المطران طربيه يختصر الأب ميلاد القزيّ في وداعه بملامح ثلاث: البساطة، التّسليم والرّسالة
شارك في القدّاس قنصل لبنان العامّ في سيدني شربل معكرون، ورئيس مركز مار نعمة الله الحردينيّ، ورهبان وراهبات وأقرباء الرّاحل.
للمناسبة، كانت عظة للمطران طربيه ألقاها تحت عنوان "من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني"، فقال:"بروحيّة الاتّباع الّتي دعانا إليها الرّبّ يسوع في إنجيل اليوم، وبقوّة الرّجاء المسيحيّ الّذي يفتح عيوننا دائمًا على الحياة الأبديّة، نلتقي هذا الصّباح، في هذه الكنيسة المباركة، كنيسة القدّيس شربل لا لنودّع، بل لنتأمّل بحياة الأب ميلاد القزّي الّذي لبّى نداء الرّبّ فكفر بنفسه وكرّس ذاته، حاملاً صليب الحياة الرّهبانيّة دون تردّد أو تململ، بل عاش حياة صلاة وتواضع وخدمة رعويّة وعمل وتربويّ وتعليميّ، واضعًا نصب عينيه غاية الدّعوة الرّهبانيّة الأولى، ألا وهي الشّهادة لملكوت الله على الأرض.
من منطلق الإيمان، لا يمكننا أن نفهم الموت إلّا بكونه تحرّر من أسر العالم بكلّ آلامه وصعابه، وانتقال إلى الحياة الأبديّة بواسطة سرّ المحبّة، بحسب قول يوحنّا: نحن نعلم أنّنا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأنّنا نحبّ إخوتنا.
إنّ الحياة الرّهبانيّة هي تكرّس للمسيح الّذي يصبح ألف حياة الرّاهب وياءها، البداية والنّهاية، الدّافع والهدف. ولهذا يموت الرّاهب كلّ يوم كمؤمن بسرّ للمسيح لكي يكون في حياته كما في مماته شهادة مسبقة للملكوت. إنّ الأب ميلاد القزّي الكاهن والرّاهب، الّذي نودّعه اليوم، انطبعت في ملامح وجهه ومحيّاه ملامح كثيرة ممّن حملوا نير الرّبّ وتكرّسوا له بوداعة وتواضع، ببساطة وامّحاء.
الأب ميلاد هو ابن بلدة الجيّة الشّاهدة والشّهيدة، وقد سطّر أبناؤها على مرّ السّنوات تاريخًا من البطولة والالتزام الرّوحيّ، ومن علاقة مميّزة مع الكنيسة وقد بنوا تلك العلاقة الرّوحيّة بوجهين، الأوّل تعلّقهم بالقدّيس شربل، والعذراء مريم سيّدة النّجمة شفيعتهم وحاميتهم، والثّاني بتكرّس عدد كبير من أبناء الجيّة وخصوصًا من عائلة القزّي في الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة الجليلة، لخدمة الله والقريب. المرحوم الأب ميلاد نشأ في قلب عائلة مؤمنة نهل منها أصول الإيمان المسيحيّ، فاختاره الله له شاهدًا ومكرّسًا في رهبانيّة القدّيسين وقد جذبه مثل القدّيس شربل، فانضوى إلى الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة، ودخل الطّالبيّة سنة 1960 في دير الرّوح القدس- الكسليك بعمر 13 سنة، وانتقل من بعدها الى مرحلة الابتداء في دير سيّدة النّصر غوسطا سنة 1962، وأبرز فيه نذوره الرّهبانيّة المؤقّتة سنة 1964، ونذوره المؤبّدة سنة 1968 في دير الرّوح القدس الكسليك، وتابع تحصيله اللّاهوتيّ والجامعيّ، وسيم كاهنًا في دير مار مارون- عنّايا سنة 1976. أتقن اللّغات العربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة وقد حصد من العلوم ما أهّله للقيام برسالة التّعليم في العديد من مدارس الرّهبانيّة، وقد نال الإجازة في اللّاهوت من جامعة الرّوح القدس- الكسليك، والإجازة التّعليميّة في الرّياضيّات من الجامعة اللّبنانيّة، وجامعة السّوربون في باريس.
ثلاثة تختصر ملامح حياة الأب الحبيب ميلاد، بساطة العيش، تسليم لمشيئة الله، وروح الرّسالة. إنّ الأب الرّاحل عاش حياته الرّهبانيّة ببساطة دون ادّعاء، مرّ بين إخوته الرّهبان في الأديار طيف سلام ومحبّة، فأحبّه الجميع. وحيثما أوفدته الرّهبانيّة مارس الخدمة الكهنوتيّة بكلّ وداعة وعلى قدر ما قسم الله له، أحبّه الجميع وبادلوه الإكرام والاحترام والتّقدير. لقد عاش الأب ميلاد كهنوته ساعيًا للاتّحاد بالمسيح الكاهن الأوحد، وزيّحه على يديه، وأعلن سرّه بشفتيه، وتكرّس له في قلبه وبكلّ كيانه. وبين تكرّسه الرّهبانيّ وخدمته الكهنوتيّة واظب خلال مرحلة طويلة على التّعليم رسالة في حياته، فعلّم الرّياضيّات في مدارس الرّهبانيّة، في المدرسة الوطنيّة- شكّا، ومدرسة سيّدة مشموشه، والمدرسة المركزيّة، ومدرسة القدّيسة رفقا المجّانيّة للمهجّرين، فكان في الوقت عينه معلّمًا للإيمان ممارسًا لرسالة التّعليم والتّعليم المسيحيّ زهاء عشرين سنة.
إنّ الرّاحل عاش رسولاً وأحبّ الرّسالة وقد صرف السّنوات الخمسة عشر الأخيرة من حياته في هذا الدّير وقد عايشته ردحًا من الزّمن كرئيس لهذه الرّسالة وكأسقف أيضًا، وعرفت طيبته ومحبّته وبساطة حياته. لقد كان الأب ميلاد، كاهنًا محبًّا غيورًا مندفعًا للخدمة الرّعويّة وعلى استعداد تامّ لتلبية أيّة حاجة رعويّة دون سؤال، ورغم كثرة الحاجات الرّوحيّة في هذه الرّعيّة، ما سمعته مرّة يقول أنا تعبان أو مشغول. وقد كان خير معاون لي في الشّؤون الإداريّة لدير مار شربل لمدّة ثلاث سنوات، وقد قام بعمله بدقّة وإخلاص. وأسمح لنفسي أن أقول بأنّ الأب ميلاد عاش نكران ذاته في حياته الخاصّة، وكان يرفض أن يتكلّم عن مشاكله الصّحّيّة أو زيارة الطّبيب إلّا بعد إلحاح كبير.
إنّه وإن غادرنا باكرًا، لكنّه اختصر المسافات واجتاز الزّمن ليلاقي وجه حبيبه يسوع، وليبلغ مع الآباء فرح الملكوت، تشفع به صلوات إخوته الرّهبان القدّيسين ولاسيّما القدّيس شربل الّذي اتّخذه شفيعًا والقدّيس نعمة الله، وقد أمضى سنواته الأخيرة في كنف رعايته في أبن.
أرقد بسلام أيّها الأب الحبيب، وليمسح الله كلّ دمعة من عينيك، ويقبل قرابين حياتك الرّهبانيّة وخدمتك الكهنوتيّة ورسالتك التّعليميّة ويضمّك إلى جموع القدّيسين بشفاعة العذراء أمّ الله، ومار شربل والقدّيسة رفقا ومار نعمة الله والطّوباوي الأخ إسطفان.
بإسمنا الشّخصيّ وبإسم أبرشيّة مار مارون أستراليا كهنة ومكرّسين ومؤمنين، وبإسم جميع الحضور، نتوجّه من الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة بشخص رئيسها العامّ الأباتي نعمة الله هاشم ومن مجمع الرّئاسة العامّة ومن رئيس وجمهور دير مار شربل- بانشباول، ومن رئيس وجمهور مركز مار نعمة اللّه أبن ومن آل الرّاحل الأب ميلاد القزّي وجميع أبناء بلدة الجيّة بأسمى تعابير العزاء والرّجاء يفيضها الرّوح القدس في قلوبهم، سائلين الرّبّ أن يعطينا صدق الشّهادة والالتزام مؤمنين ورهبانًا وكهنة ليتمجّد المسيح في حياتنا وفي مماتنا، وأن يعطي للكنيسة وللرّهبانيّة دعوات مقدّسة تواصل تجسيد القيم الإنجيليّة والكهنوتيّة، مردّدين مع بولس الرّسول: الحياة لي هي المسيح، والموت ربح لي".
يُذكر أنّ جثمان الأب ميلاد القزّي سينقل إلى مسقط رأسه في الجيّة.