المطران ابراهيم من سيّدة النّياح- الفرزل: نحن مدعوّون اليوم لنقتدي بمريم في صومها وصلاتها وصمتها وتواضعها
وبعد صلاة المدائح، كان للمطران ابراهيم كلمة مريميّة بعنوان "مريم العذراء: مثال الصّوم والصّلاة، أمّ الإيمان وسيّدة الخلاص" قال فيها:
"نقف اليوم أمام نموذج سامٍ في الإيمان والصّلاة والصّوم، أمام السّيّدة الّتي حملت في قلبها سرّ الله قبل أن تحمله في أحشائها، مريم العذراء، سيّدة الصّمت والصّلاة، سيّدة الهيكل والعزلة،
عندما نتأمّل في سيرة العذراء، نجدها منذ طفولتها مكرّسة للرّبّ، إذ نُذرت للهيكل لتعيش حياةً منقطعةً للعبادة، متمثّلة بمزامير داود، وبصلوات الأنبياء، وصوامع الأبرار. وكأنّها حملت في قلبها نبوءة إشعياء: "الرَّبُّ نَفْسُهُ يُعْطِيكُمْ هذِهِ الْآيَةَ: هَا إنَّ الْعَذْرَاءَ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتُسَمِّيهِ عِمَّانُوئِيلَ" (إش 7: 14).
في صمت الهيكل، تعلّمت مريم الإصغاء إلى صوت الله، فكانت حياتها صلاة مستمرّة، وصومًا دائمًا عن كلّ ما يبعدها عن مشيئة الله، إذ لم يكن صومها مادّيًّا فحسب، بل كان انقطاعًا عن كلّ فكر أرضي لا يمجّد الله، استعدادًا لقبول كلمة الحياة.
لقد كانت مريم النّموذج الأسمى للصّلاة، إذ صلّت لا بالكلمات فقط، بل بالصّمت العميق، ذاك الصّمت الّذي تحدّث عنه القدّيس يوحنّا الصّليب حين قال: "الله يُعرَف في صمت النّفس العميق أكثر ممّا يُعرف في ضجيج الكلمات."
في بشارة الملاك جبرائيل، لم تستعجل مريم الكلام، بل تأمّلت في معنى الرّسالة، حافظةً الكلمة في قلبها، كما يقول الإنجيل: "أمّا مريم فكانت تحفظ جميع هذه الأمور وتتأمّل بها في قلبها" (لو 2: 19).
في زمننا المليء بالضّجيج، يدعونا هذا الصّمت المريميّ إلى أن نهدأ، نصمت، ونتأمّل في عمل الله، تمامًا كما فعلت العذراء.
الصّوم ليس فقط التّوقّف عن الأكل، بل هو تطهيرٌ للذّات من الأنانيّة، وكسرٌ لقوّة الأنا من أجل الانفتاح على الله. مريم هي المثال الأسمى لهذا الصّوم، إذ صامت عن مشيئتها الخاصّة لتقول لله: "ها أنا أمة الرّبّ، فليكن لي بحسب قولك" (لو 1: 38).
إنّها الصّرخة الّتي جعلتها أعظم إنسانة في التّاريخ، لأنّها من خلال هذا الانسحاق وهذا الصّوم الكلّيّ عن الذّات، استحقّت أن تكون "ممتلئة نعمة" (لو 1: 28).
عندما نذكر مريم، لا يسعنا إلّا أن نذكر أمومتها للبنان: سيّدة الفرزل في بشارتها وفي نياحها، سيّدة زحلة والبقاع في شفاعتها، وسيّدة النّجاة التي حمت المسيحيّين في أحلك الظّروف. مريم هي الّتي وقفت عند الصّليب ثابتة كالصّخر، متمثّلة بما قاله بولس الرّسول: بِالصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ بِمَا فِي الْكُتُبِ يَكُونُ لَنَا رَجَاءٌ" (رو 15: 4).
وكما كانت سندًا للتّلاميذ بعد القيامة، هكذا هي اليوم، سندٌ لنا نحن الّذين نحيا في عالم تمزّقه الحروب والمآسي، فنجد فيها نموذجًا للصّلاة والصّبر والاتّكال على الله.
في صلاة المدائح سمعنا تسبحة تقول: "السّلام عليكِ يا سلاحًا لصدّ الأعداء غير المنظورين؟" هذه التّسبحة تعبّر عن دور السّيّدة العذراء في حماية المؤمنين من الشّياطين والقوى الرّوحيّة الشّرّيرة الّتي تعمل على إبعاد الإنسان عن الله. فالعذراء ليست فقط أمّ المخلّص، بل هي سلاح روحيّ قويّ يشفع للمؤمنين ويمنحهم العون في حروبهم الرّوحيّة، إذ إنّ ولادتها للمسيح هي الّتي أدّت إلى سحق الشّيطان وهزيمته. وكما أنّ الجنود يحتاجون إلى أسلحة مادية لصد الأعداء المنظورين، فإنّ العذراء تمثّل سلاحًا غير منظور يساعد المؤمنين في صدّ هجمات الشّرّ الرّوحيّ والتّجارب. فالكنيسة تكرّمها كحصن حصين وملجأ للمؤمنين، وتشير إليها الصّلوات بأنّها حماية أكيدة ضدّ الشّكوك والخطايا الّتي يثيرها العدوّ الخفيّ. لذا، عندما يُرفع السّلام إليها بهذه الكلمات، فهو إعلان عن دورها في المعركة الرّوحيّة، حيث تشفع للمؤمنين وتقودهم نحو النّصرة على قوى الظّلمة، مؤكّدين أنّ الالتجاء إليها يمنح القوّة والثّبات في مواجهة التّجارب.
لقد تكلّم كثير من الفلاسفة واللّاهوتيّين عن العذراء كسرٍّ إلهيّ يعبّر عن العلاقة بين الله والبشريّة. القدّيس أوغسطينوس رأى فيها صورة الكنيسة المؤمنة، وكتب عنها قائلًا: "لقد حبلت مريم بالإيمان قبل أن تحبل بالجسد." أمّا الفيلسوف اللّاهوتيّ هنري دو لوباك، فاعتبر أنّ مريم تمثّل التّلاقي بين السّماء والأرض، حيث تتجلّى الحكمة الإلهيّة في تواضعها، وصمتها، وانفتاحها الكلّيّ على الله.
أيّها الأحبّاء، نحن مدعوّون اليوم لنقتدي بمريم في صومها عن العالم، في صلاتها الّتي لا تنقطع، في صمتها الّذي يملأ القلب سلامًا، وفي تواضعها الّذي يفتح أبواب السّماء.
لنطلب شفاعتها، فهي الأمّ الّتي لا تتخلّى عن أولادها، سيّدة البشارة الّتي تهب الفرح، سيّدة النّياح الّتي تمنح السّلام، وسيّدة النّجاة الّتي تحفظنا في ظلّ حمايتها، وسيّدة زحلة والبقاع الّتي تظلّل السّهل والجبال وكلّ البقاعيّين.
يا مريم، علّمينا أن نصلّي مثلك، أن نصمت مثلك، أن نصوم مثلك، وأن نحيا كما عشتِ في الإيمان والرّجاء والمحبّة، آمين."
بعد الصّلاة انتقل الجميع إلى صالون الكنيسة حيث اطمأنّ المطران ابراهيم إلى أوضاع الرّعيّة.