لبنان
17 تموز 2020, 08:45

المطران خيرالله في أربعين المطران بشارة: إنّه الفاعل الصّامت في حصاد الرّب

تيلي لوميار/ نورسات
لمناسبة مرور 40 يومًا على رحيل المثلّث الرّحمة المطران يوسف بشارة، رفعت أبرشيّة أنطلياس المارونيّة- الأحد- الصّلاة إلى الله لراحة نفسه، في قدّاس وجنّاز الـ40، في كاتدرائيّة القيامة- الرّبوة، قرنة شهوان.

خلال القدّاس، ألقى راعي أبرشيّة البترون المارونيّة كلمة تذكّر فيها المطران "الفاعل الصّامت في حصاد الرّبّ"، فقال نقلاً عن موقع الأبرشيّة الرّسميّ:

""إنّ الحصاد كثير أمّا الفعلة فقليلون. إسألوا إذًا ربّ الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده" (لوقا 10/2).

أعتقد أنّ هذا النّداء الإنجيليّ يلخّص مسيرة حياة الخوري والمطران يوسف بشارة ورسالته.  

من عربة قزحيّا جارة دير مار أنطونيوس والوادي المقدّس، لبّى يوسف بشارة دعوة الرّبّ يسوع ليكون من فَعَلَة الحصاد، وراح ينكبّ على التّنشئة على يد الآباء اليسوعيّين في الإكليريكيّة الصّغرى في غزير، ثمّ في الإكليريكيّة الكبرى في بيروت.  

ونظرًا إلى جدّيّته ومؤهّلاته أرسله مطرانه، بعد رسامته الكهنوتيّة سنة 1963، إلى باريس ليتخصّص في التّنشئة الكهنوتيّة وإدارة الاكليريكيّات على يد الآباء السّولبيسيان، بينما كان المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، مجمع تجدّد الكنيسة، منعقدًا في روما.  

عاد إلى لبنان سنة 1965 حاملاً في قلبه حلم تطبيق توصيات المجمع الفاتيكانيّ الثّاني في كنيسته المارونيّة من أجل تجدّدها المطلوب.  

وكرّس حياته وخدمته الكهنوتيّة والأسقفيّة لتحقيق هذه الغاية عبر أربعة محاور: التّنشئة الكهنوتيّة، الخدمة الكهنوتيّة الجماعيّة، التّعاون مع العلمانيّين، المجمع البطريركيّ المارونيّ والخدمة الأسقفيّة.  

1- في التّنشئة الكهنوتيّة

بدأ خدمته في التّنشئة الكهنوتيّة مُديرًا لإكليريكيّة مار أنطونيوس كرمسده التّابعة لأبرشيّة طرابلس (1965-1970)، ثمّ رئيسًا لها (1975-1977).  

في سنة 1977، وبعد أن كان البطريرك أنطونيوس خريش قد وضع في أولويّات بطريركيّته إعلاء شأن التّنشئة الإكليريكيّة واشترى مبنى الإكليريكيّة في غزير من الآباء اليسوعيين ليكون مشتل الكهنة الجدد ومؤسّسة بناء مستقبل الكنيسة، اختار الخوري يوسف بشارة، على أنّه الأنسب والأكفأ، رئيسًا لها ليتولّى ورشة إعادة بناء التّنشئة بشرًا وحجرًا بعد تعثّرها لأسباب كنسيّة بين 1972 و1976.  

ونظرًا إلى خطورة المسؤوليّة، تأنّى الخوري بشارة في اختيار فريق الكهنة، ومنهم من كان قد عمل معهم سابقًا. وهم: يوسف ضرغام، بولس الفغالي، نبيل العنداري، بطرس العلم، بيار أبو حبيب، مارون العمّار. وكنت أنا آخر الملتحقين بهم بعد عودتي من باريس واختصاصيّ في التّنشئة الكهنوتيّة [1].  

2- في الخدمة الكهنوتيّة الجماعيّة

بعد عودته من باريس، وإلى جانب اهتمامه بالتّنشئة الكهنوتيّة، التزم حياة كهنوتيّة جماعيّة مع تجمّع كهنة الشّمال، وهم: هيكتور الدّويهي، آميل سعاده، يوسف ضرغام، فرنسيس البيسري، بولس الفغالي، حنّا نكد، وفرنسيس ضومط. وكانوا يلتقون في "المخافر" للصّلاة وتحضير عظات الأحد وتدارس وضع الرّعايا وكيفيّة تطويرها وتنشيطها ليتغذّى منها المؤمنون [2].  

ولكي يوسّع آفاقه وانفتاحه على الكنيسة، انتسب سنة 1976 إلى الرّابطة الكهنوتيّة الّتي كانت تضّم نخبة من الكهنة والأساقفة يعملون معًا على تجدّدهم وتجدّد كنيستهم على الصّعيد الكهنوتيّ واللّيتورجيّ والرّعويّ والثّقافيّ. وإلتقى فيها العديد من الكهنة الّذين كان يعمل معهم سابقًا. وإنتخب رئيسًا لها سنة 1983. وتأثّر بنوع خاصّ بالخوري مارون مطر ونهل الكثير من خبرته الرّعويّة وتعاون معه في الإكليريكيّة ثمّ في أبرشيّة أنطلياس.  

3- في التّعاون مع العلمانيّين

عُرف الخوري يوسف بشارة بانفتاحه على المشاركة مع العلمانيّين لقناعته بأنّ لهم دورًا في بنيان الكنيسة جسد المسيح كونهم "شركاء في وظائف المسيح الكهنوتيّة والنّبويّة والملكيّة فيما يمارسون رسالة الشّعب المسيحيّ كلّه في الكنيسة وفي العالم، كلّ حسب موهبته"، كما يعلّم المجمع الفاتيكانيّ الثّاني [3].  

لذا كان من مؤسّسي حركة كنيسة من أجل عالمنا الّتي انطلقت في حزيران 1966 بدرس واقع الكنيسة المارونيّة والعمل على تجدّدها في ضوء تعاليم المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، مع الخوارنة: حميد موراني، جورج اسكندر، هيكتور الدّويهيّ، بطرس الجميّل، يوسف ضرغام، منجد الهاشم. وإنضمّ إليهم سنة 1969 الخوارنة بولس مطر، سمير مظلوم وغي نجيم. وسنة 1971 قرّروا مشاركة بعض الكهنة والرّهبان والعلمانيّين نذكر ومنهم: الرّئيس شارل حلو، ميشال أسمر، سمير سركيس، أنطوان شدياق، الأمير عبد العزيز شهاب الّذي انتخب رئيسًا للحركة، جوزف زعرور، جوزف صقر، روبير فرحات، أنطوان نجم.  

وكانت أكثر اجتماعاتهم تعقد في دير مار ضومط للرّاهبات الأنطونيّات في رومية- المتن بضيافة الخوري حميد موراني. وحضّروا لمؤتمر بعنوان "كنيسة من أجل عالمن" عقد في 7-9 كانون الأوّل 1973 في دير راهبات الفرنسيسكان في بيروت شارك فيه 239 شخصًا بينهم 153 علمانيًّا. ثمّ أطلقوا سنة الرّجاء 1980-1981 الّتي تبنّاها مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان.  

4- أمّا المرحلة الحاسمة في حياة الخوري والمطران يوسف بشارة فكانت في إطلاق المسيرة المجمعيّة لتحضير مجمع لبنانيّ جديد.  

في تمّوز 1985، دعا الخوري يوسف بشارة بصفته رئيس الرّابطة الكهنوتيّة ورئيس الإكليريكيّة البطريركيّة، الخوري يواكيم مبارك، الّذي كان قد عاد إلى لبنان بعد غياب في فرنسا دام أربعين سنة ليطلق خماسيّته الأنطاكيّة المارونيّة، إلى إلقاء مواعظ الرّياضة الرّوحيّة لأعضاء الرّابطة في الإكليريكيّة البطريركيّة في غزير.

في الحديث الأخير، عرض الخوري مبارك مشروع حياته المنادي "بالإصلاح عن طريق مسيرة مجمعيّة تهيّئ لعقد مجمع لبنانيّ جديد كفيلٍ بإحداث نهضة في الكنيسة المارونيّة تعيدها إلى دور الرّيادة في حضورها العالميّ وشهادتها المشرقيّة" [4].  

وكانت له قناعات ثلاث:  

الأولى: أنّ لا إصلاح في الكنيسة إلّا عن طريق العمل المجمعيّ.  

الثّانية: أنّ لا إصلاح مجمعيًّا في الكنيسة من دون نهضة روحيّة وعودة إلى الجذور الإيمانيّة والينابيع الرّوحانيّة في قنّوبين.  

الثّالثة: أنّ عمل الإصلاح في الكنيسة المارونيّة يتحقّق عبر مؤسّستين، وهما المدرسة الإكليريكيّة حيث تتمّ تنشئة كهنة المستقبل، والرّابطة الكهنوتيّة الّتي تجمع أساقفة وكهنة يرعون شعب الله ويهيّئون أبناءه لتجدّد دائم.  

تلقّف الخوري يوسف بشارة، الّذي كان يجمع في شخصه رئاسة المؤسّستين، هذا المشروع إذ رأى فيه مناسبة لتحقيق الغاية الّتي كرّس لها حياته منذ عودته من باريس لأنّه يُلَبّي تمامًا طروحاته. فتشكّلت على الأثر لجنة كهنوتيّة سباعيّة برئاسة الخوري بشارة، وكنت أنا أمين سرّها، ما لبثت أن توسّعت إلى باحثين أساتذة في الجامعة اللّبنانيّة.  

رفع الخوري بشارة هذه المبادرة إلى البطريرك خريش فباركها قبل أن يقدّم استقالته، في 17 تشرين الثّاني 1985 بعد الاحتفال بتطويب الرّاهبة رفقا، إلى قداسة البابا يوحنّا بولس الثّاني، الّذي عيّن المطران ابراهيم الحلو مدبّرًا رسوليًّا، الّذي بدوره بارك مسيرة الإصلاح المجمعيّ، وأعلن في رسالة الصّوم: "لنجعل من كنيستنا ورشة عمل يتعاون فيها كلّ مؤمن أكان من الإكليروس أم من العلمانيّين... بتبنّي قرارات المجمع الفاتيكانيّ الثّاني وبانتظار أن ينعقد المجمع المارونيّ اللّبنانيّ الثّاني الّذي هو أمنية الجميع" [5].  

أمّا ما جعل البطريرك خريش والمطران الحلو يضاعفان ثقتهما بالخوري يوسف بشارة هو خبرته النّاجحة في التّنشئة الكهنوتيّة وفي العمل الجماعيّ مع الإكليروس والعلمانيّين الّتي تميّزت بإدارته الحكيمة، وروحانيّته المميّزة، وتواضعه العميق، والتزامه الكنسيّ الفاعل والصّامت، ونظرته البعيدة.  

وهذا ما لفت أنظار المسؤولين في الكرسيّ الرّسوليّ، فراحوا يتتبّعون عن قرب عمل الخوري بشارة.  

وعندما قدّم مجلس المطارنة عريضة إلى قداسة البابا يحتجّ فيها على تعيين مدبّر رسوليّ ويطالب بعقد مجمع لانتخاب بطريرك جديد، عرض الكرسيّ الرّسوليّ إمكانيّة تعيين عشرة مطارنة قبل انعقاد المجمع، وكان في رأس اللّائحة الخوري يوسف بشارة. ولكن المفاوضات الّتي قادها المطران نصرالله صفير مع الكرسيّ الرّسوليّ انتهت إلى انعقاد المجمع الانتخابيّ الّذي خرج منه المطران صفير بطريركًا في 19 نيسان 1986، واحتفظ الكرسيّ الرّسوليّ بتعيين مطرانين الأوّل يوسف بشارة لأبرشيّة قبرص- انطلياس والثّاني خليل أبي نادر لأبرشيّة بيروت.  

تسلّم المطران بشارة خدمته الأسقفيّة ودعا أبناء أبرشيّته إكليروسًا وعلمانيّين إلى المشاركة في "الورشة الرّوحيّة الكبرى" واعدًا بأن يكون "بينهم كالخادم" [6].  

وتابع التزامه بالمسيرة المجمعيّة عاملاً على إقناع البطريرك صفير بأهمّيّة هذا العمل المجمعيّ في رسم خطّة مستقبليّة للكنيسة المارونيّة وللبنان على أبواب الألفيّة الثّالثة. فقرّر سينودس الأساقفة في حزيران 1987 تشكيل اللّجنة المجمعيّة المارونيّة برئاسة المطران يوسف الخوري وعضويّة المطارنة يوسف بشارة وبشارة الرّاعي وجون شديد وكلّفها "درس الظّروف المؤاتية وتهيئة الأجواء لعقد مجمع مارونيّ عام لإعادة النّظر في الشّؤون الكنسيّة" [7].  

وقاد المطران بشارة الأعمال المجمعيّة بعد وفاة المطران يوسف الخوري إلى انعقاد المجمع البطريركيّ المارونيّ (2003-2006)، وبعده في مسيرة التّطبيق. وكان أوّل من دعا إلى عقد مجمع أبرشيّ لتطبيق توصياته.  

ومن كرسيه في قرنة شهوان قاد حركة وطنيّة ضمّت علمانيّين ملتزمين من كلّ الاختصاصات والاتّجاهات والانتماءات كان بعضهم يعمل في ورشة المجمع البطريركيّ وبخاصّة في النّصّ السّياسيّ.  

نال لقاء قرنة شهوان بركة البطريرك صفير وراح يتّخذ المواقف الجريئة للمطالبة مع الكنيسة بانسحاب الجيش السّوريّ من لبنان وباستعادة الحرّيّة والاستقلال النّاجز والسّيادة المطلقة وبقيام دولة الحقّ وحكم القانون.  

وفي موازاة ذلك، وضع كلّ خبرته وحكمته في خدمة أبرشيّة أنطلياس وحقّق فيها إنجازات كبيرة تابعها بعده خليفتُه المطران كميل زيدان الّذي سبقه إلى بيت الآب [8].  

رحل المطران يوسف بشارة بعد جهاد طويل تاركًا لأبرشيّته وكنيسته ووطنه إرثًا عريقًا يلخّص فكره وروحانيّته ونضاله ويتجلّى في نصوص المجمع البطريركيّ المارونيّ الّذي يرسم الخطّة المستقبليّة للكنيسة وللبنان والكفيلة بإحداث التّجدّد المطلوب على المستويات كافّة.  

وسيبقى في السّماء ساهرًا يصلّي معنا إلى ربّ الحصاد كي يرسل فعلةً إلى حصاده.        

ويوصينا بأن لا نفقد الرّجاء لأنّ "علامات الرّجاء تفوق بأهمّيّتها علامات القلق والإحباط واليأس"، وبأن نلجأ إلى مريم العذراء، لأنّ "البُعد المريميّ في كنيستنا يندرج في علامات الرّجاء، نظرًا إلى ما تحتلّه مريم من مكانة في الصّلاة المارونيّة اللّيتورجيّة والتّراث السّريانيّ اللّاهوتيّ، وفي العبادات الشّعبيّة" [9]. ويتابع القول: "تعلُّقُنا بمريم هو تعلُّقُ أبناءٍ بأمٍّ كان لها، ويجب أن يبقى، في كلّ قرية من قرانا معبدٌ أو مزار، وفي كلّ بيت من بيوتنا أيقونة ومقام، وفي كلّ قلب من قلوبنا تكريم واحترام" [10]."