لبنان
29 كانون الأول 2021, 07:30

المطران سويف: لبنان بأمسّ الحاجة إلى الولادة الجديدة

تيلي لوميار/ نورسات
في رسالته الميلاديّة، دعا رئيس أساقفة طرابلس المارونيّة المطران يوسف سويف إلى السّير معًا والسّجود للطّفل الإلهيّ، فقال معايدًا:

"أيّها الأحبّاء، أتقدّم منكم جميعًا بمناسبة عيد ميلاد الرّبّ بالجسد بأحرّ التّهاني ضارعًا إلى الطّفل الإله لأجلكم ومعكم لأجل لبنان كي تتحقّق فيه الولادة الجديدة.

أودّ في هذه الرّسالة وفي الإطار الميلاديّ، أن أتوقّف معكم على الاختبار السّينودسيّ الّذي نعيشه اليوم في الكنيسة. فالسّينودس يعني أن نسيرَ معًا، فينتبه الواحد للآخَر وهو في الطّريق، يبحث عن معنى الحياة ويسير نحو الهدف، فيكتمل المعنى ويتحقّق بالمسيح يسوع الّذي هو الطّريق والحقّ والحياة (يو 14: 6)، هو الّذي منحنا نعمة الحياة الأبديّة بتجسّده وموته وقيامته. فلا نسيرنَّ بعزلةٍ الواحدُ عن الآخر. نحن وُلدنا شعبًا- جماعةً- كنيسةً من رَحَمِ المعموديّة. ففي مسيرتنا هذه نلتقي بأخينا الإنسان الّذي نتّكئ عليه فنعبر من الـ"أنا" إلى الـ"نحن"، فنسجدَ للطّفل الإله مخلّص العالم ونشكر ونسبّح باري العالمين. والكنيسة منذ مولدها هي سينودسيّة، تستمدّ قوّتها من راعي الرّعاة الّذي يسير معنا في الطّريق فيكون في بداية المسار وفي وسطه وفي نهايته، يرافق ويسهر، يشدّد ويجدّد إذ هو النّور والضّابط الكلّ وهو الخادم والمعلّم الّذي يقودنا إلى واحات الرّجاء والحياة.  

مسيرتنا هي كَسَهر الرّعاة وترقّبِهم للبُشرى السّارّة من الملائكة، وكالمجوس الّذين يقودهم النّجم الّذي ينير السّائرين في الطّريق ويوصلهم إلى لقاء النّور الأزليّ. فالرّعاة هم شعب العهد والمجوس هم الأمَم الّذين لم يتعرّفوا بعد على الله. جماعتان وثقافتان تلتقيان عند باب المغارة، يوحّدهما يسوع الكلمة المتجسّد والمُرتَفِع على الصّليب الّذي جمع الكلّ في قلبه المحبّ.  

السّينودس هو أن نسير معًا جماعةً مؤمنة تنفتح على كلّ الشّعوب والثّقافات وتتوجّه نحو الحبّ والحقّ، الحقّ الّذي يحرّر والحبّ الّذي يحترم التّنوّع والخصوصيّة. فكلّ امرءٍ هو مخلوق على صورة الله ومثاله. الله صار إنسانًا واسمه عمّانوئيل، طفلٌ وُلِدَ في مذود ليشاركنا بشريّتنا ويرفع ضعفنا ويحيي موتنا. "وُلد لنا اليوم مخلّص وهو المسيح الرّبّ" (لو 2: 11) إبن داود وإبن العذراء.

المسيرة السّينودسيّة في روحيّة الميلاد شخصيّة هي وجماعيّة، فيتكامل الشّخصيّ بالجماعة، إذ لا يمكن عيش هذه المسيرة من دون الآخر. فيها نتعاضد ونتضامن إنسانيًّا وروحيًّا حتّى نصل إلى ملء قامة المسيح.  

في هذا المناخ أدعو أبناء الأبرشيّة إكليروسًا وعلمانيّين، أفرادًا وعائلات، أخويّات ومنظّمات رسوليّة وجمعيّات أهليّة للدّخول في ديناميّة هذا الحدث الكنسيّ بعمقٍ وجدّيّةٍ وفرح، فنلبّيَ نداء قداسة البابا فرنسيس، من خلال عيش الشّركة والمشاركة والرّسالة.

أوّلًا: الشّركة

طبيعة الكنيسة هي شركة، على مثال شركة الحبّ الثّالوثيّة. ففي كلّ مرّة نقع في تجربة الانقسام والتّشرذم، تُجرَح الشّركة في قلب الكنيسة. بذلك، نخون دعوتنا كشهودٍ حقيقيّين للكنيسة الواحدة، ونكون في الكذب والرّياء إذا قلنا أنّنا نحبّ الله ولا نحبّ إخوتنا (1يو 4: 20). تشكّل هذه الشّركة- الوحدة جوهر الاختبار المسيحيّ، وتحقّق رغبة الرّبّ حين صلّى في بستان الزّيتون ليلة فصحه: "كي يكونوا واحدًا، كما أنا وأنت أيّها الآب واحد" (يو 17: 21). هذه الشّركة هي العلامة المنظورة لمحبّة الله، الّتي تنمو في قلب الإنسان كالزّرع في التّربة الجيّدة (متّى 13: 8)، فتثمر محبّةً للقريب، تتجسّد بأعمال رحمةٍ ملموسة، كمريم الزّائرة تخدم نسيبتها أليصابات. تعالوا نتّجه نحو إخوتنا وأخواتنا الأكثر حاجة وجرحًا، ونحن في خِضَمّ أزمة لم يعرفها تاريخ لبنان الحديث، نمرّ في ظروفٍ قاسيةٍ وصعبةٍ بعيدةٍ عن كلّ منطقٍ إنسانيّ. تنمو هذه الشّركة وتثبت في الصّلاة أيّ في سماع صوت الرّبّ في عمق الأعماق، كيوسف أمام خدمته التّدبيريّة، في مناجاة ترتفع إلى الله ببراءة الأطفال وثقتهم هاتفين: أبّا أيّها الآب. تكمن ذروة الصّلاة في الإفخارستيّا حيث نتّحد بالثّالوث الأقدس وببعضنا البعض لنحتفل بسرّ الحياة ونتذوّق مسبقًا مائدة الحياة الأبديّة. فنذهب بسلامٍ من مائدة القربان إلى موائدَ المشاركة الإنسانيّة بحضورنا في قلب العالم.  

ثانيًا: المشاركة

بتجسّد الكلمة ابن الله، شارك المسيحُ الإنسانَ إنسانيّتَه بكلّ أبعادها، إذ شابهنا بكلّ شيء ما عدا الخطيئة (عب 4: 14). وتُتَرجَم هذه الشّركةُ من خلال مشاركة بعضنا البعض في الاختبارين الرّوحيّ والإنسانيّ، في نهج الحياة هذا، يتحرّر الإنسان من محوريّة الـ"أنا" الكريهة والقاتلة ليكتشف جمال الـ"نحن" وغناها، فيعمل على تطوير ذاته وإنضاج إنسانيّته بهدف وضعها في خدمة الجماعة، الّتي تصل إلى بذل الذّات، تعبيرًا عن الحبّ الأعظم (يو 15: 13). هذه المشاركة تعبّر بدورها عن طبيعة عمل الكنيسة ورسالتها، حيث هناك دورٌ للجميع، كلٌّ حسبَ موهبتِه، في سبيل إنماء الجسد (1 كور 12: ) ورأسُه يسوع.

أشجّعكم في هذه المسيرة السّينودسيّة على تنمية فضيلة الإصغاء للآخر وقبول الاختلاف والتّنوّع باتّباع الحوار نهجًا والانفتاح سبيلاً، بهدف اكتشاف الغنى الّذي سكبه الله في كلّ إنسان. يتطلّب هذا الموقفُ الشّجاع تواضعًا جريئًا وتغييرًا في الذّهنيّة حيث نتوصّلُ الى تثمين العمل الفريقيّ بروحٍ جماعيّة، مُبتعدين عن المزاجيّة والارتجال، وواضعين كلّ ما وهبنا الله إيّاه من خيراتٍ ماديّةٍ وروحيّة وإنسانيّة وفكريّة في سبيل الخير العامّ. هذه هي روحيّة الجماعة المسيحيّة الأولى الّتي جدّد المجمع الفاتيكانيّ الثّاني ثوابتها، ويطرحها لنا اليومَ السّينودس كخَيارٍ استراتيجيّ يعبّر عن حقيقة الكنيسة الشّركة والمشاركة، "وكان كلّ شيء مشتركًا فيما بينهم" (أع 2: 44). من هنا، أُرسِلَتِ الجماعة المؤمنة لتعلنَ البشرى السّارّة لجميع الشّعوب.

ثالثًا: الرّسالة

كما انطلق الرّعاة وهم يسبّحون الله بعد سماعهم البشرى من الملائكة بفرحٍ عظيم ورؤيتهم للطّفل الإلهيّ (لو 2: 20)، كذلك تنطلق الكنيسة مُرسَلةً إلى العالم لتحمل بشرى الخلاص لكلّ إنسان. فالسّماع لكلمة الله واختبار الشّركة الكنسيّة يحوّلان المؤمن إلى مبشّر داخل الجماعة المؤمنة وخارجها. ففي الدّاخل تتحقّق الأنجلة المتجدّدة في العالم المعاصر، عبر إصغاءٍ هادئٍ لإلهامات الرّوح ولبعضنا البعض، وفي قراءةٍ واقعيّة لعلامات الأزمنة؛ وفي الخارج ينطلق المؤمن ليوصل البشرى المُفرحة الى كلّ إنسان فتشمل الخراف الّتي "ليست من الحظيرة" (يو 10: 16). وبهذه الرّوحيّة تنفتح الكنيسة وتتواصل مع كلّ المجتمعات والثّقافات لتحيا في روح "الأخوّة الإنسانيّة" بعيدًا عن همّ الاقتناص والتزامًا جدّيًّا في صون كرامة الإنسان. فيسوع وُلِد هنا وأيضًا هناك. لقد اعتدنا نحن على الـ"هنا" فتعالوا نذهب إلى الـ"هناك". هناك حيث الفقير والمنبوذ والمهمّش والمظلوم من جرّاء كبرياء بعض وُلاةِ هذا العالم الّذين باعوا ضمائرهم وحوّلوا الإنسان الى سُلعةٍ يتاجرون بها. تعالوا نذهب إلى الـ"هناك" حيث تُنتَهَكُ الحرّيّة وتُسلَبُ الكرامةُ الإنسانيّة فتولَدُ جماعات مُهَجَّرة ومهاجِرة، عددٌ كبيرٌ منها يموتون وهم يسيرون في الطّريق. وأمام هذا الوجع والألم نرى كمًّا هائلاً من اللّامبالاة واللّاإنسانيّة.  

أيّها الأحبّاء، نحن نعيش جوهر الميلاد عندما نُرسَل إلى هؤلاء الإخوة والأخوات وهم ليسوا ببعيدين عنّا، إنّهم في قلب مجتمعنا، فتعالوا نسجد ليسوع بانحنائنا نحوهم نضمّد جراحهم فنُشفى من جراحنا.

إنّها الرّسالة الّتي دُعينا إليها جميعًا حتّى يكتمل معنى الشّركة والمشاركة في اختبارنا الإيمانيّ والإنسانيّ، فندخل في فرح الإنجيل ومتعة المشاهدة الإلهيّة.

أيّها الإخوة والأخوات،

ميلادُ هذا العام ونحن في المسيرة السّينودسيّة هو زمن نعمة، فيه نقوم بمراجعة حياتنا ونعمل بجدّيّة على التّوبة في الكنيسة والتّغيير في الوطن الحبيب لبنان حتّى لا تتشوّه هويّته فيخسر رسالته. لبناننا مسلوبٌ ومرهونٌ ومظلومٌ من الدّاخل والخارج، يدفع فيه المواطن الثّمن الأكبر من لحمه ودمه، من خبزه وحقّه في عيشٍ كريم. جرى كلّ هذا بسبب البُعد عن القِيَم الأخلاقيّة، الّتي تضمَنُ حقوق الإنسان وتحترمُ كلّ مواطنٍ ومواطنة في حقّهم الطّبيعيّ بعيشٍ لائق واستقرارٍ وسلام. فأين الضّمير وأين القِيَم في منظومة الحَوْكَمة الّتي عبثت بالخير العامّ وبالمصلحة الوطنيّة العُليا؟ أدعو الجميع لاسيّما الشّباب، منهم مَن هاجر ومنهم مَن بقي، أن تصنعوا التّغيير بقراركم وبأيديكم، وبروح التّمييز وبالعودة إلى محبّة الله وعيش القِيَم الإنسانيّة.  

تعالوا نسير معًا ونصلّي لطفل المغارة لأجل لبنان الّذي هو بأمسّ الحاجة إلى الولادة الجديدة. نصلّي ونعمل معًا لصمود الوطن والتّسلّح بالوعي والرّجاء وتجديد المحبّة والوحدة والانتماء لوطننا العزيز كي لا نخسر هذه الأرض المقدّسة وكي نبقى بتضامننا شهودًا ليسوع المسيح ملك السّلام، له المجد والسّجود والإكرام إلى أبد الآبدين."