المطران ابراهيم: كيف نضبط أنفسنا أمام إدمان التّكنولوجيا؟
في نهاية الصّلاة، كان للأرشمندريت عبدالله عاصي كلمة ترحيب بالمطران ابراهيم، شدّد فيها على وحدة الرّعيّة والعمل الجدّيّ لبناء كنيسة جديدة للرّعيّة في كسارة.
وألقى المطران ابراهيم كلمة روحيّة بعنوان "الصّوم في عالم رقميّ: كيف نضبط أنفسنا أمام إدمان التّكنولوجيا؟"، جاء فيها :
"إنّ العالم الرّقميّ أصبح جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا اليوميّة، حيث تحوّل إلى مصدر معلومات، ترفيه، وتواصل. ومع ذلك، فإنّ هذا العالم الّذي يربطنا ببعضنا البعض قد يكون أيضًا سببًا في عزلتنا الرّوحيّة، وانفصالنا عن الله والآخرين. في زمن الصّوم، نحن مدعوّون إلى إعادة تقييم علاقتنا بالتّكنولوجيا، والتّحرّر من الإدمان الرّقميّ الّذي يستنزف طاقتنا ويشوّش أفكارنا. فكيف يمكننا استخدام التّكنولوجيا بطريقة متّزنة دون أن تسيطر علينا؟ وكيف يمكن للصّوم أن يكون وسيلة لضبط أنفسنا أمام هذه التّحدّيات؟".
وتطرّق ابراهيم إلى :أثر الإدمان الرّقميّ على الحياة الرّوحيّة"، وقال: "إنّ الإدمان على الشّاشات، سواء عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، الألعاب الإلكترونيّة، أو حتّى التّصفّح المستمرّ، يؤدّي إلى تشتيت الذّهن وإضعاف القدرة على التّركيز والتّأمّل. يقول النّبيّ داود: "تَوَجَّهْتُ إِلَى الرَّبِّ فَأَنْقَذَنِي وَمِنْ كُلِّ مَخَاوِفِي نَجَّانِي" (مزمور 34:4). ولكن كيف يمكننا أن نتوجّه إلى الله بينما نغرق في بحر من التّنبيهات والإشعارات الّتي تشتّت انتباهنا؟
يقول البابا فرنسيس: "إنّ العالم الرّقميّ يمكن أن يصبح سجنًا إذا لم نستخدمه بحكمة". في الحقيقة، التّكنولوجيا ليست سيّئة في حدّ ذاتها، لكنّها تصبح مشكلة عندما تتحوّل إلى مصدر إدمان يأخذ الأولويّة في حياتنا على حساب الصّلاة والتّواصل الحقيقيّ مع الآخرين.
كيف يمكن للصّوم أن يساعدنا في ضبط علاقتنا بالتّكنولوجيا أو كيف يمكننا أن نحقّق ونعيش الصّوم الرّقميّ؟
1. تخصيص وقت للصّمت والتّأمّل: إنّ العالم الرّقميّ مليء بالضّوضاء الّتي تجعلنا غير قادرين على سماع صوت الله في حياتنا. الصّوم هو فرصة لإعادة اكتشاف قيمة الصّمت، والبحث عن لحظات من الهدوء بعيدًا عن الأجهزة الإلكترونيّة.
2. تحديد أوقات محدّدة لاستخدام التّكنولوجيا: من المفيد أن نضع قواعد لاستخدام وسائل التّواصل الاجتماعيّ، مثل تجنّبها في الصّباح الباكر وقبل النّوم، أو تخصيص يوم في الأسبوع للابتعاد عن الشّاشات، ما يساعدنا على إعادة توجيه انتباهنا نحو الأمور الرّوحيّة.
3. الإستعاضة عن الوقت الضّائع في التّصفّح العشوائيّ بأنشطة روحيّة: بدلًا من قضاء ساعات أمام الشّاشة بلا هدف، يمكننا استغلال هذا الوقت في قراءة الكتاب المقدّس، الصّلاة، أو حتّى التّواصل الحقيقيّ مع العائلة والأصدقاء.
4. التّخلّص من المحتوى الّذي يبعدنا عن الله: من المهمّ مراجعة ما نتابعه عبر الإنترنت، والتّأكّد من أنّ المحتوى الّذي نستهلكه يغذّي أرواحنا بدلًا من أن يملأها بالفراغ.
5. إستخدام التّكنولوجيا لخدمة الله: يمكننا أن نحوّل التّكنولوجيا من أداة تشتيت إلى وسيلة للتّبشير، من خلال مشاركة رسائل إيجابيّة، أو الاستفادة من التّطبيقات الرّوحيّة الّتي تساعدنا على الصّلاة والتّأمّل.
أيّها الأحبّاء، هذه النّقاط الخمس تساعدنا على ترويض استعمالنا للتّكنولوجيا وتدعونا للتّأمّل بالحرّيّة الرّقميّة والضّبط الذّاتيّ:
يقول بولس الرّسول: "كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوافِقُ أو تنفع. كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لَكِنْ لاَ يَتَسَلَّطُ عَلَيَّ شَيْءٌ" (1 كورنثوس 12:6). هذا يعني أنّ الحرّيّة الحقيقيّة لا تكمن في الانغماس بلا حدود في العالم الرّقميّ، بل في ضبط النّفس والقدرة على استخدام التّكنولوجيا بطريقة متوازنة دون أن تصبح إدمانًا.
القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ يقول: "ما نمتلكه يجب أن يكون في خدمتنا، لا أن نكون نحن عبيدًا له". وهذا ينطبق تمامًا على التّكنولوجيا، حيث ينبغي أن نكون نحن المتحكّمين في استخدامها، لا أن تكون هي المتحكّمة فينا.
إليكم واستنادًا على ما سبق مثلًا من حياة القدّيسين في ممارسة العزلة لتنمية وتقوية الحياة الرّوحيّة: ففي حين أنّ التّكنولوجيا لم تكن موجودة في زمن القدّيسين، إلّا أنّ مفهوم العزلة الرّوحيّة كان دائمًا حاضرًا في حياتهم. القدّيس أنطونيوس الكبير ترك العالم وانعزل في البرّيّة ليجد الله في الصّمت. اليوم، يمكننا أن نأخذ مثالًا منه ونخصّص أوقاتًا يوميّة نبتعد فيها عن الإنترنت لنبحث عن الله في قلوبنا. علينا إلغاء متابعة الحسابات الّتي تسبب لنا القلق أو تثير فينا المقارنات غير الصّحّيّة. كما علينا العودة إلى الكتاب الورقيّ بدلًا من الاعتماد على القراءة الرّقميّة. ولنحاول الالتقاء بالأصدقاء وجهًا لوجه بدلًا من التّواصل الافتراضيّ فقط.
الحياة الافتراضيّة خطيرة للغاية: إليكم بعض الوجوه الخطيرة للحياة الافتراضيّة:
في عصرنا الرّاهن، حيث تتسارع الخطى نحو الرّقمنة والانغماس العميق في العوالم الافتراضيّة، بات الإنسان يعيش بين واقعين: واقع ملموس يلامسه بحواسه، وآخر رقميّ يصنعه بإرادته أو يُفرض عليه بانجذابه. ولئن كان التّطوّر التّكنولوجيّ قد وفّر للإنسان إمكانيّات غير مسبوقة في التّواصل والتّعلّم والتّرفيه، فإنّ لهذا التّحوّل انعكاسات عميقة على بُنية الإنسان النّفسيّة والاجتماعيّة والرّوحيّة.
إنّ من أخطر ما تسبّبه الحياة الافتراضيّة هو اغتراب الإنسان عن نفسه. فحين يكثر التّفاعل مع الشّاشات والأ avatars والهوّيات المصطنعة، يفقد الإنسان علاقته العضويّة بذاته الحقيقيّة، ويبدأ في الانصهار في صورةٍ رقميّة يرغب في أن يراها الآخرون، لا في ما هو عليه حقًّا. هذا الانفصام بين "الذّات الرّقميّة" و"الذّات الواقعيّة" يولّد حالة من القلق والضّياع الدّاخليّ، لاسيّما عند فئة المراهقين والشّباب.
لقد أصبحت اللّقاءات العائليّة مناسبات نادرة، والصّداقة الحقيقيّة مهدّدة، والمحادثات المباشرة تفسح المجال للرّسائل النّصّيّة والصّور الرّمزيّة. ومع أنّ العالم الافتراضيّ يوفّر إمكانيّة للتّواصل، فإنّه يفتقر إلى حرارة الحضور الإنسانيّ، إلى لغة الجسد، إلى نظرة العين، إلى نبرة الصّوت الّتي تُغني عن ألف كلمة. وهذا ما يُضعف أواصر العلاقات، ويجعلها سطحيّة، سريعة الزّوال.
لقد أثبتت دراسات علميّة حديثة أنّ الإدمان على استخدام الأجهزة الذّكيّة ومواقع التّواصل الاجتماعيّ يُفعّل في الدّماغ البشريّ مناطق مشابهة لتلك المرتبطة بإدمان المخدّرات. وهذا يُنبئ بخطر داهم على الصّحّة العقليّة، ويؤدّي إلى التّوتّر، والأرق، وانخفاض معدّل التّركيز، والشّعور الدّائم بالتّشتّت والملل، فضلًا عن ضعف الأداء المدرسيّ والمهنيّ.
ففي الحياة الافتراضيّة، يسهل ترويج الأكاذيب وتزييف الوقائع، عبر صور معدّلة، وأخبار مفبركة، ومقاطع مصوّرة خارجة عن سياقها. وهكذا، يصبح من العسير على الفرد أن يميّز الحقيقة من الزّيف، وأن يبني موقفًا أخلاقيًّا أو فكريًّا سليمًا، في خضمّ سيل المعلومات المتضاربة والموجّهة أحيانًا لأغراض خبيثة.
من أخطر ما يُصيب الإنسان نتيجة انغماسه في الحياة الافتراضيّة هو الانشغال المستمرّ عن التّأمّل، وعن الصّلاة، وعن الصّمت الّذي يُنبت المعنى في القلب. فمع انهماك الإنسان في "اللّا توقّف"، يفقد قدرته على التّوقّف أمام الله، وأمام ذاته، وأمام الآخرين. وتصبح الرّوح جافّة، مترهّلة، تبحث عن السّكون فلا تجده إلّا في ضوضاء الشّاشة.
إنّ العالم الافتراضيّ ليس شرًّا في ذاته، بل أداة بيد الإنسان، يستطيع أن يجعل منها جسرًا للحوار، ووسيلة للمعرفة، ومنبرًا للحقّ. لكنّ الأمر يتطلّب وعيًا تربويًّا وروحيًّا وأخلاقيًّا، يضع حدودًا للاستخدام، ويُعيد للإنسان حسّه بالزّمن، وبالحضور، وبالمعنى. وحده التّوازن الحكيم بين الواقع الرّقميّ والواقع الحيّ كفيل بأن يُعيد للإنسان وجهه الإنسانيّ، وأن يحفظه من التّفتّت، ويقوده إلى حياة أصيلة، حقيقيّة، مليئة بالحبّ، والنّموّ، والسّلام.
في الختام: الصّوم هو دعوة لتحرير النّفس من كلّ ما يبعدها عن الله، والتّكنولوجيا ليست استثناءً من ذلك. فبدلًا من أن نكون مستهلِكين لها بلا وعي، يمكننا أن نجعلها وسيلة تخدم علاقتنا مع الله والآخرين. لنسأل أنفسنا في هذا الزّمن المقدّس: هل أنا سيّد على أجهزتي الإلكترونيّة، أم أنّها أصبحت سيّدة عليّ؟ هل أستخدم التّكنولوجيا بطريقة متّزنة تخدم حياتي الرّوحّية، أم أنّها تأخذني بعيدًا عنِ الله؟ إن كنّا نريد أن نعيش الصّوم بشكل حقيقيّ، فلنبدأ بخطوة صغيرة نحو الحرّيّة الرّقميّة، ولنجعل هذا الزّمن فرصة لإعادة ترتيب أولويّاتنا. آمين."