لبنان
20 آذار 2025, 10:30

المطران إبراهيم من مار يوسف- حوش الأمراء: التّجربة ليست ضعفًا، بل فرصة لنثبت محبّتنا وولاءنا لله

تيلي لوميار/ نورسات
يواصل رئيس أساقفة الفرزل وزحلة والبقاع للرّوم الملكيّين الكاثوليك المطران ابراهيم زياراته لرعايا زحلة في زمن الصّوم المقدّس، ومحطّته السّادسة كانت في كنيسة مار يوسف حوش الأمراء حيث شارك في صلاة النوم الكبرى بمشاركة كاهني الرّعيّة الأرشمندريت أنطوان سعد والأب أنطوني أبو رجيلي وأهالي الرّعيّة.

وألقى المطران ابراهيم في نهاية الصّلاة كلمة روحيّة بعنوان "التّجربة والانتصار: دروس من المسيح في البرّيّة"، توجّه فيها بالمعايدة إلى المحتفلين بعيد القدّيس يوسف شفيع الكنيسة وقال:

"أوّلًا أودّ أن أعايدكم بعيد القدّيس يوسف شفيع كنيستكم المقدّسة وسوف أحدّثكم اليوم عن: "التّجربة والانتصار: دروس من المسيح في البرّيّة".

إنّ الصّوم هو زمن التّأمّل في تجربة المسيح في البرّيّة، حيث واجه الشّيطان وصمد في وجهه بثبات روحيّ عميق. إنّ هذه القصّة ليست مجرّد حدث تاريخيّ، بل هي رمز للصّراع الرّوحيّ الّذي يعيشه كلّ مؤمن في حياته. كيف يمكننا أن نستلهم من تجربة المسيح دروسًا لمواجهة تحدّياتنا اليوميّة؟ وكيف يمكننا أن ننتصر كما انتصر هو؟

المسيح دخل البرّيّة بعد أن اعتمد في نهر الأردنّ، وكأنّه يُظهر لنا أنّ الحياة الرّوحيّة الحقيقيّة لا تكتمل دون المرور في أوقات التّجربة والاختبار. في إنجيل متّى، نقرأ: "ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ مِنَ الرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ" (متّى 1:4). هذه الرّحلة لم تكن مجرّد معركة بين المسيح والشّيطان، بل كانت درسًا لكلّ مؤمن حول كيف يمكن للصّوم والصّلاة أن يعزّزا مناعته الرّوحيّة.

التّجربة الأولى الّتي تعرّض لها المسيح كانت مرتبطة بالجوع: "إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ، فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هَذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا" (متّى 3:4). هذه التّجربة تعكس حاجة الإنسان الماسّة إلى الطّعام، لكنّها تكشف أيضًا عن خطر تحويل حاجات الجسد إلى أولويّة مطلقة. المسيح أجاب الشّيطان قائلًا: "لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الْإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ" (متّى 4:4). هنا يعلّمنا المسيح أنّ الحياة الحقيقيّة ليست مجرّد إشباع للحاجات المادّيّة، بل هي علاقة حقيقيّة بالله.

أمّا التّجربة الثّانية فكانت تتعلّق بالغطرسة والتّجربة المباشرة لله: "إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ، فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلَ" (متّى 6:4). الشّيطان حاول أن يغري المسيح بإثبات ألوهيّته من خلال استعراض خارق للطّبيعة. لكن المسيح رفض، قائلًا: "لَا تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلَهَكَ" (متّى 7:4). هذا يعلّمنا أنّ الإيمان الحقيقيّ لا يحتاج إلى اختبارات حسّيّة، بل يعتمد على الثّقة العمياء بمحبّة الله ورعايته.

التّجربة الثّالثة كانت أخطرها، إذ عرض الشّيطان على المسيح سلطان العالم مقابل السّجود له: "أُعْطِيكَ هَذِهِ جَمِيعَهَا، إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي" (متّى 9:4). هذه التّجربة تلخّص جوهر المعركة الرّوحيّة بين الإنسان والشّيطان: هل نعبد الله وحده أم نَجري وراء مجد زائل؟ المسيح كان حاسمًا، قائلًا: "اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ، لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلَهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ" (متّى 10:4).

هذه التّجارب الثّلاث تلخّص أنواع الإغراءات الّتي نواجهها يوميًّا: الجوع إلى الأمور المادّيّة، البحث عن تأكيد الذّات، والإغراء بالسّلطة والمجد. هذه التّجارب الثّلاث هي مثلّث برمودا المُجربين. لكن المسيح يعلّمنا أنّ الانتصار لا يتحقّق إلّا من خلال الصّوم، والصّلاة، والاعتماد الكلّيّ على كلمة الله.

القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ يقول: "إذا كنتَ تصوم ولكنّك لا تصلّي، فأنت فقط تغيّر نظامك الغذائيّ، لكن إذا كنت تصوم وتصلّي، فإنّك تدخل في حرب روحيّة حقيقيّة". الصّوم ليس مجرّد انقطاع عن الطّعام، بل هو انقطاع عن كلّ ما يبعدنا عن الله، هو تدريب روحيّ يجعلنا أكثر قدرة على مقاومة التّجربة.

لكن كيف يمكننا أن نطبّق هذا الدّرس في حياتنا اليوميّة؟ كيف نواجه مثلّث برمودا التّجارب. الجواب يأتي من مثلّث النّجاة الرّوحيّة: الصّلاة اليوميّة وضبط النّفس والتّواضع:

الصّلاة اليوميّة: المسيح واجه الشّيطان بكلمة الله، ونحن مدعوّون للتّمسّك بالصّلاة كوسيلة لمواجهة التّحدّيات.

ضبط النّفس: التّجربة الأولى كانت حول الجوع، والصّوم يساعدنا على تدريب إرادتنا لتكون خاضعة لله لا لرغباتنا.

التّواضع: لا يجب أن نبحث عن مظاهر دينيّة خارجيّة لنثبت إيماننا، بل أن نعيش علاقة صادقة مع الله.

ونزيدُ على مثلّث النّجاة موقف إضافيّ يقوم على رفض الإغراءات السّهلة: فكما رفض المسيح المجد السّريع، نحن أيضًا مدعوّون لرفض الطّرق المختصرة الّتي تبعدنا عن الإيمان الحقيقيّ.

ففي عالم يركض بلا هوادة نحو الشّهرة والنّجاح، يبدو المجد السّريع كأنّه النّعمة الكبرى، لكنّه في حقيقته فخٌ قاتل مغلف بالبريق. هو وهجٌ يأخذ الأبصار، لكنّه لا يمنح البصيرة، وصعودٌ مدهش، لكنّه هشّ، يحمل في طيّاته بذور سقوط محتوم. فحين يكون المجد خاطفًا، يأتي كالعاصفة، يرفع الإنسان عاليًا دون أن يمنحه جذورًا، ثمّ يلقي به في هاوية لا خروج منها.

المجد الحقيقيّ يشبه نهرًا هادئًا يتغلغل في الأرض ويترك أثره العميق، بينما المجد السّريع أشبه بشعلة بارقة في ليلٍ معتم، تحترق سريعًا وتختفي، تاركةً خلفها ظلامًا أشدّ كثافة. النّجاح القائم على الفرص العابرة والشّهرة الزّائفة لا يصمد أمام الزّمن، بل ينهار عند أوّل اختبار، لأنّ جذوره لم تُروَ بعرق الجهد ولا سُقيت بماء التّجربة.

المجد السّريع يعطي صاحبه انطباعًا بالقوّة، لكنّه في الحقيقة يجعله هشًّا، مثل شجرة عملاقة بجذور ضحلة؛ أوّل ريحٍ تعصف بها تقتلعها من أساسها. فالّذي يصل إلى القمّة دون أن يتعلّم كيف يبنيها، لن يعرف كيف يحافظ عليها. وسرعان ما يجد نفسه ضائعًا بين تصفيق الجماهير اليوم وصمتهم غدًا.

من يصل إلى المجد بسرعة يُصاب بلعنة الغرور، ظنًّا منه أنّه خالد، وأنّه وصل إلى ما لم يصل إليه غيره، لكن الزّمن لا يرحم من يغترّ بنفسه. كم من مشاهير سقطوا في مستنقع النّسيان بعدما تلاشت شهرتهم كأنّها لم تكن! وكم من أصحاب النّفوذ وجدوا أنفسهم معزولين حين تبدّد مجدهم كما يتبدّد الضّباب في وهج الشّمس؟

المجد السّريع يشبه السّجن الذّهبيّ؛ يُبهج صاحبه ظاهريًّا لكنّه يسلبه حرّيّته وسكينته. العيون المسلّطة عليه لا تمنحه حُبًّا، بل رقابة، والهتافات حوله ليست دعمًا، بل عبءًا. كم من نجومٍ عالميّين انتهت حياتهم في العزلة والاكتئاب، لأنّهم لم يتحمّلوا ضريبة الشّهرة الخاطفة؟ المجد الّذي لا يُبنى على أساسٍ صلب يترك صاحبه فارغًا من الدّاخل، يبحث عن ذاته وسط الضّجيج ولا يجدها.

في عالمٍ لا يرحم، المجد السّريع ليس نعمة، بل لعبة، والمجتمع لا يحفظ أسماء من صعدوا فجأة، بل ينتظر ليشاهد سقوطهم. كلّما كان الصّعود أسرع، كان السّقوط أشدّ إيلامًا. والعالم لا يعرف الوفاء لأولئك الّذين بنوا مجدهم على الرّمال، بل يستبدلهم بوجوه جديدة دون أن يرفّ له جفن.

ليس المجد في الوصول، بل في كيفيّة الوصول. المجد الحقيقيّ يحتاج إلى صبر، إلى عملٍ دؤوب، إلى نضجٍ حقيقيّ. لا تركض نحو مجدٍ يخطفك كنيزك، بل أبنِ مجدًا يشبه الجبال؛ صلبًا، ثابتًا، لا تهزّه رياح التّغيير. فالسّعادة ليست في سرعة الوصول، بل في الطّريق الّذي نُعبِّده بخطى ثابتة وإرادة صادقة.

في الختام فلنتذكّر أنّ التّجربة ليست ضعفًا، بل هي فرصة لنُثبّت محبّتنا وولاءنا لله. الصّوم هو زمن مواجهة حقيقيّة مع أنفسنا، حيث ندرك نقاط ضعفنا ونعمل على تقويتها بنعمة الله. لنتذكّر أنّ المسيح انتصر، ونحن أيضًا قادرون على الانتصار إذا تمسّكنا بكلمة الله وصمنا بقلوب ممتلئة بالإيمان. فهل نحن مستعدّون لدخول البرّيّة  الرّوحيّة لنخرج منها أقوى في الإيمان؟ آمين."

بعد الصّلاة، انتقل الحضور إلى صالون الكنيسة حيث تبادلوا التّهاني بعيد القدّيس يوسف.