لبنان
18 آذار 2025, 07:30

المطران ابراهيم من كنيسة القدّيس أندراوس- زحلة: الغفران يحرّر قلوبنا من ثقل المرارة

تيلي لوميار/ نورسات
تابع رئيس أساقفة الفرزل وزحلة والبقاع للرّوم الملكيّين الكاثوليك المطران ابراهيم مخايل ابراهيم جولته على رعايا زحلة في زمن الصّوم المقدّس، ومحطّته الخامسة كانت في كنيسة القدّيس أندراوس الرّسول في زحلة حيث شارك أبناء وبنات الرّعيّة صلاة النّوم الكبرى بحضور كاهن الرّعيّة الأب طوني الفحل، الأب طوني رزق، رئيس تجمع الصّناعيّين في البقاع نقولا أبو فيصل، الوكلاء وأهالي الرّعيّة.

وألقى ابراهيم عظة روحيّة، من ضمن سلسلة الرّياضات الرّوحيّة في الرّعايا، بعنوان "الغفران: كيف نحرّر قلوبنا من ثقل المرارة؟"، قال فيها: "الغفران هو أحد أصعب الفضائل الّتي يطلبها الإنجيل، لكنّه أيضًا من أعظمها قوّة وتأثيرًا. نحن جميعًا نواجه مواقف في حياتنا تجعلنا نحمل الجراح والمرارة تجاه الآخرين، ولكن المسيح يدعونا إلى التّحرّر من هذا الثّقل عبر الغفران. فكيف يمكننا أن نعيش هذه الدّعوة بصدق؟ ولماذا يعتبر الغفران ضروريًّا لنموّنا الرّوحيّ؟

يقول المسيح في تعاليمه: "إِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ، لَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ أَيْضًا" (متّى 6: 15). هذه الكلمات تظهر أنّ الغفران ليس خيارًا، بل شرطًا روحيًّا أساسيًّا. لكنّه ليس مجرّد فعل خارجيّ، بل هو حالة قلبيّة تحتاج إلى عمل نعمة الله فينا.

في اللّاهوت المسيحيّ، يُنظر إلى الغفران على أنّه تحرّر مزدوج: فهو يحرّر الشّخص الّذي يغفر، كما يحرّر الشّخص الّذي يُغفر له. القدّيس أغسطينوس يقول: "من يحمل المرارة والحقد في قلبه يشبه شخصًا يشرب السّمّ متوقعًا أن يموت الآخر". المرارة والغضب لا يؤذيان إلّا من يحملونهما، لذلك الغفران ليس فقط لصالح الآخرين، بل هو شفاء للنّفس.

هذه العبارة، رغم أنّها ليست نصًّا كتابيًّا مقدّسًا، تحمل في جوهرها حكمة روحيّة وإنسانيّة عميقة تتقاطع مع تعاليم المسيح والرّسائل الكتابيّة الّتي تدعو إلى الصّفح ونقاء القلب.  

فالقلب الّذي يختزن المرارة يشبه كأسًا ممتلئًا بالعلقم، يشرب منه صاحبه جرعة بعد جرعة، وهو يظنّ أنّه يسقي خصمه العذاب، بينما السّمّ يتغلغل في عروقه، يحرق وجدانه، ويأكل روحه كما تأكل النّار الهشيم. إنّه سجين جراحه، يرسف في أغلال الماضي، يتغذّى من ذكرياته الموجعة، فيتآكل من الدّاخل شيئًا فشيئًا، حتّى يصبح ظلًًّا باهتًا لإنسانيّته.

إنّ الإنسان الحاقد يعتقد أنّه بمعاداته للآخرين وسجنه لصور الإساءة في ذاكرته، يستطيع أن يعاقب من ظلمه. لكنّه في الحقيقة يسجن نفسه في دوّامة لا تنتهي من الألم. كلّ لحظة كراهيّة هي طعنة جديدة في قلبه، وكلّ ذكرى يستحضرها كأنّها جمر متّقد يزيد من أوجاعه، بينما الآخر قد يكون ناسيًا أو غير مبالٍ.

كما أنّ السّمّ لا يقتل إلّا من يشربه، كذلك الحقد لا يؤذي إلّا من يتمسّك به. أمّا الغفران فهو ترياق للنّفس، بل ماءٌ زلال يغسل القلب من شوائب الكراهيّة، فيصبح خفيفًا، قادرًا على التّحليق في فضاء الحبّ والسّلام. الغفران لا يعني التّهاون مع الظّلم، بل يعني التّحرّر من سلطة الماضي وعدم السّماح للجراح بأن تملي علينا مصيرنا.

علّمنا المسيح أنّ "المحبّة لا تسقط أبدًا" (1 كورنثوس 8:13)، وأنّ الغفران ليس ضعفًا، بل قوّة تحرّر الإنسان من قيود الشّرّ. المسيحُ غفر وهو على الصّليب، فهل هناك جرعة حبّ أقوى من هذه؟ إنّه يدعونا لا لنحمل الحقد، بل لنحمل صليب الحبّ، لأنّ الحبّ وحده يقتل الحقد، أمّا الحقد فلا يقتل إلّا صاحبه.

لك الخيار: إمّا أن تشرب كأس السُّمّ وتنتظر أن يتأذّى غيرك بينما الألم يأكلك، أو أن تسكب هذه المرارة عند قدميّ المسيح، لتملأ قلبك بنوره وسلامه. لا تدع الحقد يسرق منك نعمة الفرح، ولا تسمح لجرح الأمس أن يسرق منك رجاء الغد.

إختر الغفران، تنجو. اختر الحبّ، تحيا. لكن الغفران قد يبدو صعبًا. فكيف يمكننا أن نغفر لمن جرحونا بعمق؟ هنا يأتي دور الصّوم كزمن للتّحرّر الدّاخليّ، حيث ندرك أنّ الغفران ليس مسألة شعور، بل هو قرار إراديّ يُتّخذ بنعمة الله. المسيح نفسه، كما سبق وذكرت، غفر لمن صلبوه عندما قال: "يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لوقا 34:23). إذا كان المسيح قادرًا على الغفران حتّى في لحظة الألم، فكم بالحري نحن الّذين نعيش في نعمته؟

الغفران لا يعني إنكار الألم أو تجاهله، بل مواجهته بروح المسيح. البابا فرنسيس يقول: "الغفران لا يغيّر الماضي، لكنّه يفتح المستقبل". هذا يعني أنّ الغفران لا يمحو ما حدث، لكنّه يحرّرنا من أن نظلّ أسرى لما حدث. نحن نغفر لأنّنا نثق أنّ الله هو الّذي يقيم العدل، ولأنّنا لا نريد أن نعيش مقيّدين بأعباء الماضي.

لكن كيف نبدأ مسيرة الغفران؟ أوّلًا، يجب أن نصلّي من أجل القلب المجروح، طالبين من الله القوّة لنترك الأذى وراءنا. ثانيًا، يجب أن ندرك أنّ الغفران لا يعني دائمًا المصالحة الفوريّة، لكنّه يعني رفض الانتقام وترك الأمر بين يدي الله. ثالثًا، يمكننا أن نبدأ بخطوات عمليّة، مثل الامتناع عن التّحدّث بسوء عمّن أساء إلينا، والسّعي إلى رؤية الآخرين بعيون الرّحمة.

الفيلسوف المسيحيّ سي. إس. لويس يقول: "الجميع يعتقد أنّ الغفران فكرة رائعة، حتّى يكون هناك شخص يحتاج إلى أن يغفر له". هذا يذكّرنا أنّ الغفران ليس سهلًا، لكنّه ضروريّ. من خلاله، نتشبّه بالله الّذي غفر لنا ونحن غير مستحقّين.

الخاتمة:

الغفران هو أعظم فعل تحرير يمكن أن نقوم به في حياتنا. إنّه يجعلنا أكثر شبهًا بالمسيح، ويفتح قلوبنا لسلام داخليّ عميق. في هذا الصّوم، لنجعل من الغفران ممارسة يوميّة، طالبين من الله أن يعطينا نعمة التّحرّر من كلّ مرارة. لأنّنا عندما نغفر فإنّنا لا نمنح الآخرين فقط فرصة جديدة، بل نمنح أنفسنا أيضًا نعمة جديدة للحياة.    

فهل نحن مستعدّون لتحرير قلوبنا من ثقل المرارة؟ آمين."

بعد الصّلاة التقى المطران ابراهيم المؤمنين في صالون الكنيسة واطمأن إلى أوضاعهم.