المطران فضّول: الوطنيّة تغلب رغم المصاعب وحلم إعادة البلد إلى سابق عصره يبقى قائمًا
بهذه الكلمات استهلّ راعي أبرشيّة سيّدة البشارة المارونيّة في أفريقيا المطران سيمون فضّول، عظته في قدّاس الميلاد الّذي احتفل به في رعيّة سيّدة لبنان واغادودو- عاصمة بوركينا فاسو، عاونه في خادمها الخوري فادي البستاني.
ثمّ تابع قائلاً: "في اللّاهوت:
اليوم يعيد الله كتابة تاريخ البشريّة بأحرفٍ خلاصيّة. فالميلاد محطّة وصول في تاريخ البشريّة الّتي كانت تعيش بانتظار المخلّص كما سمعنا في الرّسالة إلى العبرانيّين، والّتي تشدّد على أنّ الله كلّمنا بأشباه شتّى، ولمّا لم نفهم معنى تدخّله في تاريخنا أرسل إلينا ابنه الوحيد، بهدف استرجاعنا إليه.
والميلاد محطّة انطلاق لعلاقتنا مع الله، علاقة جديدة تختلف كثيرًا عمّا كانت عليه من قبل. هذا هو الطّفل الإلهيّ يطلُّ علينا اليوم ليصالح أرضنا مع سمائه، وإنساننا مع كيانه الإلهيّ. إنّه عمّانوئيل "إلهنا معنا"! اليوم أظهر الله وجهه لنا، وجه الأب المحبّ والرّحيم الّذي يهتمّ بكلّ أولاده.
الميلاد هو بداية تدبير الرّبّ الخلاصيّ الّذي يربط مغارة بيت لحم بقبر يسوع الفارغ. في مغارة بيت لحم وُلدَ إنسانًا، وفي أورشليم وُلدَ قربانًا. في بيت لحم بدأ مسيرته الإنسانيّة وفي أورشليم اصطحب الإنسان معه في مسيرته الإلهيّة. في بيت لحم أنشدت الملائكة المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام والرّجاء الصّالح لبني البشر، وفي أورشليم حلّ مجدُ السّماء على الأرض قاهرًا الموت ومرسّخًا حضارة المحبّة والسّلام والحياة الجديدة.
بالتّجسّد تخطّى الله منطق الشّريعة في كيفيّة التّعامل مع الإنسان، واستبدله بمنطق العلاقة المباشرة إذ أدخل الإنسان شريكًا في مشروعه الخلاصيّ. لم يعد مجرّد متلقٍّ بل أصبح مشاركًا بالقرار إن هو شاء التّجاوب مع دعوة الله له.
رائعٌ تواضع الله وامّحاؤه من أجل إنسانيّة أفضل! فالإبن الإلهيّ صار إنسانًا ليرفع الإنسان إلى الشّراكة في قدسيّة الحياة الإلهيّة وسعادتها! هذه المسيرة الانحداريّة الخلاصيّة عبر شجرة عيلة بشريّة بدأت بإبراهيم وعبرت بداود، تقتضي منّا نحن البشر، بقوّة النّعمة، مسيرة صعوديّة نحو الله بالمسيح يسوع المتجسّد.
كلّ الأجيال الّتي سبقت مجيء المسيح كانت في مسيرة شوق إليه وانتظار لمجيئِه. أمّا نحن الّذين عرفنا المسيح وآمنّا به، فمسيرتنا تنطلق منه وتعود إليه باستمرار بروح التّوبة والاستعداد الدّائم للتّغيير. من هنا نبدأ بفهم معنى عيد الميلاد بالجسد لاهوتيًّا وواقعيًّا. فالمؤمنون "الحقيقيّون" من البشر، هم الّذين يترجمون إيمانهم بالرّبّ وميلاده وفصحه في يوميّاتهم، من صحوهم إلى نومهم. يترجمونه في السّياسة، في الاقتصاد والمال والأمن والعسكر...
أمّا في النّاسوت فالمسيح يعيش معنا واقع الحياة الأليمة والمعقّدة من فعل بني البشر أنفسهم. في ميلاد 2021، يصير الرّبُّ إٍنسانًا، فيشارك الإنسان أفراحه وأحزانه، نجاحاته وسقوطه؛ يشاركه قلق مواجهة مفاعيل "كوفيد - 19" و"متحوّر دلتا وأوميكرون"؛ ويشاركه مخاوفه من الكوارث الطّبيعيّة، والحروب والأحقاد والإرهاب الّذين لم يتوقّف، وأحيانًا بإسم الله والدّين.
يحلّ الميلاد هذا العام ولبنان الكبير يعاني الأمرّين، اقتصاد مدمّر، عاصمة تلملم جراحها، عائلات تعيش مآسي انفجار المرفأ، مصابون يتحمّلون آلام جراحهم، مواطنون يجوعون ويحلمون بالهجرة، مصارف على شفير الإفلاس، جنى عمر الشّعب ضاع، دولة تفقد هيبتها ودويلة تسيطر عليها بغطاء رسميّ.
في ميلاد 2021 نعاينُ يسوع طفلاً يعاني الجوع والفقر والمرض والبَرْد نتيجة الأزمات الاقتصاديّة الّتي تركت آلاف المُعيلين من دون عمل وإنتاج.. يولد يسوع ليتشوّه مع الّذين شوّههم انفجار مرفأ بيروت، وليحترق مع الّذين أكلتهم النّيران. يولد يسوع ليعيش مآسي العائلات الّتي لا تتمكّن من إيجاد ملجأ لها، أدوية لمرضاها، ولا حتّى قوتَها اليوميّ. يولد ليجد الوعد بمستقبل مدلهم وغامض لأطفال لبنان.
ولكن، على المقلب الآخر، في الميلاد أيضًا يولد يسوع في كلّ واحد منّا ويدعونا كي يجسّد كلّ منّا حضوره في حياة مجتمعاتنا، فننظر بعينيه لتنقشع الغيوم ونرى وجهه في وجه كلّ شريد وفقير ومتألّم ومريض. هو يدعونا كي نعمل بيديه فلا تعرف شمالنا ما صنعته يميننا. ويمسك بأيدينا لنسير معه درب الحبّ والخلاص فنمتلىء رجاء جديدًا. من مغارة الميلاد كان القبر الفارغ ظاهرًا نُصب عينيه، لكنّه عرف أنّها طريق الخلاص.
وهذا هو قدر الأوطان مثل لبنان. وسط كل الآلام، هناك فئة كبيرة وكبيرة جدًّا لا يُستهان بها، قرّرت الصّمود والتّصدّي والعودة إلى الأرض، مثلما عاش الأجداد ومكافحة كلّ الأزمات على اعتبار أنّ ما يمرّون الآن ليس إلّا نقطة في بحر النّضالات السّابقة وذلك كي يبقى لبنان منارة الشّرق. لأنّه إذا مرّت أزمة فلا يعني أنّه يجب هجر البلاد، بل إنّ الوطنيّة تغلب رغم المصاعب وحلم إعادة البلد إلى سابق عصره يبقى قائمًا.
تعالَوا نعيش فرح العيد معًا، وليضئ كلّ واحد شمعة حيث هو، فيشرق نور الخلاص على الجميع.
وُلد المسيح هلّلويا! وُلد لنا مخلص هلّلويا!
لنولد من جديد بالأمل والرّجاء هلّلويا!".