّياسة، يقول البابا، تبنى على رذائل من شأنها أن تطيح بالأنظمة وصولاً إلى إطاحة الدّول نفسها. ومن هذه الرّذائل رذيلة الفساد في أشكاله العديدة، من اختلاس المال العامّ أو استغلال النّاس وحرمانهم من الحقوق، وعدم احترام القواعد الجماعيّة والاغتناء غير القانونيّ وتبرير السّلطة بالقوّة والميْل إلى البقاء في الحكم السّنوات الطّوال والاستعمال غير المحدود للموارد الطّبيعيّة بهدف الرّبح الفوريّ. ومن الآفات المعروفة والنّاجمة عن هذه السّياسة الفاسدة عدم إدخال عنصر الشّباب الّذي يقدر على تجديد الحياة ومواصلة استمرار الإيجابيّات في العمل العامّ، فيستند الحكّام الفاسدون ليستمرّوا، على تخويف النّاس وعلى توازن القوى بين المتخاصمين فيما المطلوب هو إنقاذ الشّعب والتّوكّل على روح المحبّة الّتي تجمع النّاس ولا تلغيهم.
إنّ طريق الخلاص وإحلال السّلام في الرّبوع لا يمرّان عبر السّياسة الفاسدة بل بفعل السّياسة الّتي تعتمد المزايا الإنسانيّة الرّفيعة وتضعها في خدمة العدل واحترام حقوق الإنسان وقبول التّنوّع في الوحدة، إلى أن يتمّ لنا جميعًا ملكوت الله. ونسأل بعد ذلك عن السّلام في منطقتنا المعذّبة الّتي أخضعت لمصالح الدّول بشكل سافر وعلى حساب أبناء الأرض الّذين شرّد قسم كبير منهم في الآفاق. ولنقل الأمور بصراحة في ما يتعلق بهذا الشّرق الحزين. فإنّ المذاهب فيه كانت على مئات من السّنين عرضة للمظالم من قبل بعضها البعض. واليوم إذا تمادى البعض في ردّ المظالم على أصحابها- دون غفران لمآسي الماضي- فإنّ هذه الحلقة المفرغة ستدور دورتها مستقبلاً والظّالم الجديد قد يصبح مظلومًا كما كان وهكذا إلى ما لا نهاية. أمّا الحوار العقلانيّ، والمصالحة من أجل مستقبل مقبول لجميع النّاس، فيمكن أن يفتحا أمامنا واسعًا باب السّلام، وإلّا بقينا نتصارع جلّادين وضحايا، ومن ثمّ ضحايا وجلّادين، بدون أمل بالولوج إلى سلام الحياة وكرامة التّاريخ.
أمّا عن لبنان العزيز، وفيما نحن نفتش عن حكومة جديدة تؤلّف لبلادنا بعد سبعة أشهر من هدر الفرص وتغييبها عن ذواتنا، لا يسعنا سوى التّفكير بأن الشّراكة الحقيقيّة الّتي يسعى كلّ منّا بهديها إلى الرّضى والمحبّة المتبادلين، هي الّتي تنقذ بلادنا من محنتها وتوصلها إلى شاطئ السّلم والأمان. فإنّنا ندعو في مطلع هذا العام الجديد إلى أن يضحّي اللّبنانيّون بعضهم في سبيل بعض أكثر ممّا يفعلون، وسوف يكون من العيب الكبير على المسؤولين إذا لم يقوموا هم أوّلاً بالتّضحيات المطلوبة. فنحن عائلة وطنيّة واحدة، ومصيرنا مشترك، وعلينا أن نبنيه بأنفسنا، وإنّ غيرنا لن يبني لنا أبدًا مثل هذا المصير. فلنحترم رسالة لبنان في العيش المشترك السّليم الّذي تميّزنا به. إنّها حقًّا رسالة كبرى، بجمعها الأديان والطّوائف في كيان واحد ومسؤوليّة مشتركة. وفي نجاحها يكون خلاص للحضارة الإنسانيّة في توفيقها بين الوحدة والتّنوّع ضمن كيانات وطنيّة جامعة. فإن قمنا جميعًا بالتّضحيات المطلوبة في سبيل لبنان نجحنا، وإلّا فإنّنا جميعًا خاسرون.

نحذّر من ضياع هذه الرّسالة النّبيلة، ومن سقوطها من أيدينا. وحذار الاستمرار في هذا التّقاعس وإلّا نحن غافلون عن الأخطار الّتي تنجم عن مثل هذا التّصرّف الّذي لا يمسّ كرامة لبنان وحسب بل أيضًا جوهره ووجوده. ففي مطلع هذه السّنة الجديدة نصلّي معكم، أيّها الأحبّاء، سائلين الله نعمة التّوافق الشّامل من أجل لبنان. وليكن أوّل عمل يقوم به مسؤولونا في هذا الأسبوع الطّالع من السّنة هو تأليف الحكومة المنتظرة. فهي خير فرصة تعطى لرجاء جديد من أجل وطننا. فلنتوسّل رضى الله عنّا وعن مسؤولينا ورضى التّاريخ الّذي يحاسب ويدين. وكلّ عام ولبنان بخير، والسّلام يزيّن ربوعه، فنصْعد لله شكرًا من أجله لا ينتهي، فله الحمد والتّمجيد إلى أبد الآبدين. آمين".