المطران ابراهيم في عيد مار يوسف: ليكن لنا هذا الصّامت العظيم معلّمًا في زمن الضّوضاء
بعد الإنجيل المقدّس، أضاء ابراهيم في عظته على فضائل القدّيس يوسف قائلًا:" نحتفل اليوم بعيد القدّيس يوسف شفيع هذه الكنيسة المباركة المقدّسة، الإنسان الصّامت العظيم، رجل العدل، وحارس الفادي، والّذي لم يسطع اسمه في الكتب ولا رفعت له الشّعارات، لكنّه كان عمودًا من أعمدة الخلاص الإلهيّ، إذ وضع الله بين يديه أعظم وديعة، يسوع المسيح، وربّى العذراء نفسها تحت جناحيه في صمت الطّاعة والثّقة.
مار يوسف هو علامة للصّبر والثّبات في زمن القلق والاضطراب.
في عالمنا اليوم، بات الصّبر عملة نادرة، والتّحمّل فضيلة مفقودة، والثّبات في وجه العواصف أمرًا لا يقدر عليه الكثيرون. نرى كلّ شيء يتحرّك بسرعة، نطلب النّتائج الفوريّة، ونثور على أدنى تأخير أو صعوبة. ولكن لننظر إلى القدّيس يوسف، ذاك الرّجل الّذي لم يسأل، ولم يحتجّ، ولم يتذمّر، بل عاش حياته في تسليم كامل لمشيئة الله.
عندما وجد أنّ العذراء حبلى دون أن يعلم السّرّ الإلهيّ، لم يلجأ إلى الغضب أو التّسرّع، بل فكّر بصمت واتّخذ القرار الّذي يمليه عليه ضميره، إلى أن جاءه ملاك الرّبّ في الحلم وكشف له سرّ التّجسّد العجيب. وهنا نتعلّم أنّ الصّبر ليس مجرّد احتمال الظّروف الصّعبة، بل هو إصغاء لله في وقت الحيرة والضّيق، هو التّريّث حتّى ينكشف لنا نور السّماء وسط ظلام الشّكوك.
مار يوسف هو رجل العمل في الخفاء.
كم نحن اليوم نبحث عن الأضواء، نريد التّقدير، وننتظر الشّكر على كلّ عمل نقوم به! لكن القدّيس يوسف لم يكن كذلك، فهو عمل بصمت في ورشته، لم يطلب مجدًا لنفسه، بل كان كلّ همّه أن يهيّئ البيت والخبز ليسوع ومريم. لم يسأل عن دوره ولم يشكُ من الظّلم، بل قبل أن يكون خلف المشهد، يعمل بأمانة دون أن ينتظر الاعتراف بفضله.
وهنا نسأل أنفسنا: أين نحن من هذا النّموذج؟ كم مرّة نرفض القيام بعمل إن لم يكن لنا فيه تقدير أو مكافأة؟ كم مرّة نتضايق إذا لم يعرف الآخرون حجم تضحياتنا؟ لكن الله لا ينظر إلى الأضواء الخارجيّة، بل يرى الأمانة في الخفاء، وهو الّذي يكافئ في العلن.
مار يوسف هو رجل الطّاعة والثّقة بالله.
لا نسمع القدّيس يوسف يتكلّم في الإنجيل، لكنّه يتحدّث من خلال أعماله. يأمره الملاك أن يأخذ الطّفل وأمّه إلى مصر، فيطيع فورًا دون تردّد. يأمره بالعودة إلى أرض إسرائيل، فيعود بلا اعتراض.
كم مرّة نجد أنفسنا عاجزين عن الطّاعة لله؟ نريد أن نفهم كلّ شيء قبل أن نتحرّك، نطلب الضّمانات، نريد أن نعرف النّهاية قبل أن نخطو الخطوة الأولى. لكن مار يوسف يعلّمنا أنّ الإيمان ليس رؤية كلّ الطّريق، بل السّير في الظّلام بثقة بأنّ الله يقودنا.
مار يوسف هو أبٌ في زمن اليُتم الرّوحيّ.
نعيش اليوم في عالم يعاني من الاضطراب، من التّشتّت، من الضّياع الرّوحيّ، وكأنّنا أيتام نفتقر إلى الإرشاد الأبويّ. في ظلّ هذا الواقع، يقدّم لنا مار يوسف نموذج الأب الحقيقيّ، ليس الأب الّذي يفرض سلطته، بل الّذي يحمي بحنانه، يوجّه بصمته، ويضحّي من أجل أبنائه دون ضجيج.
كم نحن بحاجة اليوم إلى آباء مثل يوسف، في عائلاتنا، في مجتمعنا، في كنيستنا! آباء لا يبحثون عن راحتهم بل عن خلاص أبنائهم، آباء يعلّمون أولادهم بالقدوة لا بالكلام فقط، آباء يتعبون من أجل أن يعيش الآخرون بأمان.
المشهد اللّيلة هو أهمّ من كلّ الكلام، وجودكم في هذه الكنيسة هو الأهمّ. لا أدري لماذا لا تستعملونها كلّ أحد؟ ماذا تريدون أجمل من هذه الكنيسة؟ لماذا لا تملؤونها كلّ أحد؟ لماذا فقط في يوم العيد؟ كنيستكم من أجمل الكنائس الموجودة في زحلة، لديها هذا الموقع الرّائع جدًّا وفيها الإيقونوستاس الّذي يتكلّم وفيها مذبح واسع لا يوجد مثيل له حتّى في الكاتدرائيّة. هنئيًا لكم بهذه الكنيسة، يجب أن تستعملوها في كلّ أحد وفي كلّ قدّاس وكلّ مناسبة، لا أن تستعملوها كقاعة لا للأعراس ولا للجنانيز ولا لأيّ شيء آخر، هذه الكنيسة يجب أن تبقى كنيسة، تدبّروا أموركم في باقي القضايا، اعملوا على الحفاظ على هذه الكنيسة. لو لم يكن هناك سبب مهمّ جدًّا أن تبنى هذه الكنيسة لما كانت بنيت، ولو لم يرد الله أن تتعمّر في أصعب الظّروف لم تكن لتتعمّر. بنيت في أصعب الظّروف وكان هناك إرادة قويّة لتتعمّر، لماذا تغيّرون هذه الإرادة؟ سواء كانت إرادة الله أو إرادة الكنيسة. لا تتخلّوا عن هذه الكنيسة الرّائعة، بالطّبع الكنيسة القديمة قامت بالواجب وهي رائعة أيضًا لكن هذه الكنيسة شرحة وواسعة وجميلة وتليق بهكذا جماعة مؤمنة.
إذا نظرنا إلى حياتنا بصدق، سنجد أنّنا نفتقر إلى الكثير من صفات هذا القدّيس العظيم. نفتقر إلى الصّبر حين تواجهنا الصّعوبات، نفتقر إلى الأمانة في عملنا حين لا يكون هناك من يراقبنا، نفتقر إلى الطّاعة حين لا نفهم مقاصد الله. نحن نعيش في عالم يعجّ بالكلام، بينما مار يوسف عاش في صمت مليء بالحكمة. نحن نبحث عن الرّاحة، بينما هو اختار التّعب من أجل يسوع ومريم.
فلنطلب اليوم من الرّبّ، بشفاعة مار يوسف، أن يمنحنا قلبًا صبورًا، ويدين أمينتين، وروحًا واثقة لا تخاف من المجهول، بل تتّكل على الله الّذي يقود كلّ شيء بحكمته. وليكن لنا هذا الصّامت العظيم معلّمًا في زمن الضّوضاء، ومرشدًا في وقت الحيرة، وعونًا حين تخور قوانا. آمين."