المطران درويش: المسيحيّة هي حياة مع يسوع وليست مظاهر ولا كراسي
"في رسالة اليوم يخبرنا كاتب أعمال الرّسل في الفصل الحادي عشر، أنّ كنيسة أورشليم أرسلت برنابا إلى كنيسة أنطاكية ليشدّد عزيمة المؤمنين، فلمّا وصل هناك فرح لأنّه رأى نعمة الله في حياة هؤلاء. ويخبر الكاتب بأنّ برنابا كان رجلاً صالحًا وممتلئًا منَ الرُّوحِ القدسِ ومِنَ الإيمان.
هذه الصّفات الثّلاث الّتي كان يتمتّع بها برنابا، هي نهج حياة المسيحيّ المؤمن. فالله يريدنا أن نكون صالحين، ممتلئين من الرّوح القدس ومؤمنين.
سأتأمّل معكم في عظتي هذا النّهار عن النّقطة الأولى وهي الصّلاح، وللصّلاح معنيان الأوّل سلبيّ وهذا ما كان سائدًا في العهد القديم، أمّا الثّاني فهو صلاح إيجابيّ وقد وضع معاييره يسوع المسيح.
في العهد القديم كان الصّلاح نهيًا عن الأفعال وعن الخطايا: لا تقتل، لا تشتهي.. لا تسرق لا تفعل السّوء.. وليكون الإنسان صالحًا، عليه أن يحافظ على الوصايا وعلى العهد ويطبّق الشّريعة. وكان اليهود يربطون بين رضى الله والخطيئة أو المرض كما جاء في حادثة الأعمى منذ مولده، عندما سأله التّلاميذ: "يا مُعلِّمُ مَن أَخطأَ. أَهذا أَمْ أَبَواهُ حتَّى وُلِدَ أَعمى. أَجابَ يسوع. لا هذا أَخطأَ ولا أَبواه. لكنْ لتُظهَرَ أَعمالُ اللهِ فيه.
أو كما جاء في سفر أيّوب، الّذي أصيب بويلات كثيرة وأصبح مثالاً للصّبر وتحمّل الآلام، وكان يستنجد بالله، في كلّ مصيبة كان يتعرّض لها، وكأنّه يلقي التّهمة على الله في كلّ ما يحلّ به، والله كان يتدخّل كلّ مرّة ليفكّ الارتباط بين الصّلاح والخيرات الأرضيّة.
في العهد الجديد صار الصّلاح مع المسيح نقيًّا، فالله وحده الصّالح، كما جاء في الحوار مع الشّابّ الغنيّ، عندما أجاب يسوع هذا الشّابّ: "لا صالح إلّا الله وحده"، فكلُّ شيء بدونه غيرُ صالحٍ، وكلُّ شيء به ومن أجله يصيرُ صالحًا، فهو وحده الصّلاح المطلق.
نجد في حوار يسوع مع الشّابّ أنّ الغنى وحفظ الوصايا ليسا قاعدتين أساسيّتين للصّلاح، فما كان ينقص الشّابّ حتّى يكون صالحًا هو أن يتبع يسوع: "تعال اتبعني". إتّباع يسوع وحفظ كلامه هو بداية صلاح الإنسان.
الصّلاح يأتي من قلب الإنسان وما ننطق به بفمنا يعبّر عن قلبنا، وصلاح الإنسان يظهر بكلامه وأعماله، كما يقول الكتاب المقدّس: "فاض قلبي بكلام صالح" (مز45/1). وهذا ما يظهر في كلمات يسوع الحلوة في حواره مع السّامريّة ليجتذبها إليه.
المبدأ الأوّل في الصّلاح هو أن أعيش ما أقول. كثيرون هم الّذين يتكلّمون عن المبادئ ولا يعيشونها.. وكذلك عن الإيمان، نردّد كثيرًا أنّني إنسان مؤمن ولكن لا أفعل ما يطلبه الإيمان منّي.
المشكلة اليوم عندنا نحن المسيحيّين، هي أنّنا نتكلّم كثيرًا عن مسيحيّتنا لكنّنا بعيدون عن جوهر المسيحيّة. نتحدّث عن المحبّة ونحن لا نحبّ بعضنا البعض، نتحدّث عن الإيمان ونحن لا نؤمن، نحن في هذه البلاد أسوأ مثل لما جاء في الإنجيل، نكتفي بالقشور وبالمراسم والطّقوس. نتباهى بأنّنا نتبع يسوع.
المسيحيّة هي حياة مع يسوع وليست مظاهر ولا كراسي ولا من يجلس في الكنيسة قبل الآخر. تذكّروا الفرّيسيّ والعشّار من كان الصّالح بينهما؟ هل الفرّيسيّ الّذي كان يدّعي الصّلاح أم هذا الّذي اعترف بأنّه خاطئ.
المشكلة أيضًا فينا نحن رجال الدّين، نتحدّث كثيرًا في عظاتنا ومجالسنا وفي خطاباتنا وفي مطالبنا عن طائفتنا، المسيحيّة هي أبعد ما يكون عن الطّائفيّة، لم يُقَسّم المسيح الكنيسة إلى طوائف، بل أرادها موحّدة. أنا أظنّ وأعتقد بأنّنا طالما نستعمل اسم الطّائفة، فنحن لسنا بمسيحيّين، ولا نعرف صلاح المسيح، مهما علت مراكزنا. ولأنّنا طائفيّون صرت أفهم اليوم لماذا فشلنا في تغيير مجتمعنا، فطائفيّتنا أفسدت ملحنا وخميرنا، ولذلك نحن لسنا بصالحين، صرت أفهم أنّ نظامنا الطّائفيّ هو أبعد ما يكون عن صلاح الله.
الصّلاح ليس كلامًا نظريًّا ولا أقوالاً ولا شعرًا ولا فلسفة، إنّما هو حياة مع يسوع. الصّلاح هو أن أقبل رسالة المسيح وأعيش هذه الرّسالة.
الصّلاح هو أن أحيا بالإيمان وأن أعرف بأنّ الرّبّ يسوع حاضر في حياتي وفي تاريخي. لكن الإيمان وحده لا يكفي لأكون صالحًا! يقول الرّسول يعقوب في رسالة: "ماذا ينفع يا أخوتي أن يقول أحد إنّه يؤمن إن لم يعمل؟ أبوسع الإيمان أن يخلّصه؟ .. فالإيمان إن لم يقترن بالأعمال كان ميتًا في حدّ ذاته" (يعقوب 2/14-18). يسوع نفسه يعلّمنا ويقول لنا: "إفعل هذا فتحيا".
المبدأ الثّاني في الصّلاح هو أن أعيش في المحبّة.
يقول يوحنّا الرّسول: "من ثبت في المحبّة، ثبتَ في الله وثبت الله فيه" (1يو4/16). هذه الكلمات تُعبّر بوضوح عن أساس الإيمان المسيحيّ، ونحن لا نتصوّر المسيحيّة بدون محبّة، فبالمحبّة يستطيع المسيحيّ أن يعبِّر عن إيمانه وعن وجوده. ويسوع جمع وصيّتين معًا: محبّة الله ومحبّة القريب: "أحبب قريبك كنفسكَ".
معه لم تعد المحبّة وصيّة بل صارت منهجًا لحياتنا، وجوابًا على محبّة الله لنا: "الله أحبّنا أوّلاً" (يو4/10). ودعوة المسيحيّ، أن يحبّ كما يحبّ المسيح، وأن ينظر إلى الآخر ليس بعينيه فقط ولا بعواطفه، إنّما من وجهة نظر يسوع، فينظر ويرى بعيني المسيح ويتصرّف كما يتصرّف المسيح.
عندما تصير المحبّة حياة ومنهجًا لنا نحن المسيحيّين، آنذاك فقط نفهم معنى أن يكون الإنسان صالحًا. فالصّلاح شرط أساس لدخول ملكوت الله، وسعينا في هذه الحياة هو أن نسمع الله يقول لنا: نِعمًا أيّها العبد الصّالح الأمين، أدخل إلى فرح ربّك" (متّى 25/23)".