المطران ابراهيم من باب مارع: لدينا في هذا الوطن إعاقة كبيرة هي التّعامل مع المال
وبحسب إعلام المطرانيّة، احتفل ابراهيم بالذّبيحة الإلهيّة في كنيسة القدّيس يوحنّا، عاونه فيها الآباء شارل شامية وشربل راشد، بحضور كاهن كنيسة السّيّدة المارونيّة في البلدة الأب جان بول كمال وأبناء البلدة.
وبعد الإنجيل المقدّس ألقى المطران ابراهيم عظة قال فيها: "جميل جدًّا أن تكون البلدة واحدة مهما تعدّدت الكنائس وتعدّدت المذاهب، ليس فقط من النّاحية الدّينيّة بل من النّاحية السّياسيّة والعقائديّة والفكريّة، هذه المشارب المتعدّدة يجب أن تكون قوّة جمع عوض أن تكون للتّفرقة والتّقسيم. ضياعنا على صورة بلدنا، صغيرة لكن قيمتها كبيرة، هذه قوّة لبنان الّذي لا يتباها بمساحته أو بعدد السّكّان أو بالحجم بل بصغره الّذي غزا الأرض على مدار الكرة الأرضيّة كاملة، حتّى غدًا من الصّعب جدًّا أن يبلغ الإنسان مبلغًا جغرافيًّا معيّنًا في هذه الكرة الأرضيّة دون أن يجد لبنانيًّا فيه. هذا البلد أصبح بلدًا غازيًّا، أصبحنا من الغزاة لكن من نوع آخر. الغزاة الّذين غزوا أرضنا وبلدنا كانوا فاتحين ومتجبّرين ومتحكّمين بأمور النّاس، كانوا أشخاصًا يسعون وراء المصلحة والغاية الّتي تخصّ بلدانهم، لأنّ لبنان على صغره هو أغنى بلد في العالم. ومن الصّعوبات على الفكر الإنسانيّ أن يفهم كيف أنّ هذا البلد الصّغير ممكن أن يكون أغنى بلد في العالم بخيراته الإنسانيّة أوّلاً وبثروته الفكريّة ثروة الأدمغة وهي حقيقيّة وهي في غاية الأهمّيّة.
عندما خدمت في الولايات المتّحدة الأميركيّة مدّة 12 سنة وفي كندا مدّة 18 سنة، كان اختباري أنّ الجالية اللّبنانيّة على مدار تاريخ وجودها في الولايات المتّحدة إلى بداية الحرب اللّبنانيّة، كانت تضاهي الجاليات الكبرى الموجودة هناك، وفي كندا نفس الشّيء، بدأنا في مونتريال سنة 1892 كرعيّة قانونيّة، واللّبنانيّ كان لا يعرف الصّعاب وكان لديه تصميم على إيجاد الفرص الّتي تجعله يعيش بكرامة وحرّيّة.
اليوم سمعنا في الإنجيل عن الشّابّ الغنيّ الّذي أتى إلى يسوع يسأله عمّا يفعل ليرث الملكوت، فقال له يسوع إنّه إذا أراد أن يكون كاملاً عليه أن يحفظ الوصايا فأجابه حفظتها منذ صباي، لكن كان لديه إعاقة كبيرة، نختبرها اليوم في هذا الوطن أكثر من كلّ الأوطان وهي التّعامل مع المال، التّعامل مع الغنى والثّروة الّتي تصبح سجنًا اختياريًّا لنا إذ لا أحد يلزم الإنسان أن يتعلّق بالمال بهذا الشّكل. الكثير من الأغنياء كانوا أحرارًا لأنّهم لم يتعلّقوا بغناهم، ولدينا أمثلة كثيرة في المسيحيّة منذ أيّام سيّدنا يسوع االمسيح لمّا مات على الصّليب أحد الوجهاء قدّم مدفنه الخاصّ وطلب من بيلاطس أن ينزله عن الصّليب "إنّ يوسف الوجيه أنزل من الخشبة جسدك الطّاهر" ، يوسف كان وجيهًا وغنيًّا وكان قبره منفصلاً عن باقي المدافن .
هناك أغنياء لديهم قلب وضمير، ليس بالضّرورة الغنى أن يكون علامة انصياع لمحبّة المال ولا بالضّرورة أنّ الفقر هو عنوان الحرّيّة أو التّحرّر لأنّ الفقير إلى المال أحيانًا يغتني بالكبرياء أو يغتني بمحبّة المال، يمضي كلّ حياته يحلم بأنّه في يوم من الأيّام سيصبح غنيًّا. هذا غنى بالرّغبة وهو أصعب أحيانًا من الغنى في الواقع، لذلك نرى أناسًا في كلّ أنحاء العالم يلعبون اللّوتو وألعاب الميسر بهدف الحصول على المال، وأصل الشّرور هو المال، ومعظمهم من الفقراء لديهم جوع إلى المال. لدى الفقراء فساد يفوق فساد الأغنياء.
وإذا جرّبنا في هذا البلد أن نجري فحصًا عميقًا لمشكلته خصوصًا من النّاحية الاقتصاديّة نجد أنّ الفساد في القاعدة كما في قمّة الهرم وهذا أمر لا يستحقّه لبنان، هو يستحقّ الشّعب الّذي نعرفه، شعب الحضارة الّذي جعله محطّ أنظار الغزاة والفاتحين الّذين نقول عنهم بأنّهم كانوا أغبياء لكنّهم في الحقيقة أذكى منّا لأنّهم قدّروا بلادنا أكثر منّا.
هذا الشّابّ الغنيّ هو مثال اللّبنانيّ الّذي يرى الوطن من خلال الدّولار، من خلال ما له من المال بغضّ النّظر عن الطّرق الّذي اعتمدها في الحصول عليه. إذا لم نعد بناء الذّات وبناء الإنسان وأوقفنا المنافسة العنيفة مع الآخرين بموضوع الحصول على المال، لا يمكن للبلد أن يشفى. القدّيس باسيليوس كان يقول "كم صرفنا من المال على زينة الحيطان وحولنا أناس لا يملكون لقمة يأكلونها". هذا الضّمير النّائم والمخدّر والغائب هو مصيبة بلدنا في المسؤولين وفي الشّعب على كافّة المستويات، وهذا لا يعني أنّه ليس لدينا أوادم الّذين هم خميرة لبنان، القدّيسون الّذين اختاروا أن يتبعوا الحقّ والعدل والتّجرّد والشّفافيّة. ليس هناك مؤسّسة في العالم تستطيع أن تقف على رجليها إذا لم تختر الشّفافيّة طريقًا ومسلكًا بها نهتدي، وإلّا كلّ هذا التّنافس على الدّخول في غابة الفساد ومنظومة الفساد يزيد على البلد الآمه وجراحه. القوّة ليست فقط أن نبقى في لبنان، وهذا مجد عظيم، لكن المهمّ أن نبقى أنقياء كالثّلج في لبنان، كأرز لبنان، كالجبال في لبنان تتعالى فوق كلّ الانقسامات وفوق كلّ الرّغبات بأن نختصر طرقات النّجاح ونبني نجاحنا على فشل إخوتنا. هذا النّجاح هو فشل بحدّ ذاته إذا بني على هدم الآخرين، وهذه طريقة مع الأسف تغزو اليوم مجتمعاتنا وبلدنا.
أنا أعتبر الموجودين معنا اليوم في القدّاس بركة لي، بالطّبع أنا عندي دور كراعٍ ولكن هذا لا يعني أنّي فوق النّاس، أنا من النّاس وأفرح وأفتخر أن أكون من النّاس. نحن اليوم في المطرانيّة نحاول أن نكون على مستوى الأزمة الّتي يعيشها إخوتنا في الأبرشيّة، من الضّروريّ جدًّا أن نحترم مشاعر بعضنا.
عام 1980 كنت طالبًا في الابتداء وأعرف أنّ دير عين الجوزة المجاور لكم كان محطّ أنظار التّلاميذ والرّهبان في ذلك الوقت الّذين كانوا يتمنّون أن يمضوا عطلتهم في عين الجوزة. أذكر جيّدًا أنّنا أمضينا شهرًا في الدّير وخدمنا القداديس في الرّعايا، وأذكر هذه الكنيسة كنيسة القدّيس يوحنّا في باب مارع وكنّا نفرح بمرافقة الكاهن لخدمة القداديس في مشغرة وعيتنيت وبلدات المنطقة حيث كان يخدم آباء الرّهبانيّة الباسيليّة المخلّصيّة العظيمة في خدمتها للكنيسة الملكيّة بنوع خاصّ والكنيسة الجامعة بنوع عامّ.
نحسدكم على هذه المنطقة ولكن بشكل إيجابيّ، ونحن فرحين لفرحكم لأنّكم أجمل منطقة في لبنان على الإطلاق، البقاع الغربيّ من أجمل المناطق اللّبنانيّة مع محبّتي لباقي المناطق اللّبنانيّة، صحيح أنّ منطقتكم بعيدة عن الخدمات لكن أنتم في وسط جمال الطّبيعة ومن الطّبيعيّ أن يكون أهل هذه البلدة مجبولين بالشّفافيّة والجمال لأنّ الحقّ والحبّ والجمال هم من صفات الله الأساسيّة.
أسأل الرّبّ أن يبارك البلدة أهاليها وأن تبقوا مجموعين عائلة واحدة مهما كثرت الصّعاب، أشكر المسؤولين في هذه البلدة على كلّ أتعابهم وأشجّع الشّبيبة على البقاء في هذا البلد الجميل."
بعد القدّاس، انتقل الجميع إلى صالون الكنيسة حيث ألقيت كلمات التّرحيب.